سياسة

حلايب وادي النيل

 

بدر الدين العتاق

شهدت العلاقات السياسية بين مصر والسودان في الفترة الماضية شد وجذب خصوصاً تلك التي تناولتها وسائل الإعلام المختلفة بين الجانبين في تباين الأوضاع وتضارب التصريحات بين رئيسيّ وزراء البلدين وذلك في القضية المعروفة بمثلث حلايب وشلاتين وأبو رمادة. لكلا البلدين وجه نظرهما في قضية مثلث حلايب من حيث التبعية السيادية عليها وذلك حسب نص الاتفاق الموقع إبَّان الحكم الثنائي على السودان الإنجليزي المصري، في العام: 1899 م والذي جعل لمنطقة المثلث حدوداً تابعة للسيادة والإدارة السودانية باعتبارها الأقرب للخرطوم منها إلى أسوان المصرية والذي عُدِّل فيما بعد بنص اتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين في العام: 1902 م وأقر بتبعية المثلث للسيادة المصرية.

أثبتت الوثائق المودعة لدي الأمم المتحدة من قبل نيل استقلال البلدين أنَّ مثلث حلايب يتبع للسيادة والإدارة السودانية وأنَّ دولة مصر تخلت عنه إدارياً للسودان. تناول الكاتب د. جمال شقرة أستاذ التأريخ الحديث والمعاصر ومدير مركز الشرق الأوسط بجامعة عين شمس مؤخراً بتاريخ: 11 / 5 / 2016 م في مجلة المصوِّر المصرية، العدد: 4779، ص 80 أزمة حلايب وشلاتين ( 2 – 5 ) تحت عنوان: مفهوم الحدود ونشأة الحدود العربية، قدّم الكاتب فيه صورا طبوغرافية توضح حدود مصر الجنوبية ومن ثمّة خريطة مرفقة بفرمان : 13 فبراير 1841 م فضلا عن خريطة مصدرها وثائق الخارجية المصرية تفيد في الظاهر تبعية المثلث مرة لمصر ومرة للسودان وفي التدقيق (خرطة: 13 / 2 / 1841 م ) يميل الخط الحدودي الجنوبي المصري دخول منطقة المثلث ضمن الحدود السودانية وفي نفس الخرطة في ترسيم الحدود في العام: 1907 م يظهر الخط أعلاه دخول المثلث ضمن الحدود المصرية (دقق النظر جيداً في التواريخ أعلاه والفضل ما شهدت به الأمصار) مما يعني دخولها ضمن الحدود السودانية ما قبل العام :1899 م .

لقد فتح قضية المثلث الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بالموافقة لحكومة السيد عبد الله بك خليل وحكومته الائتلافية عام :1958 م ، وقد تم تأجيل التفاوض عليها حفاظاً علي العلاقات التي تربط بين البدين والموصوفة بالأزلية، فيما عرض الكاتب د .جمال شقرة أستاذ التأريخ الحديث أنَّ وزارة الخارجية المصرية أعدت مذكرتين جديدتين حول نفس الموضوع: مياه النيل والحدود، الأولى يوم 30 نوفمبر 1957م ، والثانية يوم 19 ديسمبر 1957م، انتهت كل منهما إلى ” اقتراح يقتضي ضرورة تقديم مذكرة إلى الحكومة السودانية لرد الحدود بين مصر و السودان إلي أصلها، حسب نصوص اتفاقية: 1899 م، وأضاف “ومع ذلك انتهت المذكرة الخاصة بإعادة الحدود إلي ما كانت عليه” نفس المرجع، ص: 81 .

وقال مضيفا لما سبق: “فيما يتعلق بموقف السودان فلن يخرج من الاحتمالات الآتية”:

أ) قد ترد الحكومة السودانية بالموافقة وتسلم لمصر بما لها من حقوق وسيادة على أرضها.

ب) قد تعد بدراسة المسألة.

ج) قد ترد منكرة على مصر حقها في هذه الأرض.

د) لا ترد مطلقاً.

أشار التقرير الذي كتبه د. جمال شقرة إلي أنَّ قضية حلايب قصدت منها المخابرات المصرية أن تكون إحدى نقاط القوة عند الضرورة في الأيدي السودانية وكان ذلك في اجتماع عقد بإدارة الشئون الإفريقية حضره وزير الداخلية زكريا محي الدين ووزير الدولة لشئون رئاسة الجمهورية علي صبري والمستشار السياسي للرئيس عبد الناصر حسين ذو الفقار صبري ومدير إدارة الشئون الإفريقية ومحمد فائق ممثلاً لإدارة المخابرات العامة، وأضاف “فإنه علي القوات المسلحة المصرية أن تتقدم من مراكز تجمعها إلي المثلث المتنازع عليه من أرض مصر وتضع الأمور في نصابها”، المصدر السابق .

الجدير بالذكر أن التركيبة الاجتماعية لأهالي المثلث تنطوي على عدة قبائل سودانية هي الرشايدة والعبابدة والبشاريين وخليط من قبائل سواحل البحر الأحمر كالهدندوة والبني عامر والأمرار، ولم تعرف مصر هذه التركيبة القبلية من قبل، لا بهذا المثلث ولا بغيره، وترجع مصر إلى جذورها الاجتماعية من القبط والشراكسة والأرمن واليهود والنوبيين، ذلك من قبل عهد المسيح عليه السلام وأخذت هذا الاسم Egybt من لفظة إيقيبت مصدر القبط بتخفيف القاف والباء وقلب الطاء تاء، وإلاَّ فإن الاسم الصحيح لمصر هو : Misr وليس Egybt وليس إيجيبت القبطية، أبعد من ذلك، من قبل عهد موسي عليه السلام 3000 سنة ق. م ، وجاء القرآن ليقول: (وأوحينا إلى موسي وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً، واجعلوا بيوتكم قبلة، وأقيموا الصلاة، وبشر المؤمنين) سورة يونس ج 11 آية 87. كلمة “قبلة” تعني القبيلة وليس الواجهة، المنزلة، السكنى أو المقام وإن كانت في ظاهر الآية تقول ذلك في رأي بعض المفسرين، وهي القبائل اليهودية التي انحدرت منها السلالات المسيحية فيما بعد كما هو معروف عن الديانات الفرعية آنذاك كالفرعونية وعبدة الشمس وما إلي ذلك، وكما هو معروف أن المسيحية تتبع لليهودية كدين متمم للموسوية، إذ يعتبر المصريون أنفسهم أهل حضارة عمرها 7000 ألف سنة وهي المعروفة تاريخيا بحضارة وادي النيل وحدودها حتي وسط إفريقيا بالصحراء الشرقية وشمالاً حتي حدود ليبيا وجنوبا ما بعد الشلال السادس وشمالاً حتى ما بعد أسوان وهي المنطقة الواقعة بها مثلث حلايب بأرض وادي النيل، وذكر بعض علماء التاريخ والآثار أنَّ تلك المنطقة كانت تسمى بارض إثيوبيا وأول من اكتشفها هم الإغريق واليونان، راجع دراسات “أضواء علي الحضارة السودانية د. جعفر ميرغني عبد الله”، أستاذ الحضارة والتاريخ بجامعة الخرطوم ورئيس معهد الأثنوجرافيا بالخرطوم، وأعني بالقبائل اليهودية من نص الآية وليس كالمتعارف عليها عندنا في السودان كـــــــالهدندوة والبني هلبه والجعليين وغيرهم، بمعني آخر، هم سلالات ترهاقا وبعانخي النوبي الذين حكموا أرض النوبة، أرض وادي النيل ، اللذين جاء ذكرهما في التوراة وهم من ذرية يعقوب عليه السلام وقطنوا مصر وشمال السودان، ودخلت العروبة مصر بعد اتفاقية البقط مع عبد الله بن أبي السرح سنة 651 ه وبين مملكة المقرة الدولة المسيحية التي يحكمها ( كالديرات) ، أو بمعنى أدق، دخل الإسلام بلاد مصر في عهد بن أبي سرح وعمرو بن العاص. تبلغ مساحة المثلث حوالي 20.580 ك م، وتقع غرب البحر الأحمر موازاية الساحل وبها موارد طبيعية ومعدنية وتعتبر أرض خصبة، ونقطة الخلاف في تبعيتها السيادية وليس الموارد الطبيعية.

تمصير المثلث بغرض الإيعاز والاعتراف الشعبي من قبل مصر بأنها مصرية لا تقبل التفاوض وذلك من المبالغ المرصودة للبني التحتية من كهرباء ومياه وطرق وجسور ومنح الجنسية المصرية ومعمار لأكثر من مليار دولار، إلاَّ أنَّ التركيبة السكانية المجتمعية من حيث العادات والتقاليد والأعراف تكذب المقولات بأنها مصرية بل تؤكد بأنها سودانية، وأنَّ ما تقوم به جمعية “تكافل وكرامة” المصرية ما هي إلاَّ محاولات فاشلة لإضعاف واستدراج المواطن المثلثي حال قيام انتخابات أو استفتاء شعبي للتصويت لصالح مصر.

تتجه الحكومة السودانية لحل هذا الإشكال إلى إحدى ثلاث سبل:

١) الاعتراف بحدود 1899 م واتفاقية الحكم الثنائي وتبعية المثلث للسيادة والإدارة السودانية شمال خط 22 شمال من الحدود المشتركة.

٢) جعلها منطقة تكامل لحفظ العلاقات (الاستثنائية) بين البلدين.

٣) التحكيم الدولي والرجوع للوثاق الدولية بالهيئة العامة للأمم المتحدة بنيويورك.

ملحوظة:

مصطلح العلاقات الأزلية جاء من واقعية تأريخ أرض وادي النيل الزمان والمكان والسكان بينما تتجه الحكومة المصرية في هذا الجانب لإحدى ثلاث:

١) عدم الاعتراف بتبعية المثلث للسيادة والأراضي السودانية بالرجوع لاتفاقية: 1902 م، في ترسيم الحدود.

٢) تمصير المثلث ومنح الجنسية المصرية وأعمال البنى التحتية للتمهيد نحو تمصيرها حال قيام انتخابات أو استفتاء شعبي أو تحكيم دولي أو ما شابه.

٣) لن تذهب الحكومة المصرية للتحكيم الدولي للبت في قضية المثلث باعتبارها لا تحتاج إلى تدويل لأنها – حسب رأيهم – مصرية، وعلى الجانب السوداني فعل ما يشاء.

أن تظل مشكلة حلايب في نظر المجتمع الدولي قائمة خير من أنْ تُحل وذلك لذريعة التدخل الدولي السالب حال نشوب أو تأزم للموقف بين البلدين باعتبارها وسيلة ضغط أو قنبلة موقوتة يمكن من خلالها التضييق علي الحكومة السودانية ذات المرجعية الإسلامية المخالفة طوال ثلاثين عاما ، ذلك ما يراه المجتمع الدولي والأميركي خاصة، أو أن تُغَيِّر حكومة الخرطوم (التي سقطت الآن بفضل الثورة) نهجها أو إسقاطها عن طريق خلق مشكلات وتضخيمها وعلي الجانب المصري لعب ذلك الدور بالوكالة أو بالأصالة كما حدث في عزل الرئيس محمد مرسي لأن الغرب خاصة لا تتماشي فكرته مع الأنظمة الإسلامية خصوصاً ظهور الحركات الإسلامية المختلفة المسميات وانتهاجها نهجاً مغايراً في العمل الإسلامي المنظم، وهو الخط الذي لم ولن تقبله مصر ولا شعبها ذو الأيدولوجيات الباحثة عن نظام دولة بعيداً عن الدين الإخواني في المحيط الإقليمي فضلاً عن أنه لا يتماشى مع التركيبة السكانية .

وفيما تبحث مصر وشعبها لتعزيز علاقاتها مع الدول الكبري خصوصاً روسيا في السياسة الجديدة لها، كما أنَّ جارتها إسرائيل ذات الكامب ديفيد: 1979م، واتفاقية السلام الموقعة بين البلدين لن تسمح لدول الجوار ولا أميركا المساس بأمن إسرائيل وحال ذاك ينظر للمعادلة الدولية نحو السودان أن تظل مصر والسودان في هذه القنبلة الموقوتة للمصالح والأطماع في دول المنبع والاستفادة من الموارد الطبيعية التي تزخر بها السودان، وفي الجانب المصري تحديداً لا يستبعد أن تكون منطقة تكامل وهو ما يخرج  تقريباً عن التركيبة السودانية التي لا تعترف إلا بالسيادة السودانية على أراضيها إرجاعاً لاتفاقية 1899م .

إنَّ تفويت الفرصة على المتآمرين على البلدين وزعزعة الأمن والاستقرار بخلق وزرع تلك القنبلة الموقوتة لهو ما يمثل طموحهما وطموح شعبيهما وهو أقرب الحلول في انتهاء الأزمة وجعلها تتبع لوادي النيل اصطلاحا لما له الأثر في تقبل الأمر من الجانبين علماً بأنَّ المنطقة يرجع تأريخها إلى ما قبل صناعة الدول من أزلية المكان والزمان والإنسان

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. شكرررررررراً نبيلاً على النشر والمتابعة والإهتمام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق