بدويات

ندوة صالون المدائن

بين فلسفة المتخيل والبناء المعرفيّ للاوعيّ الجمعيّ

الفيلسوف الأديب عماد البليك

ملخص لمحاضرة ثرّة وعن سيرة نيّرة تبحث عن مثيل

د. محمد بدوي مصطفى

مقدمة

سلكت طريقي يا سادتي في بداية البناء لصحيفتكم المدائن بوست في التواصل مع الصحفيين وكنت ساعتذاك  أبحث عن كُتّاب يشدون من أزري في مشروعي الجديد “المدائن بوست” وما تُعنى به من قضايا النهضة في بلاد الوطن العربي الواسع. إن القضية العالقة في ذهني ومنذ سنين طوال هي قضية مصيرية يمكن أن ألخصها لكم عبر سؤال بسيط: لماذا لما يتقدم الوطن العربي عموما، وبلدنا السودان خاصة في غضون الحقبة بعد الاستقلال أو لنقل في السنوات الأخيرة على عكس دول آسيا الناهضة أو بعض الدول الأفريقيّة السائرة بأقدام ثابتة. الحقيقة يا سادتي أننا ابتعدنا عن مسقط رؤوسنا أكثر من ثلاثة عقود وحينما نعود في كل مرّة نجد الحال قد ساء واستاء، “تسوّءَ” و”استسوءَ” يوما تلو الآخر. ففي حديث تليفوني مع الأخ عماد البليك، سألته: هل العيب فينا يا صديقي، وتذكرت حينها أبيات الإمام الشافعي الخالدة في ذاكرتي:

(هذه الأبيات تتحدث عن نفسها وليس بحاجة إلى شرح أو تفسير عندما نربطها بحالنا وحال الأمّة العربية والإسلاميّة).

فجاء ردّه تلقائيا: إنّ هذه الشعوب بها من القدرات ما لا تتصور يا صديقي، لكن العيب فينا أولا وفيمن يحكمنا ثانيا! (نهاية المقولة)

أقولها يا سادتي كما قالها مارتن لوثر كينج: لدي حلم، أن أجد هذه البلاد العريقة والشعوب السامقة في مقدمة الأمم، وأن يجد علماؤها وأدباءها من التقدير والاحترام ما يليق بأثوابهم وبمقدراتهم الفذّة. فجائحة كورونا ومن قبل أحداث عالميّة عدّة علمتنا أن علماء البلاد العربيّة قد تفرقوا أو قل فُرِّقوا في بلاد الله الواسعة إربا إربا بيد أنهم وجودا – لحسن الحظ – في مهجرهم من التقدير والاحترام ما يليق بقاماتهم الجليلة ومعرفتهم الحقّة بالعلوم ودرايتهم في تسيير الأمور على خير منوال. لكننا أو قل أولو الأمر فينا تجاهلوهم وتركوهم يرتعون في الأرض راجلين، حاجّين، هائمين وسالكين الطرق الشائكة والطوال لا يلوون على شيء إلا وأن يبحثوا عن لقمة الحريّة وكلمة الحق وخبز يسد الرمق.

محاضرة السبت ولم يكن فيها من سُبات

أحتفى صالون المدائن بالتعاون مع الجمعية السودانية للتعاون والإنماء باستضافة الفيلسوف والعالم الشموليّ عماد البليك. تحدثت قبل فترة وجيزة في سياق التجهيز للمحاضرة مع هذا الرجل الهمام في العديد من المحاور المعرفيّة وفي كل مرّة أكتشف المثير المدهش عن عمق ثقافته، أدبه الجم، علمه الوافر، دأبه المنقطع النظير واجتهاده الخارق للعادة والمتواصل فضلا عن تواضعه الجم والمثل الألماني يقول: كبار الرّجال، متواضعون. يحدثني بنبرته الهادئة المتزنة في سانحة ما وبتواضع: “يا دكتور، لا تغرنّك المظاهر، فهناك بعض الناس من يسفهون شخصي الكريم وأتلقى بين الفنية والأخرى بعض من هجوم شرس وغلو في الهجاء على ما أسرد أو أقول.”

وأنا أتعجب حينها يا سادتي، أن رجل في قامته النبيلة وبعلمه الوافر، وحلمه الغزير رغم صغر سنه، إنسان ترك مهنة صائبة وصنعة حاذقة تعلمها في أعظم جامعات السودان، بكلية لا يدخلها إلا المبشرون بالجنّة من النوابغ والمجتهدين، أن يقابل بهجوم مثل هذا. أين الأدب، أين الثقافة وأين الحكمة والذوق السليم في مقابلة أهل العلم والمعرفة؟ حينها أرد عليه قائلا: يا صديقي لا تغضب، فكل رسول في ملّته مسلوب الحقوق ومهضوم الكرامة ومكتوم النفس. ولو لم تكن ناجحا، كريما ودودا ومعرفيّا كما أنت الان، فما التفت إليك أحد: فالنجاح نعمة لكنه في بعض الأحيان نقمة. والحمد لله أن هؤلاء قلّة قليلة تحمل الرذيلة في أعماقها العميلة.

جولة في عالم وبر البليك “لنتبربر”

جال بنا الأستاذ عماد في شتى المحاور، الحقول والمشاتل، نقتفى أثر العلماء الذين أثروا حيواتنا بشتى المعارف، عرفنا عنه وعن شخصية هذا الطفل النابغة الذي حاز على أعلى المراتب في الشهادة المدرسيّة على مستوى المقاطعات، وكيف أحس بالضغوط التي أتته من كل صوب وحدب وأرادت أن تسلتب هدف نهجه وتقلص مسار حياته العلميّة والتي كان يعلمها خير علم دونما آخر غيره، يا للدهشة وهو في تلك السنّ اليافعة؛ نعم، ضغوطات ألفته من كل مصب ومنفذ. يقول: ذات يوم كنّا في رحلة مع المدرسة وفي نهاية اليوم أدهشني شيء، أن تقدم نحوي مدير المدرسة ودون مقدمات، أومأ إليّ ليهديني كتابا في علم الأحياء، تجهّمت أساريري وبادرته قائلا: أنني لا أروم دراسة هذه المادة، فجاءت إجابته آنذاك تلقائية ومؤلمة لنفس البضة: إنت عبيط ولا أهبل!

حمنا مع هذا الرجل “البربريّ” في أطياف العلوم بين مدينة بربر النوبة وسهول العرب وصحاريهم حتى شمال أفريقيا تارة لينعطف بنا عطشى من حقبة حاضرة إلى بطن التاريخ العالق في الأفق البعيد القريب، بصدر الإسلام ودوله، أموية كانت أم عباسيّة، ويحيد بنا تارة أخرى إلى حدائق ابن زيدون في الأندلس ونعرج منها من ثمّة إلى أمازيغ شمال أفريقيا حيث “أغروم الخبز الحافي” والعودة بعد الخروج من الأندلس، نطرق بين هذا وذاك أبواب سماوات العلم، كما الطوارق، وما أدراك ما الطوارق أليسها نجوم الصبح الثاقبة وما أدراك ما هي! طرح موضوعات ثرّة ذات طابع فلسفي عميق، أدبيّ جزل، علميّ فصيح، متحدثا تارة عن الهوية وعن قضايا التاريخ المتخيل المتعلق بها، وتارة عن ابن عربي وغيره من علماء المسلمين وعن والموروث الدينيّ في شبه الجزيرة وما أصابنا ووصل إلينا منه في وعيينا اللاجمعي من شوائب تلك المسامه بشبه الجزيرة وأساطير “أولينيّة” علقت فينا وبنا، حفظتها ذاكرتنا الجمعيّة ولاكتها مؤسساتنا اللاعلميّة إلى درجة الهذيان، كما طرق موضوعات وقضايا كثيرة وفيرة وشتى، لا سيما في الفلسفة والأصولية في الدين وأمور القطعية المتعلقة بها وبالموروث المتخيل والحاضريّ والمستقبليّ في اللاوعي الجمعيّ، كما في الدين، الوطن، والتاريخ.   

التاريخ الجمعي والتاريخ الذاتي

يشرح البليك أن التاريخ ليس شيء يمكن القبض عليه، وانحرف إلى قضية جوهريّة هامة عندما طرح تساؤلا ذكيا مسترسلا: حتى أنت نفسك لا تستطيع أن تدرك تاريخك الذاتيّ! وذلك يعني أن هناك أكثر من رواية يسردها التاريخ، من جهة داخل المجتمع ومن جهة أخرى داخل الدولة. فعلى سبيل المثال إذا أخذنا السودان، فيمكن أخذه بخطوط عديدة أو بأكثر من افتراض، مثلا فإن ذهبنا بافتراضية إعادة تركيب هذا التاريخ في إطار كرونولوجي أو زمني فسوف نصل إلى نتيجة البيئة المتخيلة التي تستوحي تاريخا معينا في بيئة معينة وفي زمن معين. وقد نعيد إنتاج هذا التاريخ في إطار غير زمني، وهو ما يراه عماد البليك وأن نعطيه معطيات معينة أو شيم خاصة ومن ثمّة نفكر كيف تطورت تلك الأخيرة في إطار الأسطورة. وحسبنا أن كل أسطورة سوف تقودنا إلى تاريخ مختلف وما أكثر التواريخ وما أكثر أساطيرها! لذلك فعندما نتحدث عن التاريخ فهو في حقيقة الأمر متخيل، ومجموعة هذه المتخيلات تجتمع جلّها في بوتقة واحدة لتكون ما نسميه نحن الآن بالهوية. بمعنى أن الهوية في نهاية الأمر ليست شيئا ملموسا يمكن أن نقبض عليه، لكن هي في الحقيقة إرادة تنبثق عبر عقل جمعي لمتخيل معين وفي لحظة معينة.

لذلك فنحن نحتاج أن نفهم ماهية تاريخ السودان مثلا بطريقة غير خطية كرونلوجية، بحيث نأخذ القيم والمفاهيم من خلال القدرة على القفز في الزمن وتجاوز الخط التقليدي: وثنية، مسيحية، إسلام، الخ. لأن ذلك التنقل لم يحدث بطريقة مباشرة أو انتقال مباشر، بل كان قد اعتمد على التداخل، حتى أن بعض قيم الوثنية أو المسيحية لا تزال مدمجة في الطقوس والتقاليد النيلية أو ثقافة الصوفية والدروشة ذلك في كل بلدان الوطن العربيّ أو قل في كل الثقافات اللاهوتيّة في العالم أجمع. لذلك نجدها مثلا في حلقات الذكر وفي تقليد الختان وسيرة العرس إلى النيل وغيرها.

يشرح عماد البليك ماهية التاريخ قائلا إن التاريخ هو ما حدث لكن ليس بإمكاننا القبض عليه الآن كما تمّ ذكره آنفا، لهذا فإن أدراكنا التاريخي سيكون بطبيعة الحال عبارة عن نوع من التخييل لما وقع وقتذاك، فنحن لا نكتب التاريخ في الواقع إنما رؤيتنا أو جدلنا حوله، ما يمكن أن نسميه “فلسفة التاريخ”.

أما في ذكره عن السرديات التاريخية فهو يشرحها كما يلي: هي مجموعة متخيلات للتاريخ، يمكن أن تحصل أو تتبلور داخل أنماط معرفية مختلفة، أو مجالات متعددة كثقافة سبل كسب العيش، الفنون البسيطة، الرعي، الإنتاج بشكل عام: الملبس، الأكل، الخ.

فعلينا من هذا المنطلق أن نقرأ الهوية كمتخيل مستقبلي ينطلق من الإدراك الآني الذي يمكن أن يتبلور ويتكون من خلال إعادة تشكيل التاريخ وفق قراءة معاصرة، فضلا عن استثناء أو إبعاد ما لم يعد صالحا للحظة المعاصرة. فنحن في السودان ليس لدينا هوية واحدة – كما هو معاش – إنما لدينا جملة من هويات متنوعة، لذلك فإن الطريق أو الحل يتعلق بهوية مستقبلية تقوم على الإطار المعرفي، الذي تحكمه المناهج الحديثة ورؤية الذات وفق منظور جديد، والتحرر من فكرة الآخر عنا، إلى فكرتنا عن ذواتنا.

فكرة النهضة

فكرة النهضة أو التقدم أو غيرها من الاصطلاحات التي تتحدث عن الانتقال من مرحلة فكرية جامدة واستاتيكية إلى الانفتاح المعرفي والتحرر الذهني، تمت عدة محاولات لها وسميت بالصحوة أو بالتنوير أو التثوير الخ، لكن الفشل يمكن في عدم القدرة على ربط حقيقي أو إيجاد علاقة جدلية إيجابية بين الغيب والحضور، بين الملموس والميتافيزيقيا، كما في المنظور الديني أو التقاليد ذات البنى العميقة في المجتمع.

بدأت في السودان حركة استنطاق أو وعي للذات مبكرة في الربع الأول من القرن العشرين عند التيجاني يوسف بشير وحمزة الملك طمبل وغيرها من الأسماء التي حاولت مثلا عند التيجاني أن توجد سياق علماني للحياة، يدخل في صلب ما يمكن أن نسميه “العرفان” وهو مفهوم صوفي بحت يعني القدرة على تجاوز مفاهيم الإلحاد والإيمان إلى الصفاء التام للذات الإنسانية وقدرتها على التعايش الإيجابي مع الآخر. وعند طمبل كان المنظور يقوم على الإطار الثقافي الذي يعنى بفكرة السودانية أو السودانوية كما اتضحت لاحقا عند أحمد الطيب زين العابدين في عمله على إنضاج هذا المفهوم وتحريره وخلق تطبيقات له في الفنون الجميلة والممارسات الحرفية السودانية والثقافة عامة.

مفهوم الإزاحة

مفهوم الإزاحة غير القطيعة، في الأول يكون الإطار المرجعي الإسلامي أو موروثه هو المعني – تجربة محمد أركون -، في حين أننا مع الإزاحة نعمل على تحريك للقيم والمفاهيم والممارسات لأجل خلق حياة نوعية ومستقبلية، ويأخذ ذلك فترة جيل كامل على الأقل، بحيث يكون لدينا في النهاية أفكار جديدة كثمرة لهذا العمل الذي يجب أن يكون مؤسسيا تضطلع به مؤسسات الدولة والمدراس ويمارس كفعل اجتماعي كذلك.

الكتابات التاريخية عند مكي شبيكة ويوسف فضل وغيرهما تمثل مرجعيات أساسية لفهم السودان لكنها غير كافية في اللحظة المعاصرة، إذ يجب الانطلاق إلى كتابة جديدة تقوم على ما يعرف بالمعرفة المتشظية التي تعني الربط بين المختلف والمتحول في سبيل إنشاء خطاب جديد يتحرر من الأكاديمية الصرفية واطلاق النتائج المسبقة والأحكام الذاتية، كما يجب تحرير المصادر من المرجعيات المركزية أو المدركة ، كما في نموذج الاستشراق عند ادوارد سعيد للخروج إلى مصادر أكثر حداثة قد يكونها من دراسة التاريخ الاجتماعي والثقافي وغيره بطريقة جديدة وفق مناهج أكثر حداثة.

خاتمة

سوف نلتقي في صحن صالون المدائن في محاضرة قادمة مع الأستاذ الأديب عماد البليك لنستسقي من معين علمه الوفير ولنتبّن خفايا هذه الكنز عن كثب. له مني ومن كل الأصدقاء الذين حضروا الندوة الشكر أجزله والثناء أكمله، متمنيا له التوفيق والنجاح في مسيرته العلميّة الثرّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق