سياسة

الملكية الدستورية المغربية … جدل الاصالة والمعاصرة (5-6)

طارق زيادة صالح سوار الدهب*

• تتأكد خامساً من خلال ما اختطه الهيكل العام للنظام الدستوري لنفسه توافق مع ما انتهت إليه تجارب الحداثة في الفقه القانوني من: فصل السلطات وتوازنها وتعاونها وربط المسئولية بالمحاسبة كمبادئ قانونية (أصيلة) وراسخة لتنضاف إليها مبادئ اصطلح بالوثيقة الدستورية المغربية عليها بتفرد، تماشياً مع الاتجاهات التي تضمنتها كثير من الوثائق العالمية: كالديمقراطية المواطنة والتشاركية ومبادئ الحكامة الجيدة (good government).

•تتأكد سادساً من خلال الأخذ بآخر ما توصل إليه مبدأ توسيع مظلة العمل بمجموعة من الحقوق الأساسية الفردية والجماعية: مبدأ المناصفة بين الرجل والمرأة، وحريات الرأي والتعبير والاجتماع، والتصويب والترشح كواجب شخصي ووطني، والتظاهر السلمي وحق تشكيل النقابات والمنظومات الأهلية والمدنية والطوعية، وتمليك المعارضة حيزاً زمانياً بوسائل الإعلام وتمكينها من الاستفادة من التمويل العمومي هذا إضافة للحق في تشكيل الأحزاب وما في حكمها والتي لا يمكن حلها إلا بمقررات قضائية. دون أن تغفل الوثيقة الدستورية تحصين مجموعة من الحرمات الإنسانية من عدم جواز المس بالسلام البدنية أو المعنوية أو ممارسة كافة أشكال التعذيب أو انتهاك خصوصية الحياة الشخصية والمسكن والاتصال والتنقل عبر أو خارج التراب الوطني… هذا إضافة لحق غير مسبوق يكفل للأجانب التمتع بالحريات الأساسية المتاحة للمغاربة مع إمكانية مشاركة الأجانب المقيمين في الانتخابات المحلية.

مع ضمانة (لافتة) لسلسلة من الحقوق الجماعية الاجتماعية والاقتصادية كما انتهت إليها عديد الاتفاقات الدولية التي تنظم مجالات حقوق التعليم الأساسي والعصري المرتبط بواجب الدولة تجاه توفير فرص التشغيل وحياديته بناء على معايير الشفافية والكفاءة. وكل ذلك بتواز مع توفير العناية الصحية والعدالة الاجتماعية والحماية للأسرة والطفولة والشباب وأوضاع الفئات الاجتماعية ذات الأوضاع الخاصة والعمل على إدماجهم في الحياة الاجتماعية والمدنية… دون تناسٍ لدور السلطات العمومية في تنمية الإبداع الثقافي والتقني والرياضي وإمكانية التداول المعلوماتي وتنظيم قطاع الصحافة بأطيافه المختلفة بكيفية مستقلة وعلى أسس ديمقراطية تحت رعاية هيئة عليا للاتصال السمعي البصري تعمل على وضع القواعد القانونية والأخلاقية واحترام التعددية اللغوية والثقافية والسياسية للمجتمع المغربي. لتتوج هذه السلسلة بضمان حق الملكية إلا لما تقتضيه متطلبات التنمية الاقتصادية الاجتماعية ولكن على قاعدة حرية المنافسة النزيهة بشروط تحقق معايير: التنمية المستدامة، تعزيز العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، الحفاظ على الثروات الطبيعية الوطنية وحقوق الأجيال القادمة. وبما يحد من استغلال مواقع النفوذ والاجتياز ووضعيات الاحتكار والهيمنة تحت مسمع وبصر ورقابة من مجلس للمنافسة وهيئة وطنية للنزاهة.

•تتأكد سابعاً بالموازنة (المتجددة) ما بين مستلزمات الابقاء على قواعد دولة تبنى على أصول راسخة ومقتضيات استحداث هيئات للتشاور المؤسسي والحوار الجماعي تلبي تطلعاً نحو مستقبل ذو نزوع (معولم)… وهي على كثرتها الكمية (نحو من عشرين هيئة ومجلساً) وتعددها النوعي (الوظيفي) وصلاحياتها: (الدستورية والتنفيذية والاستشارية والعلمية والرقابية والتحكيمية).

إلا أن النموذج الجدير بالتأمل هنا هي تجربة هيئة المناصفة وذلك: أ/ لسبقها وتميزها على صعيد المنطقة العربية والإسلامية، لأنها ساهمت بدرجة لا تخطئها عين في ما يمكن أن نطلق عليه العبور السياسي (الاستراتيجي) السلس ما بين حقبة وطنية تأسيسية رائدة شيدت دعائم المغرب الحديث طوال عشريات (خمس) لقرن منصرم بلغ ذروة سنام أركانه في أخريات عهد جلالة الملك محمد الخامس، ودخل منعطفا (مفصلياً) ومنصة انطلاق (حداثي) يدخل عشريته (الثانية) لقرن جديد توج بعهد جلالة الملك محمد السادس وبلغ أقصى درجات نجاعته بالفاعلية التي أكسبها له دستور 2011م. ب/ لشمولية المساومة الفكرية والسياسية التي تعاملت مع كل مكونات المشهد الوطني المغربي دون انتقائية أو إقصاء أو تهميش، ولإنجازها للتصالح التاريخي لعناصر الشخصية الوطنية المغربية بوجهيه المعرفي والإجرائي: فبالمحتوى النفسي والاجتماعي فإنها قد ردت مسألة الإنصاف والحقيقة إلى أصولها السياسية التوحيدية التي لا تُغيب ثقافة السلام بأبعاده الحوارية القابلة للآخر وإلى استدراكها (الواعي) إلى أن أزمة بناء مشروع السلام الاجتماعي المستدام تعود الى قصور في تفهم (نظري) واستيعاب (عملي) بحسبان أن السلام الوطني حالة نفسية اجتماعية بالمقام الأول وليست شكلاً سياسياً إجرائياً وبالتالي لابد من إعادة تفكيك أصوله (لإتاحة فرص التعامل العلمي معه). ومن ارتباطه المحوري بإنجاز المراجعة الإنسانية التاريخية للمسار الوطني (لإتاحة فرص التعامل الأخلاقي معه) اعترافاً واعتذاراً ومن ثم تصحيحاً ليس بالضرورة بالمعنى (السالب) ولكن (بالإيجاب) للمصطلح الذي يتحمل النتائج والتبعات السياسية: 1/ بجدلية العدالة والمساواة بمنحاها الإنساني لإزالة التشوهات النفسية، وبمنحاها المجتمعي لإزالة التظالم الاجتماعي، وبمنحاها الاقتصادي والسياسي لإزالة الاقتسام غير العادل للثروة والسلطة. 2/ بجدلية المحاسبة والمسامحة، فحماية حقوق الإنسان المدنية والسياسية التي يبشر بها (النموذج) لن تترك هذه المرة لوازعات الأخلاق وكريمات المثل وعسف التأويل الأيديولوجي، بل ستحاط بضمانات دستورية وقانونية وتدابير مادية تقودها ثقافة ومؤسسات المجتمع المدني ومراصده السياسية والحقوقية بحزم صارم وشفافية مطلقة.

ه/ لا مركزية الملكية الدستورية تقوم على مواءمة (أصابها الكثير من الحكمة) بين معاملي الوحدة (الترابية) والتعددية (الجهوية) بتوافق مع ما انتهت إليه تجارب النظم السياسية المطورة لمقابلة الحاجات الإنسانية (اللامتناهية) للتنمية المحلية ولتقلد زمام مصائر بنيتها الإدارية والسياسية بذواتها الطبيعية (المادية) وشخوصها الجماعية (المعنوية).

فالتنظيم (الهيكلي) للمملكة تنظيم لا مركزي يقوم على الجهوية المتقدمة وفي ذلك: اتساق (أصيل) مع عهد الوثيقة الدستورية لدولة المدينة إذا شئنا وصلاً بالتجربة الحضارية الإسلامية (مسلمون، أصحاب كتاب، معاهدون، ..الخ) ولتاريخ المغرب القديم الوسيط الذي قامت قواعدهما التعاهدية والسلطانية على بنية تعددية (لامركزية).

وهو أيضا مواكبة (مستحدثة) لنظريات الفدرالية (الموسعة) كما في النماذج (الأمريكية، الألمانية مثلا)… حتى يتم الاستدماج السيوسيوسياسي لمكونات الهوية الوطنية المغربية وإعادة تركيب المفهوم السياسي من خلال ربطه بالقاعدة المجتمعية (grass- roots) وليس الاكتفاء بإنزاله من علٍ وذلك لإصحاح المعادلة ليكون أساس المشروعية هي السلطة القاعدية السياسية للمؤسسة الترابية الجمعوية والمدنية المحلية: سواء كانت حزباً أو تنظيماً أو مؤسسة نفعية بل أن التنظيم الهيكلي للمملكة يتيح تعاملاً مع هذه الكيانات (اللامركزية) بحسبانها تمتلك حقاً مشروعاً في الوجود والنماء الحر وفي الامتلاك (المستقل) بفضائها السلطوي ولمشاريعها الثقافية والإدارية والسياسية في وجه أي قبضة (مركزية) أو استعلاء (أيديولوجي) لتحقيق رغبات مواطنيها وطموحاتهم في التنمية المحلية المستدامة.

( يتبع)

*كاتب صحفي وباحث في مجال

دراسات السلام والتنمية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق