
وريقة نقدية عن مسيرة الشاعر والناقد والأديب سعيد يفلح العمراني
اسماعيل السخيري – تطوان
يصعب التقديم أحيانا وتنفلت منا العبارات وتختبئ المسوغات وتنام المناهج والمنطلقات حينما نريد أن نتحدث عن كاتب مشهور أو من طينة الكبار، ذلكم الكاتب المتميز الذي يركب صهوة المجازات ويحلق عاليا في بهاء الصورة والتصوير سعيد يفلح العمراني، حينما تقرأ له الشعر تشعر بنسمة الأصالة والجدة من الوهلة الأولى وما إن تسترسل في قراءتك لشعره حتى تجد الرجل يتربع على عرش الفصاحة من غير تكلف ولا تصنع، وكيف لا وهو سليل القرويين وما أدراك ما القرويين مجد العلم ونبعه بالمغرب الأقصى بل والعالم الإسلامي ككل فالعالم أجمع، ثم إن الرجل خبير بالعروض وحامل لكتاب الله عز وجل، فكيف لا تجيء إليه الاستعارات والكنايات مستسلمة لسطوة تعبيره وانزياحاته المألوفة وغيرالمألوفة، لذا نجد الشاعر سعيد يفلح العمراني بكل ما أوتي من مخيلة ومعجم قديم وحديث يغسل درن العالم بالقصيدة، فالقصيدة عنده روح وريحان فهي المنطلق لنسف زيف العالم ونبذه وهي المنتهى لوصف محاسن المحبوب أو المعشوق الذي يسكن ساحة القلب، القصيدة عنده ياسمين ينبت في مروج اللغة، واللغة عنده أصالة وجدة وتماسك وإيجاز واقتضاب ويسر ورسالة، فحيوات سعيد يفلح العمراني لا تكتمل بدون القصيدة فهي السيف لبتر عناد وزيف الناس وهي الحق والفصل بين الخير والشر وهي المنفذ لفسحة الروح والترويح الضروريين لكل كائن لغوي.
قلت آنفا أن المنطلقات تغيب أو تختبئ حينما نريد أن نتناول تجربة كاتب مشهور سامق و شامخ، لهذا السبب ولأسباب أخرى أجدني حائرا في تقديم هذا الكاتب المتعدد في كتابة الجنس الأدبي وفي اللغة نفسها، ففي حقل الشعر حدثه بما تشاء من ألوانه وضروبه، فقد يبدع في القصيدة العمودية فيخيل إليك أن طرفة قد بعث من قبره أو أنه جعل نفسه ناطقا رسميا أو غير رسمي باسمه، وإذا اقتربت من موجة الحداثة وأردت قصيدة التفعيلة فعند شاعرنا هذا عشرات بل مئات القصائد ربما فاق نضجها الفني روادها الأوائل بالمغرب وخارجه إن لم نبالغ، قد أبدع في الشعر العمودي كما في الشعر التفعيلي، وتأثر في نظمه للشعر العمودي بعدة اتجاهات من بينها الشعر الجاهلي كمنطلق وأساس لتربة الشعر بالعالم العربي، فسعيد يفلح العمراني ينهل من هذا المتن العجيب والأصيل، وينهل أيضا من الاتجاه الرومانسي فقصيدته العمودية اتجهت نحو هذا الأفق الرحب الخصيب أيضا يتوسل بشلالات بلاعة القرآن المتدفقة، ولا نعلم لماذا لم ينخرط في كتابة قصيدة النثر، يقينا منا أنه لو دخلها سيدخلها من بابها الواسع..
أما في ضروب الفن الأخرى من قصة ورواية وخاطرة، فقد اخترق سهم فصاحة شاعرنا بكرة السرد بكل ألوانه فأبدع في القصة وألف فيها وهنا يحضرني مؤلفه القصصي الماتع عدالة وطنجية، حيث تمتزج العدالة وتختلط روائح الأطباق في أماكن العدل فتغيب العدالة أو تنصرف باحثة عن الطنجية.. أما في الرواية فقد أمتعنا بروايته الموسومة ب :أكفن أم كروان؟ بسرد شيق ولغة منمقة تتفرد بخصوصياتها في عالم السرد وهذا ما جعل بعض مؤلفاته معتمدة في مدارس خصوصية بالمغرب، لما وجدوا فيها من جدة وأصالة وإبداع ، بالمقابل هو شاعر لا يحب الظهور كثيرا ولا يحبذ الإطراء المجاني أو غير المجاني، فشيخ العروض هذا لا يبغ غير الكلمة سلاحا وغير الصدق منهجا في التعامل الإنساني وفي الإبداع أيضا، له في الشعر باع طويل وهذا راجع لسببين اثنين أولهما تكوينه العتيق الأصيل في علوم الدين وعلوم الآلة وتضلعه في علمي العروض والقوافي وكيف لا وقد درس على يد كبار العلماء، وهو الآن يدرس هذه المادة في الجامعة المغربية بمنهجية فريدة بديعة، ونحن نتحدث عن مسيرة أديبنا وتجربته وانتاجاته لا نقر بتلك المسلمة التي تقول بأن غزارة الإنتاج تنم عن عظمة المنتج سواء كان هذا الإنتاج أدبيا أم غير ذلك، كما لا تدل قلة الإنتاج عن تضلع صاحبه ذلك أن النص هو الذي يحكم على صاحبه فالمتن إذن كفيل بإعطاء كل ذي حق حقه، لذا فإن شاعرنا هذا لا يمكن أن نثبت له أمام الناس شاعريته أو نبوغه في هذا الفن أو ذاك ولكننا بالمقابل نطلب من كل ناقد وقارئ نهم منصف أن يطلع على منجزاته الشعرية بدءا من ديوانه الأول انفلات الضوء الصادر عام 2002 وديوانه الثاني على ضفاف الكلمات الصادر عام 2004 وديوان همس وأمس وهو آخر ديوان صدر له عام 2009، ومن ثم سيتبين جليا لقارئ هذه الدواوين سواء كان من كان أن سعيد يفلح العمراني شاعر وأديب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولسنا هنا لأجل إثبات ذلك أو نفيه لأننا انطلقنا من مسلمة أساسها أن سعيد يفلح العمراني شاعر زمانه ولسنا نبالغ إذا قلنا لعله الشاعر الذي سيحمل مشعل الشعر المغربي بعد رواده الكبار الذين بدؤوا يرحلون تباعا مثل المجاطي وعبد الله راجع فما بقي من ذلك الجيل سوى أسماء قليلة لا زالت تصدر أعمالها إلى الآن كالطبال والسرغيني مثلا وغيرهم وهؤلاء منهم من أوقف النشر لظروف صحية، طبعا هناك جيل التجاوز الذي له أسماؤه أهمها محمد بنطلحة والأشعري ومحمد بنيس وأسماء أخرى، ثم جيل التغيير الذي مثله صلاح الوديع وأحمد هاشم الريسوني ..إلخ ، ولعل الشاعر سعيد يفلح العمراني ينحو منحا آخر في سماء التجريب الشعري بانفتاحه على ديوان الشعر الكوني لتنصهر في شعره كل الأشعار لكن مع خصوصية فريدة تبديها لنا القصيدة «العمرانية» المتمثلة في حفاظه على روح الشعر العربي وكذا عدم انفلاته من الوزن الذي يعده أساسا لبناء القصيدة اللهم إذا كانت القصيدة منغمومة..، وهو أيضا يرحب بكل التجارب الشعرية من قصيدة النثر والهايكو والومضة معتبرا أن لكل جنس شاعريته التي يجب أن يحيا بها، ولعل شاعرنا ينتمي إلى جيل ما بعد التغيير الذي أثثته أسماء من قبيل أحمد هاشم الريسوني وحسن مرصو وإدريس عيسى..، وإذا كان بعض نقادنا يرفضون أو يحترسون من مفهوم الجيل فإننا لا نجد حرجا في تأطير تجربة هذا الشاعر ضمن جيل معين سواء أصبنا في ذلك أم أخطأنا، معترفين في الوقت نفسه بأن لكل شاعر حساسيته تبلورها تجربته .
صحيح إن هناك من يعتبر الشعر شعر أفراد لا شعر أجيال، وهناك أيضا من يقر بأن بعض المراحل في تاريخ الشعر المغربي طبعتها الفردانية كما قال الشاعر عبد الكريم الطبال في برنامج مشارف الذي كانت تبثه القناة الأولى المغربية وكان يقدمه الكاتب ياسين عدنان، حيث عد الطبال جيل الخمسينيات بأنه جيلا فردانيا أي لم يبلور مطالب جماعية، كان كل شاعر يشتغل في مختبره..
أخيرا يمكننا إجمال ضفاف هاته الكلمة المقتضبة التي لا تفي صاحبها حقه، بقولنا إن تجربة الشاعر سعيد يفلح العمراني أو الكاتب بالمفهوم الموسع، لم تأخذ حقها ولا حظها من الدراسة والعناية النقديين لحاجة في نفس يعقوب أو بدونها، ولكننا نعلم كما يشهد بذلك أغلب قراء الشاعر من النخبة المثقفة الوازنة بأنه لولا رياح النقد وعشقه له وممارسته اليومية للنقد الأدبي لكان شاعرنا يصدر مجموعة أو مجموعتين شعرتين كل شهر، ولكن النقد النسائي كان له حظ وفير من مداد شاعرنا وقرطاسه، خصوصا كونه حاصل على شهادة الدكتوراه في الشعر النسائي المغربي وهي أطروحة عم صداها وانتشر قبل صدورها عن دار نشر لها سمعة طيبة بالمغرب، وهي الآن قيد النشر بحيث ستخرج للناس قريبا في حلة قشيبة، ولهذا السبب بدأ شاعرنا ينصرف إلى النقد فكان أن أصدر مجموعة من المؤلفات في هذا المجال من بينها مؤلفه النقدي المتميز الذي يقع في جزئين الجزء الأول موسوم بالشعر النسائي المغربي المعاصر، الجسد في محاورة الذات الأنثوية، الذي صدر عام 2021 ، والجزء الثاني الموسوم بالشعر النسائي المغربي المعاصر، الازدواجية الفنية بين الثبات والتحول الذي صدر في مطلع شهر مارس من هذا العام 2022، وعليه فإننا نجزم بأن رياح النقد أخذت بأشرعة سفينة سعيد يفلح العمراني الشعرية، لكنها لحسن الحظ لم تأخذه كلية بل لازال متشبثا بالشعر حتى اللحظة الراهنة، فهو أشد صلة بالشعر وأقرب إلى الشعر منه إلى فن آخر، حيث يمثل الشعر بالنسبة إليه الملاذ فهو السكن والمسكن والسكون وهو أيضا سيف نائم في غمده يستيقظ متى علا صراخ الزيف وتفجرت قنوات الانحلال..
ويكفي أن نقرأ له هذه القصيدة التي نشرها يوم الرابع والعشرين من غشت عام 2021، لكي نحس وتذوق هذه القصيدة التي اخترناها من بين مئات القصائد ليس انتقاء ولكن الاختيار كان عشوائيا لأن كل قصائد الشاعر فصيحة فلم يكلفنا عناء الفرز ولا الانتقاء، فهذه القصيدة تنم عن شاعرية خاصة وذوق ورهافة إحساس وتمكن كبير من أقانيم القصيد و»خوارزمياتها» الشاعرية .
إن هاته المميزات وغيرها كثير مما لم نذكر في هذه الوريقة المتواضعة لتؤكد بحق شاعرية المنجز الشعري لسعيد يفلح العمراني وكذا تضلعه في فن قول الشعر و تمكنه من سحر قراءه دوما بالخيال وقرطاس من مجاز، فلنطلق العنان إذن لفرس الـتأويل ونحن على صهوة المتعة إزاء قراءة هذه القصيدة التي يقول فيها الشاعر سعيد يفلح العمراني :
ما زلت أرنو إلى
ظلها الباقي هناك
رغم زوابع الرمل
وجسارة البحر
كان حديثنا
عن الياسمين الدمشقي
وكيف أني عطرت به شعرها
إلى حدود البدر ..
كان شرابنا
برتقالا وقهوة
وثورة كالموج لما
يرتطم بالصخر ..
ما زلت أرنو
إلى فراغها
في الزمان والمكان
لكن فراغي في قلبها
أحرق من الجمر..
أنا راحل بين الكلمات
أحتسي مدامع
حريتي ..وطيشي
بكأس الصبر..
وحده الياسمين
يعلم خفقة
الصدر..