ثقافة وفن

الحرب والحصار والتجريب الفني

عدنان يحيى من التعبيرية الى السريالية

بشرى بن فاطمة


“كأنه فيلم حربي سيء الإخراج لكثرة المبالغة فيه وكأن الطبيعة أصيبت بالجنون”، كانت تلك المفردات التي استعملتها غادة السمان في “كوابيس بيروت” لوصف حالة الهلع اللامعقولة، ميتافيزيقا الحرب التي عايشتها في بيروت ذات حصار وحالت بينها وبين لغتها وأثارت فيها تساؤلات الوجود بين الموت هلعا والموت انتصارا لفكرة الحياة لا أقل ولا أكثر، ولعل هذه المفارقة طرقت أبوابها حينها وأسكنتها جدليات البحث البسيط عن الوجود، التماهي أبعد في فكرة المعايشة والانقضاض على الفكرة مجدّدا وتفكيكها وكأنها حدث عابر تسرده أبعد في الزمن بعد النجاة، وهي المفارقة التي تعيد الطرق نفسه اليوم على المشهد الذي نراه في غزة بعد العدوان العسكري الهمجي والإرهاب الدولي الذي يقع على الإنسانية هناك في المشاهد الأكثر بشاعة من كوابيس بيروت والأكثر ظلما في صمت العالم والأكثر بحثا عن النجاة ليس اثباتا للوجود ولكن اثباتا للحياة نفسها فلم تكن وقتها غادة السمان وحدها من عبّر عن تلك البشاعة بتصوراتها الأولى والناضجة كمعايشة وذاكرة، نجد محمود درويش بالإضافة إلى التشكيليين الذين عايشوا المشاهد أيضا بعيون ترى وأخرى تشاهد.
وهنا نطرح التساؤل نفسه الذي كان في ذلك الوقت حيث يتغيّر المكان ولا يتغيّر العدو، هل هذا وقت الكتابة والفن وإذا كان فعلا أين الفنان والكاتب والمفكر والمثقف من كل هذا؟ أليست اللحظة حقيقية التعبير ومُلحة الغاية والهدف والرسالة في خلق تبعات المشهد والركض به إلى العالم، والتعبير والابتكار والبحث عن منافذ النجاة من كل ذلك الزخم المتراكم في تفكيك مفاهيم الموت بين الصرخة والقهر.
خاصة وأن النزيف لم يوقف الرسامين والمصورين والكتاب والشعراء ولم تكن كثافة التعبير الا انحسار معنى في مجاز الواقع والوجع والقهر وانطباعات تعكس متنفّسا لمواجهة الألم الممزوج بالمؤامرة، فبين الافراط في العاطفة والمبالغة في الانطباع تحوّلت صرخة ادفار مونتش إلى صرخة غزة للعالم بما تحمله من تساؤلات خارقة لهذا المدى من الصمم الأعمى في العقول والأذهان أمام كل هذا الموت.
هل كل هذا الموت مجرّد انتقالات فكرية ذهنية حسية ثقافية إنسانية قادرة على خلق مشهد تعبيري جديد وتحتاج فترة انغماس وجدانية في تبعاتها الكثيفة وتفكيك آخر يعاود تسلسله الإنساني كما حدث فعلا مع بيروت وحصار بيروت وانتفاضة فلسطين الأولى والثانية ومجازر جنين وقانا واختلاط الدماء والموت بين لبنان وفلسطين وتبعات المأساة بين تشريد وتهجير وظلم خاصة وأن هذه التبعات أثّرت على التشكيليين في تلك الفترات الزمنية بسوداويتها التي تبناها الكتاب والتشكيليون وهنا نقع على تجربة التشكيلي الفلسطيني عدنان يحيى.
حمل عدنان يحيى القضية الفلسطينية من زوايا أخرى تعامل معها على أساس أنها “الهم الإنساني” إلى آخر لحظة من عمره ليؤسّس مسارا تشكيليا مختلف الرؤى كئيب الجماليات حقيقيّ المعاناة عميق التساؤلات التي تكاد تعيد نفسها لو تأملناها لوجدناها لا تختلف عن المشهد الذي نشاهده من غزّة.
فقد حقّق يحيى تحوّلا بالفن الفلسطيني من فكرة الهوية والرمز والعلامات المعروفة إلى الإنسانية فكانت تجربته ملفتة للحواس ومثيرة سواء في الكتابة أو في التشكيل او المشهد الدرامي والسينمائي والفتوغرافية وتفاصيله السيميائية والعلامات التعبيرية التي شكّلت مراحله البصرية مجتمعة في رؤى بصرية تشكيلية، عكس نضجها الفني، فكانت سمة المشهد اليومي الفلسطيني بمثابة أيقونات تعبيرية جديدة اشتغل عليها يحيى، متعايشا ومفكّرا حتى أنه منح المتلقي فضول البحث دون صدمه بل أحاطه بذلك الاستعداد النفسي والحسي والذهني للفهم البصري الذي تجاوز معه السطحية الحسية المبنية على التعاطف فقط بل تعاطى معها من زوايا أخرى غير تلك التي كان يراها في وسائل الاعلام.
وهنا نقع على مدى تأثير الحروب على الانسان الفنان ودرجة انفعالاته الحسية في لحظتها وانفعالاته الوجودية بعدها ورسالته الفنية والإنسانية في مرحلة الانطباع الأولي ومرحلة النضج الإنساني العميق وهي التوليفة التي مكّنت يحيى من رسم مساره التشكيلي الفلسطيني دون أن يبالغ في إثبات فلسطينيته.
وهو ما يحيلنا بصريا وبالحديث عن الحروب وتفاصيل العنف القذر واللاانساني كتلك التي شكّلها عدنان يحيى إلى فكرة التجريب العالمي التي قدّمها هيرمن نيتش وما شكّله من رؤى دموية وتفاعلات ذهنية وصدمات تجريبية لم تقف عند التشكيل بل تجاوزتها نحو الأداء والتعبير الممسرح لرؤى الظلام الذي تسبّبه الحروب، وهي تجربة لا يمكن الا التوقف عندها لأنها كانت نتاج معايشات دموية في الحرب العالمية الثانية وما تسبّبت فيه النازية بدمويتها اللامعقولة وتفاصيل العنصرية واختراق الطبيعة البشرية فقد اشتغل نيتش على تأجيجها بعنف أخرجه إلى المتلقي وهو ما حاول عدنان يحيى أن يعيد فيه منطلقاته في المشاهدة والتجسيد على اللوحة والبحث أبعد فيها عن رسائلها الخالدة.
ولعل الامر المختلف بين التصور البصري الذي اختاره نيتش لا يمكن أن نجد له نظيرا بصريا في التجريب العربي لأنه صادم وصدامي وربما يختلف الموضع التعبيري فيه والدرجات الاستيعابية لمداه الوقح والجريء في تجسيد وقاحة الحرب أيضا، ولكن فكرة اتباع المنهج الدلالي للفكرة الدموية وتبعاتها الحسية من حيث التعبير بالفكرة واستنتاج المشهد العام للصورة في تجربة التشكيلي عدنان يحيى حملت مبالغة في التعبيرية وتوجه أكثر نحو السريالية وهي سمات بصرية برع فيها يحيى بتفعيلات حسية وبصرية وتكامل جمالي يكاد يستنطق الواقع ويتماهى مع أوجاعه حسيا وذهنيا وبصريا.
إن الاعمال المختلفة التي نراها وتعبر من مفاهيمها الصارخة من غزة إلى العالم فتنسكب بشكل حسي له منافذه الصارخة وجعا حيث توثّق اللحظة باللحظة وهي رسالة أكثر دلالية للعالم لا تقف عند تلك اللحظة بل توجّه أنظار العالم نحو الفكرة بالفكرة نفسها حتى تتكامل وتنطق حسيا وبصريا لذلك دموية الحرب على غزة حملت تحولات رؤيوية وفلسفة إنسانية متفرّدة للتشكيلي العربي ستكون لها تبعاتها القادمة على المشاهد البصرية في التصورات التشكيلية العربية والمشهد التشكيلي الفلسطيني.

*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق