
صلاح إبراهيم النيل
نشر الاستاذ فوزي بشرى، نجم قناة الجزيرة اللامع، صوراَ لعناوين بضعة صحف صدرت في الثاني من مارس الجاري و هي تنذر كلها و تحذر من كوارث أمنية و إقتصادية تحاصر البلاد وقتها أو كانت تلوح نذرها. و لأن ما يكتبه فوزي لا يمر مرور الكرام، فقد انهالت عليه الردود و المداخلات. أحصيت أكثر من مائة تعليق و رد يرمي كاتبو ثلثيها اللوم على أحد طرفي الصراع الحالي (العسكريين و المدنيين) أو السابق (أعوان النظام السابق و الحرية و التغيير) أو على المعسكرين معا، كل حسب موقعه. حتى الذين لم يهاجموا طرفا، اكتفوا بالحسبلة و الحوقلة و التساؤل «ما الحل؟». لم يقدم أي منهم حلاً أو مقترح حل يصلح أن يكون بارقة ضوء في نهاية النفق الذي أدخلنا أنفسنا فيه. كتبت له معلقاً : «إن (شتارة) بعض الرودود و التعليقات على ما نشرتَ تصلح أن تكون عنواناً رئيساً لصحف الغد!»..
لم أجد ـ صراحةً ـ أعجب مما نفعله ـ نحن السودانيين ـ بأنفسنا و ببلدنا : النار تحيط بدارنا و نحن نصفق بحسبانها سانحة لإتهام بعضنا بعضاً ـ صدقاً أو كذباً ـ بإشعالها، بدل أن نتكاتف معاً لإطفائها أولاً ثم نبحث بعد ذلك عن الفاعل. و عندما يتلاشي الدخان ويسفر الصبح قد لا نجد وطناً نتقاتل على كراسي حكمه. شعارنا دوماً «الرهيفة التنقد» حتى لو كانت الرهيفة هذه ثوباً يستر عرينا أو داراً تستكن بها حرمتنا. و قد يهرول أمثلُنا طريقة إلى الجيران و الأباعد يدعوهم لإطفائها. و إن فعلوا، و قليلا ما يفعلون، صرنا نتصارخ من التدخل الخارجي في أمورنا ونتباكى على السيادة الوطنية المستباحة.
و أصدق مثال لعدم محاولة التفكير حلول هو أننا جعلنا شعار ثورة ديسمبر «تسقط بس» دون التفكير فيما بعد السقوط لمواجهة المشاكل السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و غيرها من تركة نظام البشير الثقيلة. لقد بدأت الثورة ضد النظام السابق في مطلع ديسمبر 2018 (في السادس منه بقرية مايرنو) و أطاحت به في الحادي عشر من أبريل 2019. طيلة هذه المدة، لم يقدم حزب سياسي واحد و لا مفكر سوداني و لا مركز بحث خطة سياسية أقتصادية أو إجتماعية أو أمنية او دبلوماسية مفصلة لمرحلة ما بعد البشير، رغم تأكيد السيدة مريم الصادق المهدي (3 مارس 2019) أن المعارضة «قد ناقشت تفاصيل فترة ما بعد البشير و سمّت الشخصيات التي ستدير البلاد خلال هذه الفترة». و ليس أدل على أن ذلك لم يحدث من قول والدها، عليه رحمة الله، بعد شهر من ذلك (3 ابريل 2019) «إن وثيقة قومية تفصل إجراءات مرحلة ما بعد البشير (ستُقدَّم) للقوى السياسية لدراستها». كثيرون قالوا مثل ذلك، لكننا ذكرنا حزب الأمة تحديدا لأنه الأعرق و الأكثر تنظيما و حضورا و تماسكاً رغم عمليات الإنشقاق التي أصابته و فتت عضد غيره من الأحزاب.
الغريب في الأمر أن هذه الغفلة استمرت حتى بعد الإطاحة بنظام البشير و توقيع الوثيقة الدستورية في 5 يوليو 2019 (التوقيع الرسمي كان في 17 أغسطس)، أي بعد نحو 7 أشهر من بدء الاحتجاجات الشعبية و حوالي 3 أشهر من سقوط النظام. حتى المفاوضات بين القوى السياسية و بينها و بين المجلس العسكرى، و التي هريقت خلالها دماء عزيزة، كانت تدور حول مَن يحكم البلد لا حول كيف يُحكم. فقد كانت تراوح بين تسليم السلطة للمدنيين و مشاركة العسكريين في الحكومة و بين نسبة كل فريق، في حال ارتضيا الشراكة، و بين من يحق له المشاركة و من يحرم منها…الخ. و لذلك أتينا بالدكتور عبد الله حمدوك و ألقينا به في لجة بحرنا المضطرب و أكتفينا بـ»شكراً حمدوك» دون أن نضع بين يديه برنامجاً جاهراً يهتدي به أو نساعده في وضح خطة يسير عليها. فقد صرح في لقاء مع الجالية السودانية في العاصمة السعودية بالرياض (6 اكتوبر 2019) بانه طلب من الحرية و التغيير برنامج إسعافي وبرنامج السياسات للفترة الإنتقالية لكنه لم يتلق أي رد، مضيفا أن مجلس الوزراء (لجأ) إلى وضع برنامج من الوثيقة الدستورية وإعلان الحرية والتغيير.
وفي حالة التفكير في حلول، يتم تفصيلها حسب مقاس من وضعها. منذ قرارات الفريق أول البرهان في 25 أكتوبر، التي من المفترض أن توحد معارضيها، طُرحت قرابة العشر مبادرات محلية لحل الأزمة السياسبة في البلد، بدءاً بمبادرة حزب الأمة (خارطة طريق : استعادة الشرعية و استكمال المرحة الانتقالية) و انتهاء بمبادرة لجان المقاومة (ميثاق سلطة الشعب)، مرورا بمبادرة أستاذة الجامعات السودانية و مبادرة المؤتمر الشعبي (تدابير الانتقال) و مبادرة تجمع المهنيين (ميثاق استكمال ثورة ديسمبر المجيدة) و غيرها، علاوة على مبادرات بعثة الأمم المتحدة و الايغاد و الاتحاد الافريقي و جنوب السودان. الغريب أن كل المبادرات السودانية تحمل نفس الملامح و تسعى لتحقيق نفس الهدف : استكمال و تحقيق مطلوبات المرحلة الانتقالية و قيام الانتخابات في نهايتها. لكنها لم تنجح ـ و لن تنجح ـ لأن كلاً من يرى ورقته الوحيدة التي تصلح لإقالة البلاد من عثرتها و ليس على استعداد للجلوس مع الآخرين للإتفاق على مبادرة جامعة مُجمع عليها، بالتأكيد على المتفق عليه و مناقشة المختلف حوله. فكل أحمد فيهم، كما قال دكتور محمد الواثق، رحمه الله، « من أوشيك منقبض وكل هــارون لا يرضى بملوال».
عدم تقديم الحلول يترك الحريق مشتعلاً. و قد يقيض الله له من يخمده. لكننا نصبُّ الزيت على النار بمحاولاتنا الانفراد بالحكم و اقصاء الآخرين باستخدام أدوات السلطة. و هي أشد إيذاءاً للبلد، لأن من يُقصَى لن يستكين، بل سيحاول هدم المعبد على رؤوس الجميع: فعلتها الأحزاب الدينية مع الشيوعيين في الستينات فدبروا انقلاب نميري. فعلها النميري في السبعينات فتكونت الجبهة الوطنية التي غزت الخرطوم في 2 يوليو 1976. فعلها البشير في الثمانينات فكون التجمع الوطني «قوات التحالف» و الأمة «جيش الأمة» و الإتحاديون «جيش الفتح» و أهل الشرق «الأسود الحرة» فحاربوا نظامه و قطعوا الطريق القومي و فجروا انابيب البترول (سبتمبر 1999) باعتباره هدفا مشروعا (كما قال الراحل عبد العزيز خالد في تصريح لـ ,mbcو الفريق عبد الرحمن سعيد لاحقا). و الغريب أن حزب الأمة قد قال قبل عملية التفجير « ان البترول، انتاجاً وترحيلاً وتصديراً، لن يحميه الا التوصل لاتفاق سياسي شامل يحقق الأمن والاستقرار في البلاد». و من لم يكوّن جيشاً إنضم للحركة الشعبيىة لمحاربة نظام البشير. و اختار آخرون اللجوء إلى الغرب لتحريضه على حصاره. لكن النظام عاش ثلاثين عاما و خسر الوطن و المواطن. و فعلتها أيضا الحرية و التغيير فيما بعد. ما أكثر العبر و أقل الاعتبار. المؤسف أننا صرنا نقدم أرقاماً لحجم خسائر الدولة من إضراباتنا و قفلنا للطرق القومية. نتباها بها دلالة على الأذى الذي سببناه لها. و في الفترة الأخيرة إنصرفنا عن التفكير في البحث عن حل للأزمة التي تعصف بنا إلى التفكير في البحث عن أنجع الطرق لإلحاق أفدح الأذى بالخصم، أياً كان تأثير ما نفعل على أمن الوطن و المواطن.
في ظل حالة الاستقطاب هذه، بتنا نعرف الحق بالرجال، لا الرجال بالحق. فكل ما أقوله أو يقوله و يفعله من أصطفُ معه حقٌ أبلجٌ لا يأتيه باطل من بين يديه و لا من خلفه. و كل ما يقوله و يفعله من يقف في الضفة الأخري باطلٌ لجلجٌ و كفرٌ بواح. لا تذهب عقولنا إلا إلى ما نرغب فيه و لا ترى عيوننا إلا ما نتمناه. أفهمنا شبابنا أنهم «الجيل الراكب راس» بدل أن نعلمهم مكرمة الحوار و المجادلة بالتي هي أحسن و الاعتراف بالخطأ، متى ثبت ذلك. و ما في ذلك غرابة، فقد صفقنا للزعيم الأزهري عندما رفض الجمعية التشريعية قائلاً: « سنرفضها و لو جاءت مبرأة من عيب». و هي الجملة التي « ظلت ـ منذ خمسينيات القرن الماضي ـ تعتقل السياسة السودانية في الدائرة اللعينة»، كما قال أحدهم. و يعتبر الدكتور محمد المصطفى موسى الجمعية التشريعية «واحدة من أحداث تاريخية شتى يتباين تقييم العقل الجمعي السوداني لها ما بين الانطباعية المفرطة إلى الغلو المتشدد، الذي يلغي روح البحث والتقصي للوصول إلى حقائق الأشياء». خرج عن هذه القاعدة بعض سياسيينا، منهم، ممن وقفت على ما قالوا، الدكتورة سهير صلاح الدين أستاذة العلوم السياسية بجامعة الزعيم الأزهري و القيادية بحزب المؤتمر الشعبي، عندما وصفت الوثيقة الدستورة حين التوقيع الأول عليها في 5 يوليو 2019 بأنها «ثنائية و لكنها إيجابية». و قد أثنى د. البوني على الدكتورة سهير بقوله: « في تقديري أن الدكتورة قد تسامت على جرح الخاطر السياسي […] و دعتنا إلى نسيان القاعدة الشعبية (يا فيها يا أطفيها) ومكابرة (سوف نرفضها ولو جاءت مبراة من كل عيب). وما أضاع البلاد وعذب العباد إلا هذه المماحكات».
النار تحاصرنا جميعاً. دعونا نحاصرها بمواجهة أمورنا بالصدق مع النفس، دون تضخيم للذات و لا تقزيم للخصم. و نهمس في أذن كل من ينبري للهجوم أو الدفاع أنتصاراً للذات بأن الوطن (يتسع للدومة والضريح ومكنة الماء ومحطة الباخرة).