سياسة

عودَّة رئيس الوزراء … هل تُحقِّق التوافُق السياسي الوطني؟

د. الواثق كمير

كنت قد وجهت رسالةً مفتوحةً (إلى رئيس الوزراء: كلمة المرور للعبور!)، في أغسطس 2019، قبل تكوين حكومته الأولى، مفادها أنَّ كلمة السر لضمان نجاحه في قيادة الفترة الانتقالية مرهون بأمرين متلازمين، أولهما: خلق أكبر قدر من التوافق/الوفاق/الرضا السياسي-المجتمعي، وثانيهما: توفير قيادة حقيقية لعملية الانتقال السلمي للسلطة، تتضمن خارطة طريق واضحة، وابتداع آلية تضمن التفاف غالب القوى والسياسية والمجتمعية حول برنامج حكومته، حتى ترسو سفنها على بَرٍ آمنٍ.

منذ ذلك التاريخ، تدفقت مياهٌ كثيرةٌ تحت الجسر، ومن فوقه، أفضت إلى المشهدِ الراهنِ بعد عودة رئيس الوزراء لموقعه، في أعقاب انقلاب فَضِ الشراكة (25 أكتوبر) من جانب المكون العسكري، الذي أطاح بحكومته ووضعه قيد الإقامة الجبرية لأكثر من ثلاثة أسابيع. فبعد تجربة قرابة العامين من قيادة حكومتين انتقالتين، تواضع رئيس الوزراء على مصارحةِ كافةِ الأطراف السياسية والمجتمعية بما تُواجهه قيادته لدفة الانتقال من قيود وتحديات، تفرضها طبيعة شراكة الحكم، وبما يجابه مجهوداته نحو التسوية السياسية والوفاق الوطني من صعوبات وعراقيل. ففي ضوء مصارحته حول ما تشهده الساحة السياسية من انقسامات (عسكريين vs عسكريين، مدنيين vs مدنيين، وعسكريين vs مدنيين)، وفي داخل الكتلة الانتقالية، وبين شركاء الانتقال، وعدم وجود مركز موحد للقرار، وغياب الأولويات والتصور المشترك للانتقال، تقدم رئيس الوزراء بمبادرته الموسومة (الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال: الطريق إلى الأمام) إلى توسيع قاعدة الحكم الانتقالي، في 22 يونيو 2021. ويكمن جوهر المبادرة في أن الأزمة تعود في أصلها إلى غياب المشروع الوطني الذي فشلت النخب السياسية التي تعاقبت على حكم السودان في صياغته.

هكذا، وإن حظيت مبادرة رئيس الوزراء بقبول قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) ومناصريها، إلاَّ أنّ طريقة إخراجها وافتقارها إلى الآلية المتوافق عليها، حالت دون وصولها إلى نهاياتها المنطقية، ووقفت سداً في طريق تنفيذها. فقاطعتها أطراف عملية السلام، ولم تكترث لها القوى السياسية الأخرى الخارجة عن تحالف قوى الحرية والتغيير (الحزب الشيوعي ومناصريه)، من جهة، والحركة الشعبية شمال، بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان، بقيادة عبد الواحد محمد نور، من جهة أخرى. وفي ظل الاستجابة الفاترة للمبادرة، جاهر المُكوِّن العسكري بتوجُهِّه، إذ صرّح القائد العام للجيش في أحد لِقاءَاته مع ضباط وجنود منطقة بحري العسكرية، في 11 أكتوبر 2021، بأنه “لا حلَّ للأزمة السياسية الراهنة إلاَّ بحلِّ الحكومة”. هذا الوضع دفع رئيس الوزراء إلى تقديم خطاب تلفزيوني مباشر، في 15 أكتوبر 2021، شدد فيه بأن محاولة 21 سبتمبر الانقلابية كانت “هي الباب الذي دخلت منه الفتنة، وخرجت كل الخلافات والاتهامات المُخبأة من كل الأطراف من مكمنها، على حَدِ قولِه. ولذلك، طرح في خِطابِه خارطة طريق، بعد التشاور مع الفرقاء السياسيين لإنهاء الأزمة في البلاد، أهم ما تضمنته: مرجعية التوافق بين مكونات السلطة الانتقالية هي الوثيقة الدستورية،

الابتعاد عن اتخاذ قرارات وخطوات أحادية، إنهاء كل أنواع الشقاق بين مكونات الحرية والتغيير كافة، لتوسيع قاعدة الانتقال.

حقيقة، أنَّ انشقاق تحالف قوى الحرية والتغيير وانخفاض شعبيتها، دون أن يعني ذلك أن الكفة تُرجَّح لصالح المكون العسكري في الحكم، أتاح حينئذ فرصة جديدة لرئيس الوزراء ليستعيد امتلاك زمام مبادرته الوطنية “الطريق إلى الأمام”، وإعادة إحياءها. فقد كان رئيس الوزراء في موقف يُملي عليه توفير القيادة السياسية بهدف نزع فتيل التوتر الماثل وترتيب الوضع السياسي، وإعادة العلاقة بين المكونين العسكري والمدني إلى مسارها الصحيح، وذلك بدون تغوّل طرف على الآخر. فللمفارقة في المواقف، توفرت السانحة لرئيس الوزراء، بالتشاور مع رئيس مجلس السيادة، لحل الحكومة، ولكنه رفض هذا المنحى وفاءاً للعهد الدستوري القائم على الشراكة بين كافة الأطراف، واحتراماً لمبدأ الحوار والتوافق، من ناحية، وأبى أن ينصاع لأي توجيهات تُملي عليه هذا الحل، من ناحية أخرى. ومع ذلك، لم يُمهِل المكون العسكري رئيس الوزراء طويلاً، فقام القائد العام للجيش بتدبير الانقلاب واستلام السلطة كاملة، وكأنما لسان حاله يقول له *إن لم تقُم أنت بهذه الخطوة، فسأقوم بها أنا وسأفضُ الشراكة بالقوة!*، بل صرح علنا *قلنا له (يقصد رئيس الوزراء) نضفنا لك الميدان الآن…وهو حر في تشكيل الحكومة*، على حد تعبيره.

والآن، يعود رئيس الوزراء، إلى موقعه الذي تسنمه في أغسطس 2019 بموجب الوثيقة الدستورية الانتقالية، التي تأسست على الشراكة بين قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري. عاد رئيس الوزراء، بعد اعتقاله وفرض الإقامة الجبرية عليه لقرابة الشهر، ليوقع بمفرده على “اتفاق سياسي” مباشرةً مع القائد العام للقوات المسلحة، تاسيسا على قرارته بعد استيلاء الجيش على السلطة في 25 اكتوبر، بدون قوى سياسية “حاضنة”. وبالطبع، بالرغم من عدم وجود حاضنة “موقعّة” على الاتفاق، كما كانت قوى الحرية والتغيير، إلا أنه كانت هناك قوى سياسية حاضرة بقوة في المشهد، وإن كانت “غير موقعّة”، تداعت منذ منتصف أكتوبر المنصرم للدعوة إلى الانقلاب ولم تفض هذه القوى اعتصامها إلا بعد وقوعه. أثارت هذه الخطوة جدلاً واسعاً وسط القوى السياسية والشارع السياسي السوداني بقواه الشبابية والمجتمعية تتراوح بين رفضٍ كاملٍ، صاحبه كيل الاتهامات الغليظة تجاه رئيس الوزراء وتواطئه مع السلطة الانقلابية، وتأييدٍّ لها من باب نزع فتيل التوتر والاحتقان السياسي.

لا أرغب في هذا المقال المقتضب الغوص في هذا الجدل، خاصةً بعد أن عرض رئيس الوزراء رؤيته وقدّم حججه لقبول العودة في العديد من المنصات التلفزيونية. بل سأكتفي بطرح التحديات الرئيسة التي تُجابهه، وطرح بضعة أسئلة لعل الإجابة عليها قد تُسهّل تعبيد الطريق لتنفيذ الاتفاق السياسي الذي وقعّه مع القائد العام للجيش.

أحد أهم الأساس هو قدرة رئيس الوزراء

على مخاطبة القوى السياسية والمجتمعية، الرافضة للانقلاب وما ترتب عليه، وتحقيق أكبر قدر من التوافق (وبالطبع فإنه من واجب كل هذه القوى أيضاً توحيد رؤيتها وتحديد موقفها على ما يستدعيه هذا التوافق). فبعد أن جانبه التوفيق في تحقيق الوفاق السياسي والتوصل إلى مشروع وطني، الذي ظل غيابه منذ استقلال البلاد هو السبب الرئيس وراء الأزمة الراهنة، عبر مبادرة “الطريق إلى الأمام”، فهل يرى رئيس الوزراء أن الاتفاق السياسي يوفر الآن البيئة السياسية الملائمة لتحقيق هذا التوافق، وأن الطريق إلى الأمام أضحى مُعبّداً للسير فيه قُدماً؟

للمفارقة، فقد عمل انقلاب فض الشراكة على تعزيز انقسام وتعميق خلاف القوى السياسية والشبابية حول العودة إلى الوضع الدستوري ما قبل 25 أكتوبر (الحرية والتغيير – المجلس المركزي)، بعض لجان المقاومة، والمناصرين لرئيس الوزراء، أم التوافق على وثيقة دستورية جديدة (الحزب الشيوعي، لجان المقاومة، الحركة الشعبية شمال (الحلو)، حركة تحرير السودان (عبد الواحد). ذلك، بينما أفضت عودة رئيس الوزراء من محبسه وتوقيعه على الاتفاق السياسي إلى توحيد كافة هذه القوى مرة أخرى تجاه هذه الخطوة، بعد أن حسم القائد العام بانقلابه، ورئيس الوزراء بتوقيعه على الاتفاق السياسي هذا الأمر، ولم يُعد هناك مجالاً للعودة إلى ما كان الحال عليه قبل 25 أكتوبر. فإن كان هذا هو الحال، كيف يتم التوصل إلى “الميثاق السياسي” الذي أشار إليه الاتفاق والذي على أساسه تتشكل مؤسسات الانتقال، وعلى رأسها المجلس التشريعي لتوسيع قاعدة المشاركة، الهدف الرئيس لمبادرة “الطريق للأمام”؟

وبنفس القدر، كيف سيعيد رئيس الوزراء الشراكة مع المكون العسكري إلى مسارها الصحيح الذي تحكمه الوثيقة الدستورية، في ظل إبعاد الشريك الآخر الموقع على ذات الوثيقة، دون توافق جُلّ القوى السياسية وحركة المقاومة الشبابية، التي أتت به إلى رئاسة الوزارة الانتقالية؟ فقد ظلت هذه الشراكة هي موضوع الخلاف وعظمة النزاع التي أفضت إلى انقلاب الجيش عليها، وظلت غالب شعارات المواكب والتظاهرات تُشكِّكُ في جدواها!

في خطابه بعد توقيع الاتفاق السياسي، قلص رئيس الوزراء مهام الفترة المتبقية من عمر الانتقال ليكون إجراء الانتخابات على رأس أولويات حكومته المنتخبة، بل وقدّم مواعيدها المحددة في الوثيقة الدستورية (39 شهراً بعد التوقيع على اتفاق سلام جوبا في أكتوبر 2020)، وعقد المؤتمر الدستوري قبل شهرين فقط من قيام الانتخابات؟ فهل من الواقعية السياسية في شيء أن تُجري انتخابات حرة ونزيهة، إن كانت مُبكرة أم مستحقة أصلاً، وبغض النظر عن المتطلبات الإجرائية الضرورية (الإحصاء السكاني، قانون ومفوضية الانتخابات)، إن لم تحُز على توافق، أو أقله، رضاء جُلّ القوى السياسية التي ستشارك فيها بما يضمن القبول بنتائجها؟ بل كيف تسبق الانتخابات، أو إجازة قانونها، انعقاد المؤتمر الدستوري، وهو الذي يقرر في شكل نظام الحكم، إن كان رئاسياً أم برلمانياً أم مُختلطاً، والذي بدوره سيُحدِّدُ الملامح الرئيسة لقانون الانتخابات؟

وربما، والأهم، فإن العنوان الرئيس لمهام الانتقال الديمقراطي، والهدف المحوري للحكم الانتقالي، يظل هو بناء مؤسسات الدولة (والمفوضيات المستقلة) وفصلها التام عن الصراع السياسي وتجييرها لصالح أي من اطرافه، خاصة المنظومة العدلية، وإرساء قواعد حكم القانون وأسس العدالة والعدل. فهل أعد رئيس الوزراء خطة محكمة لهذا البناء المؤسسي تضمن تكوينها بعيدا عن الصراع السياسي؟ فهل لرئيس الوزراء أي ضمانات بأن لا يكون للقوى الداعمة للاتفاق السياسي، ولو *غير موقعة*، بصمة على تكوين هذه المؤسسات وتجييرها لخدمة مصالحها؟

وفي مجال الحريات، كيف يضمن رئيس الوزراء إطلاق سراح كافة المعتقلين، وقبول المكون العسكري، الذي وقّع معه الاتفاق السياسي، بالحريات العامة الخاصة بالصحافة والإعلام، وبحرية التنظيم للأحزاب السياسية وبحرية التظاهر السلمي والتجمع، وهي أبجديات الوصول لانتخابات حرة ونزيهة؟

من ناحية أخرى، وفوق ذلك كله، يمثل السلام الشامل والعادل، والمصالحة الاجتماعية، الباب الأوسع لتحقيق التوافق السياسي الوطني الشامل. فتحدي السلام هذه المرة أضحى أكثر تعقيداً كونه مرادفاً لعملية تحول سياسي ومجتمعي عميق لم يتوفر للثورتين السابقتين في أكتوبر وأبريل. فهل في تصور رئيس الوزراء استكمال العملية السلمية قبل الوصول إلى محطة الانتخابات؟ أم ترك أمر السلام ومشاركة الحركة الشعبية شمال وحركة تحرير السودان وإتمام عَقد التوافق السياسي الوطني، لتتولاه الحكومة المنتخبة؟ ألن يكون هذا الخيار بمثابة نسخ ولصق لتجربتي الانتقال السابقتين؟ ففي أكتوبر 1964 لم تنجح لا الحكومة الانتقالية ولا الحكومة المنتخبة في إنجاز السلام، ليأتي به، ولو لفترة مؤقتة، نظام مايو العسكري في 1972، وأيضاً في أبريل 1985، أخفقت حكومة الانتقال في عقد اتفاق للسلام، وكذلك الحكومة المنتخبة، إلى أن توصل نظام الإنقاذ الاستبدادي إلى اتفاقية السلام الشامل في 2005.

خاتمة: كلمتان إلى رئيس الوزراء!

أختم بتوجيه كلمتين إلى رئيس الوزراء، أولهما: إنَّ الواقع الماثل يُملي عليه أن يتقدم بخطاب سياسي متماسك للقوى السياسية والمجتمعية وللأمة السودانية يطرحُ فيه رؤية واضحة ويعرضُ خطةَّ طريقهِ، وإعداد برنامج دقيق للقاءاته مع هذه القوى، بغرضِ تحقيق أكبر قدر من التوافق السياسي. ذلك، بجانب توفير القيادة الحقيقية للفترة المتبقية من عمر الانتقال، وإلى توجيه دفة الحوار الموسع والشفّاف بين كافة القوى السياسية والمجتمعية وقوى الثورة الحية، المُضمن في الاتفاق السياسي (البند العاشر)، الذي هو بمثابة تمرين ضروري يؤسس لقيام المؤتمر الدستوري، حتى لا نُكرّر نُسخةً مماثلةً لتجربة حوار “الوثبة”!

وثانيهما: وبالتزامن ينبغي عليه الخروج بخطاب خاص لشباب الثورة يخاطبهم فيها مباشرةً ككتلةٍ مستقلة تسعى جاهدة للتنظيم وتفريخ القيادات من خلال لجان المقاومة في ربوع البلاد المختلفة، مما يستدعي رئيس الوزراء للقاء بهم والجلوس معهم والإصغاء جيداً لرؤاهم ومطالبهم والتعرف على مخاوفهم ومعالجة هواجسهم. إن مواكب 25 نوفمبر واسعة النطاق، تشكل امتدادا للاحتجاجات الشبابية منذ مستهل الثورة في ديسمبر 2018، تعبر مرة أخري عن حقيقة أن هذه الثورة هي ثورة جيل ضد التاريخ كله ومن ثم لا تستطيع الحكومة الانتقالية الادعاء بأنها تمثلها إلا بمقدار انحياز قادة الانتقال للمستقبل وعماده الانتظام الملتزم بإنجاز مطلوبات الانتقال كما عبرت عنها أهداف الوثيقة الدستورية. إن مواكب اليوم، 25 أكتوبر، جاءت بمثابة استفتاء للاتفاق السياسي، في أول رد فعل رسمي ومنظم للجان المقاومة، بما قد يخلق وضعا غير قابل للحكم وتحقيق الاستقرار. لا شك أن هذا الأمر يُحتمُ على رئيس الوزراء ابتداع الآليات المناسبة للتوافق مع هذه الكتلة الشبابية الكبيرة، وضمان مشاركتهم في مؤسسات الدولة واشراكهم في عملية صنع القرار. ولا ننسى أنه لولا هذه الكتلة الشبابية المتقدة لما سقط نظام الإنقاذ ولما صعدت القوى السياسية السابقة، ولا اللاحقة، إلى سدة الحكم الانتقالي ولما أتى رئيس الوزراء لموقعه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق