ثقافة وفن

إشكالية النص … وطموح التجديد في فكر محمد أركون 3-3

جيهان خليفة

«في نص مقتطع من مقال  باللغة العربية في كتاب دراسات إسلامية يقول محمد أركون « الفكر الإسلامي  مهما بلغ من إبداع في ميادين شتى ينحصر كله في الأبستمية الخاصة بالقرون الوسطى مع اتجاهها الإلهي  وخضوعها لفكرة الوحى وما يترتب عليها من استنباط أحكام شرعية إلهية وتقسيم للزمن إلى ما قبل الوحى وما بعده وللبشر إلى مؤمنين وكفار وأهل كتاب والنظر للكون باعتباره مخلوقا من قبل إله واحد محيط بكل شيء قدير بينما الأبستمية ونظام الفكر الحديث تتصف بالانفصال والانقطاع عن جميع هذه الاعتقادات وتتقيد بالمعرفة التجريبية والعيان «. [1] نفهم من ذلك أن شرط انفتاح الفكر العربي والإسلامي  على العقلانية الحديثة لا يمكن أن يتم بشكل فعلى ودائم وناجح إلا بتفكيك مفهوم الدوغمائية والأرثوذكسية الخاصين بتراثه هو بالذات ما دام المؤمن سجين نظام الإيمان والايمان . في ضوء ذلك يتبين لنا أن مشروع أركون مشروع ابستمي هدفه الكشف عن الشروط والإمكانيات التاريخية والمنطقية واللغوية التي تحكم المعرفة أي الأسباب  التي حكمت تكون المعارف والنظريات والخلفيات التاريخية لهذه المعارف وكيف تمكنت أفكار من الظهور، أركون يرجع الفكر إلى مجال الأنساق والنظم الفكرية وليس إلى الأحداث الخارجة عنه كالأحداث السياسية والعسكرية وغيرها أي البحث في المبادئ المشتركة بين مختلف العلوم الإسلامية لصياغة نظام فكرى عام أو الأفق المعرفي الذى يؤطرها ، لذلك تعتبر المناهج الألسنية والسيميائية  من أفضل المناهج لدراسة النص الديني لدقتها لذلك طبقها أركون في مشروعه إذ يقول في كتابه من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني « إننى لا أزال مصرا على موقفي ولا أزال أقول بأن التحليل السيميائي ينبغي أن يحظى بالأولوية خاصة عندما يتعلق الأمر بالنصوص الدينية التأسيسية ذات الهيبة الكبرى فالتحليل السيميائي يقدم لنا فرصة ذهبية لكى نمارس تدريجيا منهجا ممتاز يهدف إلى فهم كل المستويات اللغوية التي يتشكل المعنى من خلالها «. [2]

باستخدام أركون منهج قريماس للتحليل السيميائي للقرآن الكريم انتهي إلى ثلاث مصطلحات وهي المرسل المرسل إليه الرسالة من وجهة نظر أركون الله هو المرسل والمرسل إليه محمد صلى الله عليه وسلم والمرسل إليه الثاني البشر. من هنا نبدأ معا لنقرأ كيف طبق أركون منهجه السيميائى على سورة التوبة في البداية يعلل أركون أسباب اختياره لها قائلا :» إن لهجتها والموضوعات التي تطرقت إليها والجدل المباشر مع عرب الصحراء وأحكامها القاطعة ودعواتها للجهاد تجعل منها مادة ملائمة لكى ندخل من جديد في الخطاب القرآني لمعرفة كل ما تحذفه القراءات التقليدية أو تشوهه « أقصد التاريخية الكلام لأركون موضحا «لا ينبغي خلط التاريخية هنا بكل ما كان التفسير التقليدي يدرسه ولا يزال تحت اسم أسباب النزول صحيح أن علم أسباب النزول ينقل الأسباب المباشرة التي أدت إلى نزول الوحى أو رافقته أقصد وحى كل آية ولكنه يتحدث عن وقائع مبعثرة ومتقطعة وآنية ظرفية لم تستكشف العلاقة بينها وبين المكانة الإلهية للآيات « .[ 3]

يشير أركون إلى أن سبب النزول ليس إلا حجة أو ذريعة من أجل إطلاق حكم أو أمر أو تثبيت معيار معين أو تحريم شىء محدد هذه الحجة سوف يستعيدها فيما بعد الفقهاء المؤسسون للمدارس من أجل سن القانون الديني أو الشريعة.

أركون انطلق من الآية الخامسة من سورة التوبة قال تعالى « فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم « . صدق الله العظيم

يقول أركون هذ ه الآية تمثل حرج للمسلمين المؤمنين بحقوق الإنسان والحرية الدينية وحرية الرأي الشخصي في التفكير الحر لذلك وكما يقول أركون فإنهم يحاولون الالتفاف عليها والتقليص من أهميتها وجعلها نسبية عن طريق الاستشهاد بآيات أخرى أكثر سلمية على العكس من ذلك وكما يقول أركون نجد أن المناضلين الإسلاميين الذين يعملون من أجل الاستفادة الكلية والنهائية لنظام إسلامي متطابق مع الإسلام الأولى يستندون على سورة التوبة كلها من أجل فرض الجهاد داخل المجتمعات الإسلامية وخارجها ، يشير أركون أن هؤلاء وأولئك يسقطون على القرآن الهموم والأفكار والهيجانات السياسية الخاصة بالتاريخ الحالي والمجتمعات الحالية مشيرا أن جميعهم ينكرون تاريخية النص القرآنى وتاريخية عصرنا الراهن ويشوهون بواسطة الحركة نفسها من القراءة أي التفسير والممارسة التاريخية كل الشروط الواقعية والموضوعية لدمج الحقيقة في أزمنة متنوعة ومتغايرة بمعنى معرفة حقيقة كل عصر واختلافها باختلاف البيئات والأزمان .[4 ] ص93 

يستطرد أركون قائلا:» لقد اخترت هذه الآية لأنها تشكل بالنسبة لسورة التوبة الذروة القصوى للعنف الموجه لخدمة المطلق «الله» مشيرا إلى أن السورة كلها تدل على أن هناك عنف عندما تكون الحقيقة المطلقة مهددة بالخطر أو حتى عندما تكون مرفوضة. [5]

يوضح أركون أن مهمته تكمن في البرهنة على الكيفية التي تنتج بها سورة التوبة معنى محركا وتعبويا بالنسبة لسامعيها سواء زمن النبي أو حتى في الأجيال التالية ويتساءل أركون عن الشروط التي ينبغي توافرها لكى يستمر هذا المعنى في احداث آثره في تحريك الناس ؟ وعن ماهية الحقيقة التي تتطلب كل هذا العنف ؟ سواء لدى معاصري الرسول أو الأجيال التالية حتى يومنا هذا مشيرا إلى أن الإجابة عن هذه الأسئلة لابد أن تكون من الناحية السيميائية  الدلالية ثم التاريخية ثم الأنثروبولوجية مؤكدا أن الإجابة عن هذه الأسئلة سوف تساعد الثيولوجيي اللاهوتي على تعديل نظرته للأمور والاعتراف بضرورة وجود علم تفسير جديد للكتابات المقدسة.

القراءة السيميائية للآية الخامسة من التوبة

من وجهة نظر أركون هذه الآية لا تقرأ خارج بنية العلاقات الكائنة بين الضمائر الشخصية أو خارج إطار التوصيل والتفاهم المشترك الشائع في كل الخطاب القرآني مشيرا إلى أن « الفاعل – الذات « المطلق أي الله يبرز من خلال عدة أدوار داخل النص القرآني إنه يرجع أولا إلى نوع من الآنا الخارجية على النص ولكن التي تشكل مصدرا لكل أنواع التعبير والتنصيص «يقصد الآيات « كما أنه يرجع إلى نوع من الآنا « النحن « المنخرطة على كل مستويات وظائفية الخطاب كما يرى أركون لذلك فالفصل بين هذين النوعين من الأشخاص والضمائر هو في آن معا نهائى أي لا رجعة عنه أركون يرى أن سر المطلق لا يسبر أي مستحيل التوصل إليه لذلك فكل ما يقوم به الآنا والنحن من ألعاب سوف يؤدى في النهاية إلى ظهور الخيال الديني  . [6]

أركون الرهبة التقديسية للنصوص تمنع المؤمن من رؤيتها كما هي  في الواقع العملي

أركون هنا يحاول استنطاق النص ليخرج لنا ما حرمنا من معرفته عقود طويلة في ذلك يقول هاشم صالح محاولا إيضاح فكرة أركون أكثر للقارئ إذ يقول في هامش كتاب الفكر الإسلامي  قراءة معاصرة :» إن هدف أركون من استخدام المنهجية السميائية والألسنية هو تحرير القارئ المسلم من هيمنة النصوص المقدسة ولو للحظة من الزمن لكى يستطيع أن يفهم العلاقات الداخلية للنص بكل حيادية وموضوعية ولكى يهيئه فيما بعد لاكتشاف العلاقة بين النص والتاريخ أي تاريخية النص ، فالرهبة التقديسية لهذه النصوص تمنع المؤمن أو حتى الإنسان العادي من رؤيتها كما هي  عليه في الواقع العملي أي كنصوص لغوية تستخدم مفردات بشرية محددة ذلك لأن العلاقة الإيمانية التي نشأنا عليها منذ الصغر تمنعنا من إقامة علاقة طبيعية مع هذه النصوص التأسيسية أي علاقة فهم تحليل معقولية مشيرا إلى أن التحليل السيميائي يحررنا من أثر هذه العلاقة .

طبقا للمخطط السيميائي سورة التوبة وحدة سردية صغيرة

لذلك فطبقا للمخطط السيميائي الأركوني تقرأ سورة التوبة بوصفها وحدة سردية صغيرة مندمجة في الوحدة المركزية الكبرى المتمثلة بحكاية الميثاق الأول الذى ربط بين آدم والله فقد كان المرسل إليه الجماعي « البشر « في مكة والمدينة يشمل معارضين رفضوا الميثاق الأعظم لذلك لزم الصراع معهم من أجل تحويل رفضهم إلى قبول وإذعان مشيرا الى أننا هنا نجد أنفسنا أمام المسار السردي الشائع نفسه في كل الخطاب القرآني يوضح أركون فكرته مشيرا إلى أنه يقصد وجود حالة أولية ينبغي تغيرها» أي حالة مكة قبل الدعوة « ووجود البطل والمرسل إليه الأول مع أنصاره ثم الصراع فالاعتراف والقبول وتغير الحالة الأولى .

يشير أركون في معرض قراءته السيميائية إلى أنه في الآية الخامسة « الفاعل –الذات الثاني أي محمد غير باد من الناحية القواعدية ولكنه يظهر في الآية التالية « وإن أحد من المؤمنين استجارك « أما الفاعل الذات الأول أي الله فإنه يستطيع أن يخاطب البشر المرسل إليه الجماعي أي البشر إنه يتوجه أليهم عن طريق الأوامر « اقتلوا، أسروا، حاصروا، اضربوا «. هكذا من وجهة نظر أركون تتأكد الوحدة السردية التمثيلية المشكلة من الفاعل الذات الأول «الله « الفاعل الذات الثاني « محمد « الفاعل الذات الثالث «البشر» أي حزب الحق –الخير –العدل « تاريخ النجاة « مقابل حزب الخطأ – الظلم – حزب المعارضين –الذين يشار إليهم احتقارا عن طريق ضمير الشخص الثالث «هم –لهم « مشيرا الى أن المعارضين وصفهم كان يختزل إلى كلمة «وأحد المشركين» لقد رموا كليا في ساحة الشر والسلب والموت، دون أن يقدم النص تفسير أو تعليل لهذا الرفض والطرد.

يرى أركون أن السلوب العام للسورة ومفرداتها يقوم على الدلالة الحرفية والفهم المباشر ولا يوجد غير القليل من المجاز عكس بقية الخطاب القرآني حيث يرى أركون أنه يعتمد على المجاز بشكل عام.[7]

الأرثوذكسيات المتعصبة تشكلت منذ اللحظة القرآنية الأولى

يرى أركون أنه منذ اللحظة الأولى القرآنية بدأت تتجمع وتتشكل عناصر الأرثوذكسية الصارمة التي نقلت وكأنها يقينات « إلهية « وسوف تضع هذه اليقينات بعد ذلك كل ثقلها على القراءات والتفاسير وأصبحت تلعب دور الدعائم للعديد من الأرثوذكسيات العديدة « الحركات الإسلاموية « التي راحت تضيق وتجف أكثر فأكثر وتستمر حتى يومنا هذا حسب تعبير أركون.

ينتقل أركون للآيات التالية حيث يرى أن كل مفرداتها تتمحور حول المصطلح المركزي للتوبة مثل « المؤمنون ،منافقون ،كافرون ، مشركون ،زكاة ، صلاة …».

يستطرد أركون في تفكيكه لآيات سورة التوبة قائلا « نلحظ الآن القيمة المزدوجة للتوبة فهي  تعنى أساسا استسلام المعارضين دون قيد أو شرط أو تعنى « سلام الشجعان « الذى يتيح لمعارض الأمس أن يصبح محاربا متحمسا من أجل الانتصار المطلق للذات المثالية من علائم الاستسلام والطاعة هي  الصلاة والزكاة لقد عرض الخطاب القرآني هذين العملين على أنهما دنيين بشكل كام على الرغم من أنهما يقومان بوظيفة حاسمة في الدمج الاجتماعي والسياسي « مثل الصلاة خلف النبي أو دفع ضريبة تغير اسمها من مغرم إلى صدقة أو زكاة فذلك يعنى احداث قطيعة مع العصبيات التقليدية ، كما يعنى ترك الآباء والزوجات والأطفال من أجل الالتحاق بجماعة جديدة وذلك يفسر لنا رفض البدو الأعراب للانخراط في الجهاد الذى صور على أنه من أجل الله ولكنه كان يمارس آليته في الواقع طبقا للممارسات التقليدية للصراع بين الفئات الاجتماعية المختلفة ومن أجل الأهداف نفسها « .  [8 ]

أركون يقصد بالممارسات التقليدية للصراع نصب الكمائن، القتل، الأسر، السلب، الغنية، والأهداف انتزاع السلطة، ترسيخ الدولة الوليدة.

يرى أركون في كتابه من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني « إن تحليل الخطاب الديني أو تفكيكه يتم لا لتقديم معانيه الصحيحة وإبطال التفاسير الموروثة بل لإبراز الصفات اللسانية واللغوية وآليات العرض والاستدلال والإقناع والتبليغ « . [9]

وختاما نستطيع أن نقول إن أركون استطاع وبجدارة استنطاق النص فأخرج منه كل ما حرمنا من معرفته عقود طويلة لذلك فهو مؤمن حد اليقين أن العلوم الاجتماعية والإنسانية ليست إلا جوابا ملائما لكل حاجيات المعرفة التي أنتجتها المجتمعات الغربية فهي ممارسة ذهنية وفكرية لابد أن نعود الجمهور العربي والإسلامي على تطبيقها كي نقظه ونعود به إلى منطقة السؤال واختراق حيز اللامفكر فيه .

مصادر

-1 كتاب الدكتور محمد أركون، من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص35

-2 نفس المصدر السا بق

-3كتاب الدكتور محمد أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية ص93

-4 نفس المصدر السابق ص93

-5 نفس المصدر السابق ص93

-6 نفس المصدر السابق ص94

-7 كتاب الدكتور محمد أركون، الفكر الإسلامي  قراءة علمية  ص 97ص98

-8 نفس المصدر السابق ص 98

-9 كتاب الدكتور محمد اركون من التفكير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص5

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق