سياسة

حارات التعفن والانزلاق في براثن الفوضى (1 – 3)

مدينتي ليست بخير ... الأخطاء الفادحة

مختار حسن

سألت نفسي مراراً وتكراراً. كيف تحولت العاصمة المثلثة الى دولة قائمة بذاتها ولماذا؟ وسبب تساؤلي معرفتي بإمكانيات هذا البلد الغني الشاسع. وعدت بالذاكرة الى زمان الانقاذ حينما كنت خارج السودان اسمع الاخبار تترى عن بناء وتوسع قد حدث!!  في الطائرة جلست قرب النافذة فقط لأرى الخرطوم وقد رسمت صورة زاهية لمدينتي. ثم خطوت نحو صالة القدوم ودخلت بسلام ومعي اناس كثر كنت احكي لهم عن الخرطوم بأضلاعها الثلاث وكانت الايام الاولى صعبة علي. ه اهي مدينتي ولكنها ليست على ما يرام!!! ماذا هناك؟؟ الوجوه ليست هي الوجوه. الشوارع ليست هي الشوارع. المواقف. المحال التجارية. المستشفيات الخاصة والعامة واعداد كبيرة من المرضى والزوار. الزحام غير عادي. ملامح الناس كنا نفرزها بمجرد النظر الى الشخص نعرف أصله وفصله. ولكن هذه ليست الملامح التي اعتدت ان اراها منذ صغري.!! وجاءت فترة عملي بالتلفزيون القومي دخلته بعد عناء واخترت (رحلات). فقرة تلفزيونية توثق للحياة السودانية. وفرت لي هذه الفقرة لحظات هروب من مدينتي!!! مدينتي ليست بخير. هكذا كنت اردد. والجميع ينظرون لي بغرابة. ركزت في عملي وبدأت اكتب عن جمال السودان في قراه الناءية واحوال انسانه الصبور وبدأت اتلمس مشكلاته الحقيقية. كنت متأسفا على حال خبراءنا في الهندسة والزراعة والتخطيط العمراني وفي المحليات والمؤسسات المعنية. فكلما انتقلنا الى ولاية نجد القصور الاداري والتخطيطي في كل المرافق ماذا يفعل هؤلاء الناس؟؟ واين هي تلك التنمية التي كنت اسمع عنها؟

الشوارع والطرق رديئة التنفيذ. الاوساخ على ذات النهج الي رأيته في الخرطوم. جلسنا مع مزارعين ومع رعاة ومثقفين وصورنا الاشياء على طبيعتها وركزت كتاباتي عن الارض والانسان وملامح الاصالة. ثم نعود ويعود الاستياء من سلوك لا يشبه المدينة وشوارع لا تتلاءم مع مظاهر الحداثة ولا تلتقي معها في اي شيء. التجليد الحديدي دون الاعتناء بمتانة البناء. وبناء بلا طراز يدل على فكر أو هوية وطنية يشار لها بالبنان. حدائق زابلة الازهار. باهتة الالوان. لو رأيتها في بداياتها عند افتتاح الوزير لها. لن تراها بعد شهر من فرط الاهمال وعدم الاتقان. الحدائق العامة المجانية أصبح الجلوس فيها برسوم يعللونها برسوم الصيانة والتسيير! اين الصيانة والتسيير هنا فأنا اجلس تحت شجرة ورثتها من الانجليز وليست منكم.؟! وتمضي الايام والاسابيع والشهور والسنوات والحال. الى الاسوأ.!! ويرتفع معدل الهجرة الى الخارج وفي المقابل تزداد الهجرة الى الخرطوم. كنت اجلس في السوق الشعبي ام درمان مع والدي عليه رحمة الله متفرسا في وجوه الناس عسى ان أجد ملامح مدينتي وامام الالف قد أجد واح فأقول هذا الشخص ام درماني وهذا كردافي وهذا جنوبي وهذا غرباوي وهذا من الشرق او من الشمال ولكنهم أصبحوا قلة. العدد الاكبر من غير ملامح تعرف!!

لقد جبت البلاد الافريقية واعرفها جيدا. هؤلاء الناس من خارج هذه الديار واكاد اجزم بذلك. لا استنكر ذلك على الاطلاق ولكنا كنا نلتزم بقوانين واعراف الدول التي كنا نقيم فيها ونبين لهم اعتزازنا بهويتنا. هنا الامر مختلف. اراهم في مقار السجل المدني. اراهم في كل موقع وكنت اكذب نفسي واتكل الامر لله. (البيقدر يقعد في الخرطوم يقعد والما بيقدر يمشي محل ماجا) عبد الرحمن الخضر والي الخرطوم، كانت هذه كلمة السيد الوالي ضمن خطابه الذي تحدث فيه عن شكاوى سكان الخرطوم من الجبايات وكثرة الرسوم في كل المعاملات الحكومية والغلاء الطاحن الذي تعيشه الخرطوم!!  ارادة المولى قادتني لمتابعة بعض الاجراءات في اراضي ولاية الخرطوم فرأيت وسمعت بعين فاحصة واذن مرهفة تسترق السمع .وتحلل الملامح والايماءات .عين تفحص الاماكن وتقرأ ما بين السطور فرأيت في شر البلية ما يضحك ويبكي .وقادتني خطاي الى جهاز حماية الاراضي بأم درمان فوجدت فيها مديرا يعد من زمر لا وصف لها  وحملتني قدماي الى المحلية حيث كنت اعرف معتمدها واضطررت للذهاب الى منزله الخاص لأنه كان جاري بالحي ذاته  تحدثت معه حول الاراضي و الوحدة الادارية التابعة للمحلية وتفرست في ملامحه لم يكن ذلك الوجه الذي اعرفه ووجدت الكثير ومن ضمن ما سمعت قصة المُحصلة ذات الثمانية عشرة دكانا في السوق الشعبي. (تخيل معي موظفة في وحدة تنفيذية صغيرة تمتلك ثمانية عشرة محلا تجارياً بالسوق الشعبي ام درمان وما إدراك ما شعبي ام درمان؟؟!!!) وكيف كان يتحدث عنها وعن اكتشافهم العظيم لنشاطها ال!! ونما الى سمعي شيء عن الربط اليومي الذي لا بد للمعتمد ان يوفره المعتمد للولاية وكان عبد الرحيم قد تولى زمام الامور فيها. هل تذكرون طفح قصة غسان مدير مكتب الوالي؟؟؟ وهي واحدة من الاسباب التي حولت عبد الرحيم لولاية الخرطوم بعد ان كان وزيرا للداخلية. عبد الرحيم ختاها ليهم واضحة إذا داير تبقى معتمد خلى ربطك عالي وما حا اسألك عملتها كيف!! المهم. تمددت مدينتي واتسعت افقيا ولامست بيوتها حدود الولايات المحيطة شمالا وشرقا لامست ولاية نهر النيل غربا لامست ولاية شمال كردفان في الجنوب الغربي لامست مدن النيل الابيض. الجنوب الشرقي لامست الجزيرة. وظهرت الاحياء الفاخرة (السكن الفاخر) والاحياء الراقية بمسميات مختلفة وكأنها تصف محتواها صفوة ورغوة وغثاء وكرور وغيرها من الاسماء بفضل انتعاش سوق العقارات والاهمال الذي ادى لكساد التجار والعمال والمزارعين واجبارهم على الهجرة وترك الزراعة واثقال كواهلهم بالجبايات والرسوم ومديونيات البنك الزراعي والبنوك التجارية الاخرى. ليأتي العمال الموسميون ليحلو محل اصحاب الارض الاصليين. وضح من ذلك ان المطلوب تغيير الخارطة السكانية بمن حضر شوام مصريون افارقة. المهم بمن حضر ولا تسألهم عن هوية. وأصبح الجميع سودانيون بوضع اليد (إن كانت ميسورة) والغرض من ذلك معلوم ويمكن تفسيره سياسيا واقتصاديا. وغرضها الافقار والاخضاع. والتحكم في كل الموارد!! مع التوسع الافقي للمناطق المختلفة للعاصمة سيما الطرفية انتعش سوق العقارات والاراضي واقبل الناس على الخرطوم من كل فج عميق وبدأت المحليات تزيد من عدد الاسواق داخل الاحياء او على الطرقات الرئيسة واحتكرت الاسِرة للباعة والدرداقات و(الحمامات العامة) والرسوم بمختلف اشكالها وانواعها ومع زيادة الاسواق زادت الممارسات الباحثة عن المال بأي وسيلة كانت والحياة بقت عايزة شفتنة وحرفنة ولصوصية بائنة.  بدأت تظهر مجموعات داخل العاصمة تمثل عصابات لنهب المواطنين وكانت تنشط ليلا في اغلب حالاتها. ثم بدأت تزداد شيئا فشيئا نيقرز وكولومبيانز وناس في الزنق والكتمة كأنماط موسيقية حديثة لها مظاهرها الخاصة بها ودلالاتها. اما في الفن المسرحي فظهر المسرح هزلي من نوع خاص وكان ميدانه حفلات التخريج خاصة لرياض الاطفال والجامعات وكان منطلقه الجامعات نفسها!! اما صحافة (المغارز) بشقيها الاجتماعي والرياضي. فكانت ظاهرة للعيان وانشغل الناس ببعضها كثيراً ولم تنجو من الكساد. وحتى اكون دقيقا، فمع الانتهاء من اتفاقية نيفاشا وتفرعاتها، اصبحت مساحات الحرية تتلون بألوان الفوضى حتى كاد أحدهم ان يكتسح الانتخابات (المرسومة) وكانت جماهيريته طاغية ليس حباً فيه ولكن كُرهاً في حكم الانقاذ.!! المهم. ظهرت وطفحت ظواهر اجتماعية سطحية ومزعجة. وكان ابطال تلك المظاهر يمثلون احياء معينة بينما كانت النخب الثقافية والسياسية في سكرتها تتمطق بالخطب السياسية المنمقة والتي كانت مشبعة بأوراد النفاق والخبث.!!! ومازالت مدينتي ليست على ما يرام!!!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق