
وسائل التواصل الاجتماعي وطن بلا جغرافيا وإبداع الفوضى غير الخلاقة
عبد العزيز كوكاس
أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي نقلة نوعية في تاريخ البشرية، ويعتبر ظهور العالم السبيراني من أكبر القطائع في التاريخ الإنساني حيث انتقلنا من «الإنسان الصانع» ف»الإنسان العالم» إلى «الإنسان المتصل» homo connecté، فقد أضحت وسائل التواصل الاجتماعي وطنا بلا أرض ولا جغرافيا.. يبحر الزائر بحرية بلا جواز سفر، سوى لغته والحد الأدنى من تقنيات الإبحار البسيطة والميسرة للكل عبر العالم الافتراضي، وبدون حواجز جمركية تفتِّش في حقائب فكره وأشيائه الحميمة، ولا سلطة عليه تفكيراً وتعبيراً.. شباب اختار رموزه ولغته البسيطة ليعبر عن ذاته، ويثبت وجوده، حتى أصبح المرء يعيش افتراضيا ولا يعود إلى واقعه إلا من أجل ضرورات العيش، لكن في قلب كل نعمة هناك نقمة.. فحين نطالع ما ينشر من «إبداعات» على وسائط التواصل الاجتماعي نحس حجم الفوضى التي تضر بجودة الإبداع، إذ لا يوجد حراس ولا رقابة بالمعنى الإيجابي، فالتحرر من كل المقاييس المفترضة في الإبداع، جعلنا أمام نوع من «السيبة» لمن يقترفون الإبداع في كل الفنون والآداب، بلا علوم ولا فنون ولا إلمام بشرط الإبداع ولا مراعاة لمقوماته.. فالكثرة عامة تؤثر على الجودة في كل شيء.
لنتذكر الصيحة التي أطلقها الروائي والفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو، حول مواقع التواصل الاجتماعي التي جعلت الجميع يتحدث كمن يحمل جائزة نوبل، ففي مقابلة له مع صحيفة لاستمبا (la stampa)الإيطالية، قال إيكو إن مواقع مثل تويتر وفيسبوك «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء»، وفي حوار أجرته معه مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية عام 1993 لم يخف إيكو مخاوفه السابقة من الإنترنت، ك»وسيط واسع وغشاش وفاضح، ذاكرة من دون غربلة، حيث لم نعد نميز بين الخطأ والحقيقة، لذلك قادنا إلى تراجع ثقافي».
بالنسبة لأفراد جيلي، يعزف أمبرتو إيكو على وتر حساس، نوستالجيا الحنين لأيام زمان، حين كان عدد المبدعين يعدون على أصابع اليد، والكتاب اللامعون الذين كنا مطالبين بقراءة منتوجهم لحيازة الاستحقاق الأدبي والفني قلة محدودة.. لكن لنتذكر أيضا الصعوبات التي أجلت بروز مواهب الكثير منا – بل أعدمتها أحيانا- وصعوبة الوصول إلى القارئ، كان الإبداع والاعتراف المؤسساتي أشبه بالامتياز الذي لا يخضع بالضرورة لاعتبارات جمالية ونقدية خالصة، لا يجب أن نفكر في أنفسنا نحن الذين كنا في قلب المركز وكانت لدينا صداقات وطيدة مع صحافيين يسهلون ولوجنا إلى عالم النشر، أو في من فرض منا نفسه بقوة على وسائل النشر، بل في الهوامش القصية التي كانت إبداعاتها لا ترى النور ليس لعدم كفاية جودتها الإبداعية، بل لصعوبة الوصول إلى النشر.
إذا سمحت وقائع التواصل الاجتماعي وعلى رأسها الفايسبوك، بأن يمتلك الناس أداة يسيرة وقوية في تأثيرها وتفاعل الآخرين معها للتعبير عن همومهم وقضاياهم بلا وسائط، وأصبح الجيل الجديد يصوغ لغته الخاصة ليعبر عن كينونته، وإذا أضحت الكتب متاحة بشكل غير مسبوق، وتيسر الوصول إلى المعلومات والتفاعل مع كل ما يقع في الفضاء الكوني… فإن الجانب الذي أصبح يبدو لنا غير سليم في مواقع التواصل الاجتماعي هو الفوضى غير الخلاقة التي مست حقول عديدة في مقدمتها الإبداع، حيث أضحت مواقع التواصل الاجتماعي تعج بالحمقى والبلهاء والتافهين وناشري الرداءة بلا حسيب ولا رقيب، والفوضويين وأشباه الشعراء والفنانين والكتاب والمنظرين بلا علم ولا فهم ونجوم فقاعات الصابون الذين يفتون في كل شيء ويقولون الشيء ونقيضه، و»مقترفي» الإبداع في شتى الفنون والآداب التي أصبحت سهلة الامتطاء مثل ظهر حمار..
في تقديري الشخصي يبدو الأمر طبيعيا، فحين كانت وسائل النشر قليلة والوصول إلى الجمهور صعبا، كان المبدعون والكتاب قلة قليلة، وكان شرط الجودة ضروريا، وكان النقد الذاتي الذي يقوم به المبدع حاضرا قبل أن يأتي سيف النقاد، وكذلك مصفاة الانتقاء التي يقوم بها الناشرون من المسؤولين عن الملاحق الثقافية والمجلات المختصة في هذا الباب، ليأتي بعدها النقد الذي يعرف بالنصوص ويقومها كما تقوم القناة، وكما يتم التمييز بين صحيح العملة وزائفها، لكن هذا الزمن ولى، ليس لأن الأمر يتعلق بالصحافة الورقية مقابل «سيبة» الصحافة الإلكترونية، يجب أن ننظر إلى الأمر من زاوية أخرى.. أقل سلبية.
ما يحدث في هذا الفضاء الأزرق يرتبط بشكل مباشر باتساع قاعدة التعليم وانتشار عدد المتعلمين بشكل أفقي، وهو ما جذب شرائح عديدة أصبحت منخرطة في استهلاك وإنتاج الرأسمال الرمزي، لذلك يشتكي الناس عادة من ضعف التعليم والصحافة والإبداع، والحقيقة أن ما حدث هو أن امتداد التعليم أفقيا كان لا بد أن ينعكس على ضعف الجودة عموديا، إن محور الانتقاء كان يصنع الصفوة في التعليم كما في الأدب والثقافة والفن على عهدنا ومن سبقونا، لذلك كانت للشهادة الابتدائية والبروفي فالأحرى شهادة البكالوريا قيمتها، إن الأمر أشبه بأكلة يعدها طباخ ماهر لبضعة أشخاص، مقابل إعداد وجبة لثكنة عسكرية أو «بطايون» من الجنود، فالجودة ستضعف ولذة الطبخ ستتأثر بطبيعة الحال، وعلينا أن نختار بين الامتياز الثقافي والاحتكار الإبداعي لصفوة الصفوة أو الإيمان بحق الناس في صنع بلاغتهم الخاصة، وننتظر وفق سلم التطور والانتقاء لفرز الغث من السمين، وتحمل تبعات كل اختيار إذا كان ممكن الحديث عن إمكانية اختيارنا أصلا..
إن الطبيعة الملازمة للثقافة الجماهيرية التي تأتي بجحافل من الفاعلين الجدد إلى حقول الكتابة والإبداع وجميع الفنون يكون من نتائجه تراجع المستوى بشكل عام.. يجب أن نقلل من التنبؤات القيامية في تفسير ما يحدث اليوم، كما لو أنه نهاية الإبداع، كما تبشر رؤى العامة بنهاية العالم مع كثرة المباني والعمران والبشر وتبدل القيم المصاحب لكل تطور، وأن ننظر لمواقع التواصل الاجتماعي خارج نظرة أمبرتو إيكو الذي لم ير إلا إلى الجانب السلبي من فايسبوك وتويتر، فمن طبيعة الكثرة الضعف، وسهولة ويسر النشر والتفاعل وكثرة استهلاك المنتوجات الرمزية والمادية تنعكس على الجودة، فحتى النقد لم يعد قادرا على مواكبة ما ينشر، ولا وجود لإبداع حقيقي بلا نقد، لكن الإبداع الرصين الذي يحترم الشروط الجمالية للفن والأدب، هو وحده من سيبقى ويخلد.