سياسة

خارج المتاهة

الوطن ... بين القوى السياسية وتحالف البرهان/حميدتي

محمد عتيق

صحيحٌ ، أن أحزابنا السياسية -بشكل عام- قد أدركت ثورة ديسمبر ٢٠١٨ السودانية مُجْهَدَةً ، مُستَنْفَذَةً ومُمَزَّقة ، واصطَفَّتْ بسرعة في الكيان الذي أسسته «قوى الحرية والتغيير» ، وإضافةً لارتباطاتها السابقة أصبحت لها مصالح وتحالفات أخرى محلية وإقليمية ودولية ، وخاضت تجربةً امتدت لثلاث أعوام ، اللون الغالب فيها : التنافس السلبي الذاتي أكثر من قضايا الثورة ومشكلات الوطن إلى أن إنقلب عليها المكون العسكري بقيادة البرهان وحميدتي في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ .. وتحالف البرهان/حميدتي هذا يلتقي ويصطدم في نفس الوقت ، كلاهما (تحالفاً وانفراداً) يمثلان خطراً تاريخياً جديداً ليس على الثورة فحسب وإنما على الوطن أيضاً في وحدته ومستقبل أهله ..

قوات الدعم السريع ، «مليشيات الجنجويد» التي أثقلت كاهل المجتمعات المحلية في دارفور بالمجازر الدامية قتلاً وحرقاً وانتزاعاً للأراضي و»الحواكير» ودفعاً للأحياء منهم إلى معسكرات النزوح واللجوء وِفْقَ خطةٍ عنصريةٍ شرسة لتغيير التركيبة السكانية فيها ، واستطاعت أن تنال ثقة الرئيس الساقط المخلوع البشير ألذي أنعم عليها بالرتب العسكرية وجَلَبَها إلى العاصمة لتبقى في حمايته .. واقتصادياً اعتمدت على الارتزاق بقواتها العسكرية ، ثم استولت على مصدر ضخم للمال عندما وضعت يدها على مناجمَ للذهب ، بعض ثروات الوطن في باطن الأرض ، فأسست الشركات والمؤسسات داخل وخارج القطر ، ليصبح قائدها وعائلته ( آل دقلو ) من أهم أثرياء المنطقة ، ولا بد للثراء من وجاهةٍ أخرى ؛ فلا أقلّ من الزعامة السياسية ، وبذلك أصبح لحلمه الأثير (أن يكون رئيساً للسودان) بُعداً اقتصادياً إضافياً وهو حماية هذه الثروة المتنامية بقوة ، إذ أن ثورة ديسمبر وقواها ، ومنطق التاريخ ، تدعو لحل الجنجويد وبالتالي  نزع مصادر الثروة الوطنية منه (المناجم ، العقارات ، الأراضي الزراعية …الخ) ..

     في تحالفه مع البرهان في إطار انقلاب ٢٥ ديسمبر ٢٠٢١ استهدفَا – وجماعتيهما – الاحتماء من جرائمهم في دارفور وفي فض الاعتصام والمقتلة الرهيبة الجارية بحق الثوار منذ انقلابهم في ٢٥ أكتوبر الماضي وحتى الآن

، وفي نفس الوقت ، يصطدمان :

– ذاك (البرهان) قائد الجيش  -افتراضاً- والمسؤول الأول من ٨٢٪ من مقومات البلاد الاقتصادية بعيداً عن أيدي ورقابة الدولة ، لا بد له أن يكون هو الرئيس لاستدامة الانتفاع بتلك الأموال وحمايتها من النزع ..

– وهذا ، من تحدثنا عن ثرائه الذي يود حمايته بالرئاسة التي هي أصلاً هدفه وطموحه ومحط عينيه ..

– ذاك باستثارة القوات المسلحة والنظامية الأخرى وربطها به وبأهدافه بالنتيجة، والطواف على دول الإقليم واستجداء الدعم من قادتها ومن النظام الساقط وعناصره ..

– وهذا ، بإثارة النزعات القَبَليّة والطائفية والإقليمية ، إحياءاً للإدارات الأهلية وابتداعاً لوسائل تفتيتٍ قَبَليّ تعتمد التحديد الجغرافي الدقيق لأراضي كل قبيلة ورَسْم حدودٍ بينها وقد بدأها في شرق البلاد ، وفي ذلك يعقد المؤتمرات المتخصصة معتمداً على طيفٍ من المثقفين «الانتهازيين» يعملون لديه مستشارينَ في مجالات مختلفة ، منهم من يعمل علناً ومنهم من يعمل سراً ، يغدق عليهم المال الوفير والسيارات الجديدة ذات الدفع الرباعي .. باختصار : هو يتمدَّد ويتمدَّدْ جغرافياً واجتماعياً في أقاليم البلاد ، واقتصادياً في ثرواتها بظاهر وباطن الأرض ، وفي ذمم بعض أبنائها المتعلمين.

ومع هذه الأهوال التي تواجه  القوى السياسية ، أمامها أيضاً دمار شامل في الدولة تعليماً ومجتمعاً واقتصاداً ووجوداً أجنبياً مشبوهاً ومتعدد الوجوه ، ومع ذلك ، تبدو (تلك الأهوال والدمار الشامل) وكأنها غائبة عن الأحزاب السياسية ، ويكاد المراقب أن يقول أنها غائبة عنها بالفعل عندما يرى حجم التشاكس وحمى التنافس الذاتي بينها على مراكز النفوذ وسط شباب البلاد ووقود ثورتها (لجان المقاومة) سبيلاً للسلطة ؛ مَنْ يستطيع أن يقول غير ذلك ؟ فالمشهد ذاته الذي في العاصمة نراه وقد انتقل إلى مدينة ود مدني في طريقه إلى كل الأقاليم :

** المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير (الموصوف بأنه اختطف قحت) : يرى أن أعضاءه من الأحزاب هم فقط قوى الحرية والتغيير وأنهم المسيطرون على لجان المقاومة وعلى مصير الثورة..

** الحزب الشيوعي : يرفض الجميع ويتهمهم بالعمالة و «الهبوط الناعم» ولا يرى إلّا نفسه جديراً بقيادة لجان المقاومة وعموم الثورة ..

** الحركات المسلحة ، أطراف سلام جوبا ، تماهت تماماً مع الانقلاب ؛ تحريضاً وتنفيذاً ، وذهبت في عداءٍ سافرٍ لنفسها عندما تحالفت مع عدوها الرئيسي (وسبب نشوئها) ، افتراضاً : الجنجويد وقيادات الساقط في القوات المسلحة والأجهزة النظامية ، وعندما خانت مبادئ وقيم التحرر الوطني واعترفت بإسرائيل .. تُغذِّي بعض قياداتها عُقد تاريخية باطلة البناءات والمعاني ..

هذه – باختصار – مواقف القوى السياسية حتى اللحظة ، ورغم التقدير التام والتفَهُّم للظروف القاسية التي مرّت بها أحزابنا تلك وجعلت أنفاسها متقطِّعةً عند اندلاع ثورة ديسمبر٢٠١٨، إلّا أننا نرى في تجربة الأعوام الثلاثة الماضية زاداً جيداً وإضاءةً كافيةً تنزع بها نحو الموضوعية وتغليب مصالح الوطن ومستقبل شبابه وأجياله خاصةً وأن بين قيادات وكوادر كل الأحزاب وطنيون غيورون ومثقفون مناضلون نثق في عقولهم وفي قدرتهم على الترفُّع والتسامي خاصةً (مرة أخرى) وقد أطلَّ علينا رمضان وأبريل معاً ، ولكُلٍّ دلالاته في ذاكرة الشعب والوطن – أحداثاً وذكريات – نستلهمها في تطوير وتجديد الرؤى ورسم الأولويات :

– ماذا نريد لوطن تشتعل فيه النيران من كل جهة ؟

– وكيف نُريدُ للتاريخ أن يذكرنا ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق