ثقافة وفن

ما بين الوعي والخيال والواقع البراني

البحث عن تاريخ موجز للأدب

عماد البليك (كاتب وروائي سوداني)

نشأت علاقة الإنسان مع الفنون والأدب منذ فجر التاريخ البشري، ربما منذ تلك اللحظة التي أحس فيها الإنسان الأول بأن عليه أن يسيطر على العالم، الوجود من حوله، من خلال المتخيلات. حتى لو أنه في تلك الآونة المبكرة، لم يكن ليفرز بين الخيال والواقع. ما بين الحقيقة والمتخيل. أو الحلم والواقع.

في فلسفة البدايات التي تبدو لنا اليوم غامضة وليس إلا مجرد افتراضات في أغلب الأحوال، حاول ما يسمى بإنسان الكهف أن يحقق معاشه من خلال الفن حتى لو أنه لم يدرك هذه الحقيقة، كان يمارس حرفاً بسيطة كالصيد والقنص والزراعة ويدير علاقته مع العالم من خلال فن غير مدرك، كأن يرسم فريسته التي يحلم بها في جدران كهفه، ومن ثم يكون له أن يسيطر عليها في الواقع الخارجي.

في تلك المساحات البعيدة والقصية من الزمن الأرضي، البدائي، فجر تأسيس العقل البشري، كان الخيال يقترب من الواقع، وكان السحر هو الأدب، والفن هو الحياة. بحيث لا يمكننا أن نقدم حقولاً منفصلة لكل من هذه المجالات التي صارت فيما بعد في الحياة الحديثة منفصلة عن بعضها.

ما بين الفن والشعر، الفن بوصفه عالم الحلم المنسوج عبر الريشة، والشعر بوصفه اللغة والكلام أو محاولة السيطرة على العالم من خلال اللغة. كانت تتحرك أفكار الإنسان عن العالم، كان لا يضع حواجز بين العالمين، الافتراضي والحقيقي، وهذا موجود حتى داخل ما نقرأ في قصص التراث والمدونات الدينية والكتب المقدسة، فقصة النبي إبراهيم عليه السلام مع ابنه إسماعيل ومحاولة الذبح التي يتم إنقاذها عبر كبش يأتي من السماء فدية أو أضحية للابن، هذه القصة تُصوّر لنا مرحلة من مراحل الوعي الإنساني، كان فيها الحلم والواقع متصلين، فما يراه الرائي في الحلم عليه أن يصدقه خارجه والعكس صحيح تماماً.

هكذا كانت تتم المعرفة وأدواتها في تلك الفترات المبكرة. بحيث كان الفن والشعر والحلم والسحر عوالم متداخلة يصعب الفصل بينها، وكان العقل يعمل بهذه الآلية المعقدة. وصل الملاك ليخبر إبراهيم بأنه قد صدّق الرؤيا؛ لكن المقصود هو الفداء.. التحرير.. بعزل العالمين ما بين الحلم والواقع، لهذا سيكون على النبي أن يتقبل الأضحية ويذبح الكبش ليتم إنقاذ الولد عن طريق القوة العليا، الوحي.

هنا سوف ندرك أن هذا الفصل الذي حرر العلاقة بين العالمين المتخيل والواقعي، هو نفسه الذي تقوم به الفنون. وفي كل الظروف وإلى اليوم تبقى الإشارة إلى الأدب والفنون والشعر على أنها كما لو تأتي أو مستلة من عالم آخر غريب وغائب غير مفهوم بالشكل المطلق. ولازال هذا المجال يكمن في صميم عمليات البحث الحديثة وعلوم النفس وغيرها، بحيث لا يمكن أن نقول إن هناك قصة نهائية مروية عن حقيقة منابع الخيال والذاكرة والشعر والتعامل مع اللغة، هذا التكييف الذي يجعل العالم المحسوس يصبح خيالياً ويكون للتخييل أن يصبح محسوساً وملموساً.

ما هو الشعر؟

هل كان الشعر هو البداية؟ هو النقطة التي بدأ فيها الوعي البشري من التحرر من محدودية الواقع ليكون القفز أو الانطلاق إلى المجازات الكبيرة والمنعتقة؟ لاسيما أن فجر الشعر ارتبط لحل كبير بالكهانة والديانات البدائية أو تلك العلاقة الجدلية التأسيسية التي حاول الإنسان أن يصوغها مع العالم من حوله، الطبيعة بكل ما فيها، والأجرام السماوية البعيدة غير المفهومة. كل هذه المسارات التي هي مشغولة بالغرابة والجنون. حتى الجنون نفسه لم يكن له من تعريف في تلك اللحظات، حيث بدا طابع نسيج الحياة هو الترميز لا شيء آخر.

هذا الترميز في تعقيد العالم، لم يكن دافعه إرادي بل كان يتم بشكل عادي ومباشر، برغم أن عملية التعلم واكتساب المعرفة والتعايش مع الكون بشكل عام، كانت تتمظهر بطابع الإرادية والفاعلية. ولم يكن لأي كائن تقريباً، أن يشعر بالخلل أن الإرادة تنفصل عن ضدها، لأن العقل البشري كان شاعرياً بامتياز وهو يمزج بين العوالم المختلفة ويخلطها في ماعون العقل، بل أن الدماغ نفسه ربما كان ليس محسوساً، فإلى فترات قريبة ظل الناس في حيرة من أمر هذا الجهاز، أين يقع بالضبط. ولهذا صيغت تصورات عن أنه موجود مثلاً في القفص الصدري، أي يحتل مكان القلب، وارتبط ذلك بالمشاعر وخفقات القلب وضرباته التي تتحرك انفعالاً مع ما يحس به الكائن من عواطف وأحاسيس شتى تمر به في تجربة الحياة اليومية.

يمكن أن نقرر بشكل غير نهائي أن الشعر هو علاقة أصيلة مع العالم كانت قد تشكلت من خلال اللغة التي لم تأخذ شكل الانفتاح الكلي، بحيث أن اللغة كانت عبارة عن طبقتين. الأولى لعامة الناس، والثانية هي اللغة الاختصاصية أو التي تتكلم بها نخبة من الناس هم رجال الدين والكهنة، أو الشعراء. لهذا ظل الشعر ربما إلى عصور قريبة مرتبطاً بعوالم غامضة كوادي عبقر عند العرب، أو الاغتراف من مواعين غامضة في اللاوعي.

في التجربة الدينية عند المسلمين، كان تحدي الرسول الأُمي عليه السلام أنه جاء بمعجزة الكتاب الذي قام على النص، الذي قرر أنه ليس شعراً ولكنه خطاب وقف ضد الشعرية ينازعها ويقرر أن حقيقة اللغة أعمق من الشعر نفسه، وأن الخطاب والمجاز المتعالي يفوق حقائق ما يمكن أن يأتي به الشعر. وهذا أمر يستحق الدراسات المتعمقة لكشف أغواره، ما هي المعاني المختزلة فيه والأسرار التي يشيء بها، إذ أن محاولة فهم العلاقة الجدلية بين الشعر والنص القرآني سوف تفتح آفاقاً لمعرفة جديدة في سبيل تحرير العقل ليكون قادراً على إدراك حدود العقل والتخييل، وبداية الواقع. أين يقع المجاز اللغوي، وأن يكمن الغيب. لاسيما أن المجازات الدينية أغلبها ذات طابع غيبي في الأساس.

إن الشعر وإلى اليوم وهو يدخل في متاهته الجديدة وغياب الإدارك لهويته الراهنة والمستقبلية، يظل مجهول السمة أو التعريف، حتى لو أنه في فترات تاريخية مختلفة حاول الناس تأطيره، فمحاولة وضع بحور أو موسيقى محددة للشعر العربي في البحور التي توصل إليها الخليل ابن أحمد الفراهيدي، ومن ثم استدرك الأخفش، كل ذلك لم يكن إلا معنى مضاداً للإطار الديني، حيث يكون تقييد الشعر في صالح النص المتعالي والمنفتح باتجاه الوحي والمطلق. وقد لحظنا أن العلاقة بين الشعر والنص الديني منذ البدء أخذت طابع الشدّ والجذب، وكيف أن القرآن نظر إلى الشعراء على أنهم “في كل وادٍ يهيمون” وقبلها “يتبعهم الغاوون” و”أنهم يقولون ما لا يفعلون”.

فتحرير العلاقة بين النبي والشاعر، كانت لازمة هدف منها أن يوضع الشعر في صفة الزيف وبحيث تصبح القصيدة عالماً ليس واقعياً في مقابل الصدق الذي جاء به النص المتعالي، والوحي المُنزّل، حيث تصبح الشاعرية مضاد النبوءة. ولكن في الوقت نفسه كان النبي ينظر إلى البيان بصفة غير عادية، “إن من البيان لسحرا.. وأن من الشعر لحكمة”، وهذا اعتراف بأن الشعر رغم أراجيفه وأكاذيبه يتضمن الحكمة والفلسفة والفرز بين الخديعة والمعنى.

الفنون والتجريد

تحاول الفنون والآداب والأشعار أن تُنشئ عوالم موازية للواقع الأساسي، المركزي، أو ما يمكن أن نطلق عليه عالم البداهة. مع التوقف قليلاً للإدراك بأن هذه البداهة ليس إلا شكلية وغير صحيحة بالمعنى الكبير. فليس من واقع بديهي، أو نهائي أو تقريري. فالواقع يلبس أشكالاً متعددة وغائية لا نهاية من حيث الصور والمجازات والإحالات التي يمكن الخلوص إليها.

في الفنون سواء البصرية أو المسطورة أو حتى في الفنون الحديثة كالسينما أو ما بعد الحداثية، مثل ما يمكن أن تفعله الوسائط الجديدة في “السوشلميديا” سيكون الإنسان أمام تداخلات غريبة لفكرة الواقع بالمجاز، وكأن الزمان يعود إلى سيرته الأولى، إنسان الكهف الأول. في البدء كان ذلك الكهف اللامتصل بالعالم إلا عبر أثير العقل، واليوم يأتي هذا الكهف الجديد المتصل فيه العقل بالعالم عبر الأثير الذي فرضته الشبكات الجديدة. وكأن الأسئلة التي تتحرك هي نفسها لم تتغير كثيراً، حتى أن الفلسفة الجديدة لا تزال تطرح إلى اليوم السؤال القديم والمتجدد عمّا هو الأدب أو ماهي الفنون؟

الإشارة إلى التجريد هنا يقصد منها بشكل مباشر، أن نقوم على رؤية العالم بشكل أكثر بساطة، والمفارقة أن ما تحاول أن تنهض به الفنون والأشعار والروايات من تبسيط العالم، هو عمل في مبدأه الأول يقوم على التعقيد بنقل المجازات إلى ما هو أكثر تعقيداً، غير أنه من خلال هذا التعقيد الجديد يكون الانتقال إلى البساطة، كما تفعل الآلة أو التكنولوجيا الحديثة. إذا ما تمت المقاربة بين الصورتين في الذهن البشري، صورة الأدب والفن وصورة الآلة والتقنية.

عندما نُجرّد الأشياء فهذا سعي نحو تعرية الواقع، محاولة لكي نصل إلى المناطق السرية والخفية من العوالم، قول ما لم يقل في المرة الأولى، واستخراج المنطوقات الغائبة. كل ذلك يتطلب قدرات غير عادية، في الماضي كان يعتقد بأن اكتسابها يأتي من تلك الفضاءات التي تمت الإشارة إليها، عوالم السحر والغموض البدائي ولغة الكهف الغريبة وغير المدركة، وأشعار الكهنة، وغيرها من هذه المناطق التي لا تزال مجهولة بالمعنى الواضح للمعرفة الإنسانية إلى اليوم. أما في الراهن فثمة اعتقاد بأن هذا التجريد هو جوهر مُعلمّن يأتي به الإنسان من خلال التدريب والتأهيل والإصرار، والبعض ينفي حتى الموهبة، ليكون السؤال ما الذي تعنيه الموهبة أو الاكتساب الفطري؟ وهل موجود في الأساس أم لا؟!

من الصعب العثور على الإجابات النهائية والمطلقة، وما يمكن أن نعثر عليه عبارة عن اجتهادات وفلسفات تحاول أن تقربنا من فلسفة المعنى لا حقيقته. ما يعني أن حقائق الأشياء في نهاية الأمر لا تقع إلا في المجاز وخارج اللغة والجسد، أي ما وراء الإمكان والقائم والمرئي.

يلعب التجريد دوره في أن يعزل الإنسان والواقع عن العالم المباشر، ليصنع العالم البديل، الذي هو عبارة عن صيغة مجازية أو تأويلية كما يتجلى في لوحة مرسومة أو قصة مروية أو سردية سياسية عن حلم لشعب ما وغيرها من الأساطير البشرية القديم منها والحديث، بحيث أن مفهوم الأسطورة يتعلق ليس بالخرافة إنما بالأشواق والممكنات، لأن الخرافة سوف تخضع هي الأخرى للتساؤلات، أين يمكن لنا أن نقبض عليها لنقول ها هي، فهي في “واقعها” غير حاضرة أو موجودة.

إن الأساطير لا تشير إلا الكذب أو الخديعة إنما تؤشر إلى الحكايات والسرديات والمرويات في تحليل وعي العالم عبر كل مرحلة من مراحل الوعي البشري، وإذا كان من أساطير قديمة فهناك أساطير حديثة. فالأساطير هي عمل تجريدي، يحيك القصة والحكاية التي تفسر العالم وفق منظور معين وتعطي للإنسان في الموقع الزمكاني المحدد تصوراً لعالمهم وواقعهم، وحتى داخل صلب الحداثة وما بعدها فثمة أساطير، فالعقل البشري ليس منعزلاً عن ماضيه ولم يتحرر بالمطلق وليس له أن يتحرر. لأن طبيعة الخيال البشري والوعي أنه يعمل في أغلبه في مساحة الأوهام واللاوعي والظنون، أكثر مما يعمل على الحقائق.

لهذا فالفنون وهي تسعى إلى التجريد تعمل على التشكيك في الأساطير والقصص المؤسسة سلفاً في محاولة لإبداع قصة جديدة، حكاية غير معروفة من قبل للإنسان. تزلزل أساطير الأولين كما اسمها النص القرآني بتبنيه لمفهوم “أحسن القصص”، وهي الصيغة البديلة أو التجريد البديل الذي استخدمه النبي محمد في استبدال الخطاب القديم بالخطاب الجديد، الذي أراد به أن يغير من أنظمة الوعي السائد في زمانه.

مستقبل الأدب والإبداع

من خلال هذه المساحات المتحركة من التفكير في الأدب والفنون والإبداع البشري بشكل عام سوف يُطرح سؤالٌ كبيرٌ ولانهائي من حيث الاستفهامات التي تدور حوله، حول مستقبل الأدب؟ والفنون بشكل عام؟ هل سيأتي يوم يتوقف فيه الإنسان عن الحاجة إلى التجريد والعوالم البديلة والمجازات والتأويل؟ بمعنى هل ستتوقف اللغة عن القدرة عن ابتكار مجاز جديد.

سوف تشبه تلك اللحظة إن حضرت في المستقبل، ما كان قائماً في تاريخ الوعي البشري القديم، أي أننا سوف نصل إلى ذلك التطابق عند إنسان الكهف الأول، حيث النفعية والسيطرة والتخييل كلها تدور في ذات الفلك، سنصل إلى تطابق الوعي بين الحلم في المنام والواقع البراني عند النبي إبراهيم، وليس كما في نموذج الفصل بين العالمين، عند النبي يوسف الذي تحولت عنده طاقة الحلم إلى حزمة من المجازات التي تحمل إشارات ودلالات تتطلب التفسير والقراءة والتفكيك، وليس مجرد التطبيق المباشر على الواقع البراني.

في كل القراءات الحداثية، تقريباً، هناك تشكيك كبير في وعي الإنسان بالإبداع والهدف منه، الغاية النهائية المنشودة، كذلك ما الذي يريده الإنسان أو يرغب فيه من خلال الاستعارات المتواترة والمعرفة الاجتيازية التي تسعى لجعل العالم نسيجاً شبكياً معقداً لتخلق ما يعرف بالوحدة الكونية للمعنى، وهي ذات رسالة الفن والأدب، بمعنى إيجاد التآلف من خلال تفكيك الاختلاف. أو جعل وعي الاختلاف طريقاً نحو إدراك الذات بشكل أفضل. كل ذلك لا يمكن أن نقرره بجرة قلم، وليس أمامنا إلا التجربة التي هي الكاشف الأساسي والمحوري في مجمل التجربة الإنسانية في علاقة الكائن بكل ما يدور حوله وفي ذاته أيضاً، حيث سيظل الوعي كامناً في الداخل؛ في مركز الدماغ البشري، هذه الآلة العجيبة التي تحمل الأسرار والغموض إلى اللحظة الراهنة.

اليوم ثمة تداخلات عميقة ما بين العلوم، حيث تزول المسافات بينها كما تمحو المساحات المكانية، تصبح المعرفة علماً واحداً متصلاً في مقابل التخصصية الهائلة، فالفيزياء تدخل في علم النفس وفي تفسير الأدب وفي وعي العالم.. وكل ذلك يعني أن العالم في احتياج شديد لمعرفة كلية وشاملة تعيد بناء الأنساق، لكي نقدر على فهم الأدوار مرة أخرى، نحتاج لدور الكاهن العصري الذي يملك قدرة الربط بين الأرض والسماء، ما بين المعرفة والعرفان، ما بين الذات والخارج، ما بين الوعي واللاوعي. قد تكون تلك الشخصية العارفة المطلقة المرغوب فيها ليست إلا كائناً تبشيرياً غير موجود في الأساس، يشبه النبي أو السوبرمان، أو يقترب من حقيقة لم نتكلم عنها بعد.. عن مستقبل الإنسان في عصر الآلة والروبوتات الذكية وكيف سيكون شكل الحياة في غضون عقود وجيزة وليس قرون بعيدة، كل ذلك يعني الحيرة والغموض المستمر.. تيه الإنسان بقدر انفتاحه المعرفي.. ما يجعل سؤال الأدب أو الفنون، سرديات الحياة العصرية والحداثة وما بعدها، قصص التوحش والاغتراب الذاتي. كل ذلك وما حوله من أساطير وقصص ومرويات واستكشافات وعوالم وصناعات الخ.. يحمل الأسئلة المجترة، التي ليس لها من إجابات محددة حتى اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق