
الحكاية من عام ١٩٤٥ … دمشق القديمة
ورد آدم
لم يكد ينقضي عامان على زواجي حتى بدأت المعارك الصغيرة والصدامات بيني وبين أم زوجي، كنت في البداية أسكت دائما وإن على حق خوفا منها واحتراما لها ثم يبدو أن لساني نما قليلا، وملّ الالتصاق بسقف حلقي، فراح يجرب موهبته وقدراته وسعة حركته.
في يوم صيفي انتفضت نشيطة ورحت أنظف الفسحة السماوية للبيت العتيق، سقيت الزرع، والتقطت الأوراق الجافة من الأحواض، شطفت الأرض والجدران وجففتها، نشرت الغسيل وفاحت أخيرا رائحة المنظفات والورد ..
في تلك اللحظة خرجت أم زوجي من غرفتها ببطء وبيدها ابريق ماء سكبته ببرود على الأرض كيفما اتفق وقالت لي: هيا يا بنيتي الأرض متسخة نظفيها وجففيها!
اشتطت غضبا، وقلت لها: لقد سكبتُ للتو دلاء عديدة من الماء ونظفتها كأحسن ما يكون هل تعتقدين أن إبريق الماء الصغير هذا سينظف المكان أفضل من النهر الذي سكبته هنا للتو؟!
ثم دارت بيننا مشادة كلامية، وكنت أعتقد أن الحجة هي ما ستثبت صوابي وخطأها وتنهي الجدال بود، وليس الصبر والتجاوز.
انكفأت العجوز على نفسها ودخلت إلى غرفتها وقد غلبتها بحجتي ولساني الطويل المجنون.
عند العشاء عاد زوجي من عمله، وأول ما سأل عن أمه! قلت هي في غرفتها تقول أنها تريد أن تنام دون عشاء فمعدتها تؤلمها كما أخبرتني.
امتقع لونه على الفور واتجه إلى غرفتها طرق الباب ودخل .. فوجدها جالسة قرب النافذة على ضوء القمر دون أن تشعل مصباح الزيت.. فقال لها:
لماذا تجلسين في العتمة يامو؟
قالت أنا عجوز كبيرة ولا أستحق أن أهدر زيتكم، من أنا لأهدر الزيت ؟!
ارتعش جسد زوجي وارتعشت أنا وسارع زوجي لإشعال المصباح وسألها عن حالها فقالت: كما ترى يا بني قدم في الدنيا وقدم في القبر أسأل الله حسن الختام واللقاء سريعا كي لا أكون ثقيلة عليكم ومكروهة.
غسّل العرق رأس زوجي ووجهه فكرر السؤال على أمه:
يامو أنتي مريضة آخدك عالحكيم؟ زعلانة من شي؟
فقالت: يا بني من أنا لأستحق الذهاب إلى المشفى؟! لا أريد أن أكلفك وأشقيك معي، أنا امرأة مودّعة مسكينة.
جف حلقي وغسّلني العرق كزوجي بل أكثر.. هذا النغم الذي تعزفه أم زوجي جديد تماما، خفت أن تعزو حالها السيئة لما دار بيني وبينها من أخذ ورد في الكلام.
وبينما زوجي راكع على ركبتيه يتودد إليها ويقبل كفيها وإذ بها تمد يدها تحت فخذها وتسحب طبقا معدنيا صغيرا من الألمنيوم، لا يتسع لبيضة واحدة .. الطبق مقروضة حوافه قاعدته غير مستوية فيها هضبات ومنخفضات وكأن مطرقة حديدية أثخنت فيه..في الطبق قطعة خبز جافة يغطيها عفن أخضر !!
جحظت عيناي دهشة لم أر هذا الطبق في بيتنا أبدا وليس عندنا ولا كسرة خبز عفنة من أين جاءت بهم؟
رفعت العجوز الخبز إلى فمها قبلته وقالت بصوت يتهدج أكثر من شعلة المصباح: يا رب لا تحرمني النعمة أنا العبدة الفقيرة المسكينة..
هنا اتسعت عينا زوجي وفر الدمع منهما، ثم سحب الطبق من يدها وقذفه على الجدار المقابل وانكب يبكي عند قدميها وبكت هي أيضا، بينما أتخيل انا في رأسي سيناريوهات مختلفة لشكل عقابي الفريد منه!!
انقضت الليلة ونلت من زوجي تقريعا وعتابا قاسيا لم يحدث بيننا من قبل وقال لي: أمي أولا ثم العالم بأسره.
ولقد حزمت بقجتي وحللتها عشر مرات في تلك الليلة، كان زوجي يستريح من تقريعي قليلا فيغفو، فأحلّ البقجة وأتنفس الصعداء وأوشك أن أخلد للنوم، ثم يستفيق ثانية ويكمل من حيث انتهى في الغفوة السابقة، وأنا أذرع الغرفة من السرير إلى عتبة الباب وبقجتي معي حتى تورمت قدماي، وهو بين أن يسامحني الآن ثم ينقض مواثيقنا بعد لحظات ليرسلني إلى بيت أهلي.
قررت لجم لساني، والعودة إلى سيرتي الأولى معها من الطاعة العمياء والمحاباة، وكان غيظي كله ينصب على الصحن الوضيع الذي أخرجته أم زوجي وربحت معركتها به من أين أتت به؟ ليس في بيتنا كله طبق كهذا ومن أين أتت بالخبز الذي يتسلق العفن على وجهه؟
قررت أن أنتظر ابتعادها عن غرفتها لأسرق الطبق القبيح وأحرمها استعماله في المرة المقبلة، سأجردها من أسلحتها لن أهزم وحدي، وبالفعل دخلت غرفتها وبحثت فيها لأكثر من نصف ساعة لكن دون جدوى لم أجد الطبق!
ثم بعد أيام حضرت لها “حرّاق إصبعو” كما تحبه وقشرت لها البرتقال واليوسفي واشتريت خاطرها بمعسول الكلام ثم سألتها: يامو .. سألتك بالله أين الطبق المقروض الذي كنت تأكلين فيه في تلك الليلة المشؤومة ؟! فقالت ها.. أي طبق؟!
قلت الطبق القديم المقروض الصغير ال….. ألقت العجوز خدها على كفها وتظاهرت بالنوم العميق.
وكذلك فعلت في كل مرة سألتها فيها عن الطبق..
لم يغب الطبق عن واجهة حياتي أبدا، وبقي كابوسا يراودني في كل مرة ينفلت فيها لساني ويثور، إذ كانت تخرج الطبق وتملؤه بالعجب العجاب:
زيتون يابس، زيت المكدوس دون مكدوس
ورق خبيزة أخضر نيء، والخبزة الخضراء العفنة إياها.
بعد أن أفضت أم زوجي إلى خالقها رحمها الله، وبينما يقوم المنجّد بنبش صوف فرشتها لاعادة هندمة الفراش أرسل لي مع طفلي ذلك الطبق المشؤوم وصرخ بصوت ساخر: شو عم يعمل صحن الألمينو جوا الفرشة؟؟ عشنا وشفنا والله …
غضبت أولا عندما شاهدت الطبق المشؤوم، ثم ضحكت بمكر لفكرة لمعت في رأسي فهل عرفتم ما هي؟!
– بطلة القصة جدتي الدمشقية رحمها الله وغفر لها.