سلايدرسياسة

كيف نال ترامب كل هذه الأصوات؟

علاء بيومي

صوّت واحد وسبعون مليون أميركي للرئيس، المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، في الانتخابات الرئاسية، أخيرا. كما فازت الأقلية الجمهورية في مجلس النواب الأميركي بثمانية مقاعد إضافية على الأقل، وعجز الديمقراطيون عن تحقيق اختراق واضح في مجلس الشيوخ، والذي سيبقى منقسما حتى انتخابات الإعادة في شهر يناير/ كانون الثاني المقبل. كيف فشل الديمقراطيون في قلب موازين القوى في واشنطن من خلال السيطرة على البيت الأبيض والكونغرس بمجلسيه، كما توقع كثيرون؟ صحيح أنهم في طريقهم إلى السيطرة على البيت الأبيض، وهزيمة ترامب وطرده، وللحفاظ على أغلبية مقاعد مجلس النواب، وزيادة عدد مقاعدهم في مجلس الشيوخ، ولكن أين ذهبت التوقعات الخاصة بالمد الأزرق، أو بموجة ديمقراطية؟ أين ذهب التفاؤل بانتصار ساحق؟ وكيف عجز الديمقراطيون عن تحقيق انتصار سريع وكاسح ضد ترامب والجمهوريين، على الرغم من أخطاء ترامب العديدة، وأزمة كورونا، والاحتجاجات العرقية؟ تدفعنا محاولة تفسير الأسئلة السابقة إلى التدقيق في نتائج الانتخابات وتوجهات الناخبين ومحاولة فهم ماذا حدث بالضبط؟

لماذا عجز الديمقراطيون عن تحقيق انتصار سريع وكاسح ضد ترامب والجمهوريين، على الرغم من أخطاء ترامب العديدة، وأزمة كورونا، والاحتجاجات العرقية؟

الواضح، أولا، أن الديمقراطيين فازوا بالجائزة الكبرى، وهي البيت الأبيض، واستطاعوا هزيمة ترامب. والواضح أيضا أن الانتخابات لم تكن عادية. حيث شهدت مشاركة غير مسبوقة للناخبين (حوالي 160 مليون أميركي صوتوا مقارنة بحوالي 136 مليون ناخب في انتخابات 2016). كما فاز جوزيف بايدن بأكبر عدد من الأصوات يفوز بها مرشح رئاسي أميركي في التاريخ (75 مليون صوت)، متخطيا رقم باراك أوباما القياسي (69 مليون صوت)، والذي حققه في انتخابات عام 2008. كما استطاع هزيمة رئيس يجلس في البيت الأبيض خلال انتخابات التجديد له، وهذا نادر الحدوث في السياسة الأميركية، ولم يتكرّر منذ ثلاثة عقود (مع جورج بوش الأب). كما استطاع بايدن أيضا تحقيق اختراقات انتخابية مهمة بفوزه في ولايات ذهبت تقليديا للجمهوريين في العقود الأخيرة، كجورجيا وأريزونا، كما نجح أيضا في استعادة ولايات كبنسلفانيا وميشيغن، والتي رجحت كفة ترامب في انتخابات عام 2016 أمام هيلاري كلينتون.

هذه انتصارات كبيرة، ولا يجب التقليل منها. ولكن لماذا لم تمثل اختراقا كبيرا أو نصرا واضحا؟ السبب الرئيس تماسك القواعد الجماهيرية للحزب الجمهوري وترامب، ونجاحهم في المنافسة حتى آخر لحظة، وإحراج الديمقراطيين على مختلف المستويات، سواء في الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها بايدن، بعد أيام من فرز الأصوات المرسلة بالبريد، أو في انتخابات الكونغرس التي ضخ فيها الديمقراطيون تبرّعات ضخمة، وعجزوا عن تحقيق الاختراق الذي كانوا يحلمون به. ويعود تماسك الجمهوريين إلى عدة أسباب، منها أن الولايات المتحدة بلد كبير وشاسع، وأن الانتخابات تحكمها عوامل كثيرة، بعضها محلي، ومن ثم قد لا تنعكس نتيجة الانتخابات الرئاسية على انتخابات الكونغرس بشكل ضروري، فقد يفضل ناخبون التصويت لمرشح ديمقراطي للرئاسة، ومرشحين جمهوريين بمجلسي النواب أو الشيوخ، أو العكس، لو رأوا في ذلك مصلحة وطنية أو محلية. وهذا يجعلنا أمام خريطة معقدة من المرشحين، والأسباب المحلية التي يصعب الحكم عليها وفهمها بسهولة.

  ترامب نجح، إلى حد كبير، في الحفاظ على قواعده الجماهيرية، وربما توسعتها

وبعيدا عن التعقيدات المحلية، يبدو أن ترامب نجح، إلى حد كبير، في الحفاظ على قواعده الجماهيرية، وربما توسعتها، وأن الحزب الجمهوري استفاد من هذا النجاح على مستوى انتخابات الكونغرس، فالمشاركة الجماهيرية غير المسبوقة في الانتخابات لم تصبّ في صالح الديمقراطيين فقط كما كان متوقعا، بل زاد ترامب عدد من صوّتوا له من 62 مليون ناخب في العام 2016 إلى 71 مليون ناخب هذا العام، وهو أكبر عدد من الأصوات يحصل عليها رئيس في فترة تجديد، كما يعني أن ترامب استطاع زيادة أعداد ناخبيه بحوالي تسعة ملايين صوت، على الرغم من كل أخطائه في الحكم. .. كيف استطاع ذلك؟

تفيد استطلاعات آراء المصوتين في الانتخابات أخيرا (وفقا لـ”سي إن إن”)، بأن ترامب استطاع الحفاظ على أصوات الكتلة المحافظة التقليدية، والمتمثلة في الناخبين البيض (58% منهم صوّتوا لترامب)، والرجال (53%)، وغير الحاصلين على شهادات جامعية (50%)، وكبار السن (أكثر من 50%)، وسكان المناطق الريفية والنائية (57%). في حين مال أبناء الأقليات والنساء والحاصلون على شاهدات جامعية والشباب وسكان المدن إلى بايدن. وهو انقسام تاريخي وغير حاد، يعبر عن الفرق بين الكتل المحافظة والليبرالية في المجتمعات الغربية بشكل عام، ولا يعبر، بالضرورة، عن أسباب الانقسام الأيديولوجي والسياسي الشديد الذي تعيشه الولايات المتحدة، ما يستدعي التدقيق أكثر في الأرقام.

  استفاد بايدن من أصوات الأقليات المختلفة التي صوتت له بكثافة، واستفاد من الرفض القوي لشخصية ترامب ومواقفه الاستقطابية

وهنا يتضح أن أكثر الناخبين حماسة لترامب هم المنكرون لوجود أي مشكلات عنصرية في الولايات المتحدة (صوتوا له بنسبة 91%)، أنصار سياسته الاقتصادية (84%)، والمعارضون للاهتمام بقضايا البيئة (84%)، ومعارضو الإجهاض (76%)، والمسيحيون البروتستانت المتدينون (76%)، والناخبون البيض غير الحاصلين على شهادات جامعية (67%).

وهذا يعني أن ترامب اعتمد، في حشده الانتخابي، على تحالف أيديولوجي عرقي بالأساس، يضم خصوم المساواة العرقية والبيئة والمحافظين أو المتشدّدين دينيا واجتماعيا قليلي الحظ من التعليم. وقد استطاع ترامب تغذية هذا التحالف بشكل غير مسبوق، من خلال سياسات لم يتصوّرها أحد من قبل، كمواقفه الصادمة خلال السنوات الأربع الأخيرة ضد المهاجرين من أميركا اللاتينية والمسلمين والأقليات والاحتجاجات العرقية على عنف الشرطة وضد البيئة والإجهاض، وكذلك اختياراته المحافظة للقضاة ونقله السفارة الأميركية إلى القدس. وهي مواقف تنتمي غالبيتها إلى أقصى اليمين، وكان يستحيل تخيل حصول كثير منها. ولعل الإتيان بها أشعل حماسة الفئات الأكثر تشدّدا ومحافظة في اليمين الأميركي، ودفعهم إلى التغاضي عن أخطاء ترامب وسماته الشخصية السلبية العديدة، وفي مقدمها الفوضوية، وعدم اتباع استراتيجيات واضحة والنرجسية الواضحة، فقد رأى هؤلاء في ترامب سياسيا نادرا مخلصا، حقق الكثير من أقصى أحلامهم، وعبر عن الكثير من أكثر أفكارهم تشدّدا.

  أكثر الناخبين حماسة لترامب هم المنكرون لوجود أي مشكلات عنصرية في الولايات المتحدة

أما بايدن فقد مثل بديلا آمنا لكثيرين، فهو كاثوليكي يتحدث علنا عن إيمانه وعقيدته، ولكنه مناصر لتوجهات الحزب الديمقراطي الليبرالية، ما جعله يفوز بنصف أصوات الكاثوليك المتدينين، وبنسبة صغيرة من أصوات البروتستانت المتدينين، وهي نسبٌ أكبر من التي حصلت عليها هيلاري كلينتون، والتي خاصمها اليمين المتدين. كما استفاد بايدن أيضا من أصوات الأقليات المختلفة التي صوتت له بكثافة، واستفاد من الرفض القوي لشخصية ترامب ومواقفه الاستقطابية. كما استفاد للغاية من أزمة كورونا، والتي كانت بمثابة هدية غير متوقعة له من السماء، حيث تعد ثاني أهم قضية دفعت الناخبين الأميركيين إلى التصويت لبايدن بعد قضية المساواة العرقية.

عاب بايدن افتقاره الكاريزما والمشروع السياسي الجديد الواضح. وعابه أيضا انقسام حزبه ومواقفه بين اليسارين، النيوليبرالي والتقدمي، فالحزب الديمقراطي يعيش انقساما واضحا بين أنصار المشروع الليبرالي التقليدي، كباراك أوباما وهيلاري كلينتون وبايدن نفسه، والذين لا يقدّمون نقدا يذكر للسياسات الرأسمالية المهيمنة على الولايات المتحدة، واليسار التقدّمي الذي يمثله بيرني ساندرز ونواب الحزب الديمقراطي التقدميين، وهؤلاء يرون أن أميركا بحاجة لمشروع سياسي ضخم لمساعدة الفقراء والأقليات، لكي لا يتركوا فريسة لليمين المتطرّف يغذي فيهم مشاعر الغضب بمزيدٍ من كراهية المهاجرين والأقليات. لذا تبقى السنوات المقبلة مهمة وحاسمة، بعدما تمكن ترامب من تغذية اليمين المتطرّف بشكل غير مسبوق. وفي حال عجز بايدن والديمقراطيين عن مواجهة تلك الكتلة بسياسات جديدة غير تقليدية، قد يجد الديمقراطيون وأميركا والعالم أنفسهم في انتخابات عام 2024 أمام مرشح ترامبي جديد أكثر خطورة وتشدّدا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق