ثقافة وفن

قصة قصيرة

إلهام في الحمام

د. اسماعيل محمد النجار

بيع منصر للبقرة:

منصر نصر الكشنه، ولد في أسرة عريقة من قبيلة قنبع في محيط صنعاء، وأسرته تتكون من خمسة أولاد، آخرهم منصر نصر الكشنه، وثلاث بنات، ويعمل الجميع في مزارع العنب والقات، عدا منصر، الذي قرر والده إدخاله المدرسة، وحظي بالمزيد من الاهتمام والدلع، على اعتباره آخر الأولاد.

تملك الأسرة أجود أنواع المحاصيل، وتبيعها بمبالغ كبيرة، مقارنة مع محاصيل المزارع الأخرى، يلبي والد منصر كل متطلباته، من شراء أفضل الملابس والشكولاتة والحلويات، ولا يرد له طلباً، وكلما كبر استنزف والده مبالغ أكبر، ليصرفها على أصحابه، وعلى الرغم من عدم رضا إخوانه، وتحذيرهم لوالدهم أنه يسرفه بدلاله، ويساعده على الضياع، لينهرهم طالباً عدم تدخلهم في شأن منصر.

وما أن بلغ عمر منصر إحدى عشرة سنة، توفي والده، وحاول بعض إخوانه إعادة تربيته وتأهيله، والتقليل من مصاريفه، واجباره على التخلص من بعض أصدقائه السيئين، لكن والدتهم وقفت ضدهم، قائلة: ليس لكم دخل بمنصر، ما دمت على قيد الحياة. لتواصل إعطائه المبالغ التي يطلبها دون أن يعرفوا، وكلما مر الوقت اجتمعوا حوله شلة من أقران قريته والقرى المجاورة، ليجروا منصراً للكثير من الممارسات الخاطئة والمشينة، ويبالغون في وصفه، وينفخون في شخصيته، ليعطونه حجماً أكبر منه، ليصرف عليهم، وتكونت لديه بذور الشخصية النرجسية.

توفت والدته وعمره خمس عشرة سنة، وتولى أمره إخوانه، ليعطوه كل مستلزمات الدراسة، وحددوا مبالغ لصرفته، لكنه تعود على مبالغ كبيرة ومفتوحة، سواء من والده أو والدته، مما اضطره لأخذ بعض مستلزمات المنزل وبيعها، وعلى الرغم من تعرضه للضرب والعقوبات، إلا أنه انتقل لسرقة الأشياء الثمينة، من ذهب وغيرها من الحلي، ويصرفها على أصحابه، ويعيش معهم في حالة ترف، ويتبعونه كزعيم مزعوم، وينفذون كل متطلباته، وزرعوا فيه حب العظمة أو النرجسية، ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل يشاركوه ليلاً بسرقة العنب والقات، ويقومون ببيعها في الأسوق المجاورة لقريته.

ودخل إخوانه بمشاكل كثيرة مع أصحاب المزارع، واضطروا في كثير من الأوقات لتسديد قيمة المسروقات حفاظاً على سمعتهم، الكثير من أصحابه يستخفون بشخصيته، على الرغم من نفخه وإعطائه صفة العظمة، ويستهبلونه ويضحكون عليه، ليدفعوه للنصب والسرقة، ويحصلون على النصيب الأكبر من سرقة أهله والناس، ويشيرون عليه ويخططون لكيفية حصوله على المال، لينتقلوا لمرحلة سرقة المواشي وبيعها، ومنها إخراج بقرة بيت أخته الساعة الخامسة فجراً مع احد أصحابه، وقيادتها باتجاه السوق، وقام أصحابه بتكوين مجموعات من قريتهم والقرى المجاورة، وتوزعوا على طريق سيره بشكل مجموعات متباعدة، وكلما مر على إحدى المحطات يسالونه: إلى أين بالبقرة يا منصر الكشنه؟ ليرد: إلى السوق. ويسالونه: لماذا؟ ليقول: لأبيعها. وسألوه: كم ثمنها؟ ليعطيهم سعراً مقبولاً، لكنهم يظهرون في البقرة عيوباً كثيرة، ويعطون له مبالغ بخسة، ليؤكد له المرافق صحة كلامهم، ويشكك في سعره.

وهكذا توالى مروره على المجموعات، لتعطي كل مجموعة مبالغ أقل من المجموعة السابقة، وما أن وصل لمشارف السوق، قابلته المجموعة الأخيرة، لتقول له: يا كشنه، أنت شيخ وشخصية كبيرة، كيف تدخل السوق بهذا البقرة الهزيلة والمريضة؟ ليضحك المرافق عليه، ويقول بصوت خافت: كلامهم صحيح يا منصر. وسألوه عن قيمتها؟ ليذكر لهم المبالغ التي عرضت عليه في الطريق، ليقولوا: هذه مبالغ كبيرة، وكان الأحرى فيك أن تبيعها. وأعطوا له مبلغاً يزيد عن سابقيه، ليفرح ويعتقد أنه قد نجح، وبمجرد عودته لحقته مجموعة أخرى، وقالت له: أنت الشيخ منصر الكشنه. ليقول: نعم. وقالوا: نحن نسمع الكثير عنك من كرمك، وشخصيتك الكبيرة والعظيمة. وطلبوا أن يضيفوه في إحدى البقالات القريبة، وأعطوا له البيبسي والبسكويت، وقعدوا يمازحونه ويحتكوا به، حتى سرقوا منه مبلغ بيع البقرة، وفي الطريق أدخل يده لجيبه ليتحسس المبلغ، ولم يجده، ليقول لصاحبه: لقد سرقوا مبلغ بيع البقرة. وطلب منه العودة والبحث عنهم، ليرد عليه: من الصعب أن نجدهم، وبالتأكيد رجعوا لقراهم.

وفكر منصر بتعويض المبلغ، ليذكر له صاحبه فكرة أخذ الثور من بيت أخته الأخرى وبيعه، وما أن وصل للمنزل كان إخوانه على علم ببيع البقرة، وواجهوه، واعترف لهم بالموضوع، وأدخلوه في ديمة أو غرفة البقر وحبسوه، وطلبوا منه أن يصرخ بين الوقت والأخر بصوت البقرة، وإذا سكت تعرض للضرب، وظل على هذا الحال خمسة أيام، ليتعهد لإخوانه بعدم التكرار، والتخلص من أصحابه السيئين.

وبعد خروجه، منع من لقاء أصحابه، ولاحظوا أنه يعاني من حالة نفسية وعصبية، وسمحوا له الاتصال ببعض أصحابه، واتصلوا بأولياء أمور الآخرين، وطلبوا عدم اختلاط أبنائهم مع منصر، وتكونت له مجموعة جديدة من الأصدقاء، ذات ميول في الشعر الشعبي، وتعلق بهم كثيراً، وأوجدوا لديه رغبة قوية لنظم الشعر، واختلفوا عن سابقيهم بعدم مشاركته أو دفعه للسرقة، واتفقوا معهم باستغلاله والنفخ في شخصيته، وأدخلوا في رأسه أن هاجس أو إلهام الشعر الشعبي لا يأتي إلا أثناء قضاء حاجته في الحمام، وأن كثيراً من العباقرة جاءهم الإلهام في الحمام، ليصدق، وداوم على الحمام، سواء لقضاء الحاجة أو دون ذلك، ويظل لوقت طويل مع دفتره وقلمه، ليسجل ما تجود به قريحته أو إلهامه من الشعر.

ولاحظ عليه إخوانه تكرار تردده على الحمام، وطول الفترة، واستفسروه، ليقول: إنه يعاني من حالة تعسر. وحاولوا إقناعه عرض حالته على طبيب الباطنية، لكنه رفض، ليشك إخوانه أنه يمارس العادة السرية، وطرحوا عليه موضوع الزواج، ليرفض ويتهرب من حمام البيت، ويذهب لحمامات أصدقائه أو خواته.

ساعده بعض أصدقائه في نظم الشعر الشعبي، بعد أن يكتبه دون مضمون، أو فيه إساءة لبعض الناس، واشتكى لإخوانه الكثير من الناس، لتوجيه الشتائم على شكل أبيات شعرية، وهددوا بتأديبه، والتزموا لهم بعدم التكرار.

وفي نفس الفترة، اهتم مع بعض أصحابه بتربية نوعية ذكية من الكلاب، واستخدامها في مرافقتهم وحراستهم، وما أن وصل لمرحلة الثانوية العامة، زادت سرقاته ومتطلباته التي يصرفها على خبرته أو أصحابه، ليشدد إخوانه الخناق عليه، وعلمه ودفعه أصحابه ممن يطلقون على أنفسهم شعراء، أن يطالب إخوانه بالقسمة، ويأخذ نصيبه من التركة، ويتمتع بها، وأن إخوانه يستغلوه، ليرد عليهم: لكن إخواني قساة، وقد أتعرض للسجن في الديمة أو غرفة الحيوانات. ليقولوا له: اعرض موضوعك على الشيخ، ونحن مستعدين لمساعدتك، لتأخذ ما قسمه الله لك بعد والدك.

(يتبع)

وبعد تكرار الضغط عليه، ذهب ورافقه البعض من أصحابه، والتقوا بشيخ القبيلة، وطرحوا الموضوع عليه، وذكروا له قساوة واستغلال إخوانه، وطلبوا أن يتوسط ويضغط عليهم، ليعطوه نصيبه من التركة بعد والده، وظلوا يتابعون الشيخ حتى التقى بإخوان منصر، ليقولوا للشيخ: ماذا يريد من التركة، يصرفها على الفراغ والسراسرة من أصحابه، حتى وإن قسمنا، لا نعطيه نصيبه، إلا بعد أن يصبح رجلاً، ولا يستطيع الآخرون الضحك عليه واستغلاله. وعرضوا على الشيخ وضع منصر ومشاكله، وطلبوا أن يتصل ببعض الناس ليستفسر.

وبعد دراسة شيخ القبيلة لوضعة، توصل لقناعة عدم أهليته لاستلام نصيبه، لصرفه على أصحابه، ونصح منصر الذهاب للمحكمة، وعندما عاد منصر للمنزل، هدد إخوانه اللجوء للمحكمة، واجتمعوا عليه وضربوه ضرباً مبرحاً، وحبسوه في ديمة أو مكان الحيوانات لمدة أسبوع، لا يخرج إلا للطعام أو الحمام، وأعطوه وقتاً محدداً وقصيراً للبقاء في الحمام، وبعد خروجه والتزامه بعدم تكرار المطالبة بنصيبه، وفضلوا إعطائه مبالغ كبيرة من المال، ليصرفها وفق حاجته، مع علمهم أنه سينفقها على أصحابه.

أوهمه أصحابه أنه شاعر كبير، وسوف يشتهر باسم الشاعر الكشنه، على مستوى القبيلة والبلاد، وكلما قال بيتاً من الشعر الملفق يصفقون له بحرارة، وساعدونه في إلقاء بعض القصائد التي نظمها، بعد مراجعتها والإضافة والحذف، على أن يلقيها في التجمعات القبلية، باسم الشاعر الكبير منصر الكشنه، لتلقى التصفيق والتشجيع من القبائل، وأصبح لا يمشي إلا ويحيط به المرافقون من كل الاتجاهات، وتتبعهم كلابه.

تخرج منصر الكشنه من الثانوية العامة، وحصل على نسبة ستين بالمئة، ونصحه أصحابه أن يدخل صنعاء، ويدرس في كلية الآداب قسم أدب عربي، ليتحقق حلمه، ويصبح شاعراً على مستوى اليمن والخارج، وبنفس الوقت يقدم طلب شكوى للمحكمة على إخوانه، ليأخذ نصيبه من التركة، بعد أن يستقر ويتمكن من دراسته.

وطرح موضوع الالتحاق بالجامعة على إخوانه، ورفضوا، وعرضوا عليه الزواج، والعمل معهم، وتقاسم مردود الأرض، ووافق بعد نصيحة أصحابه، على أن يعطوه نصيبه من التركة، ويظل معهم، لكنهم رفضوا، ليصمم على السفر لصنعاء، والالتحاق بكلية الآداب قسم لغة عربية، واختلف إخوانه بين مؤيد ومعارض، وتدخل الوجهاء، وأخبروا إخوانه رفضهم ظلمه، وخاصة أنه بلغ رشده، ليوافقوا على مضض، وبشروط أولها: أن لا يتصرف بما يسيء لسمعة العائلة، وأن يستشيرهم بكل صغيرة وكبيرة، وإذا لم يلتزم يقطعون مصروفاته ويعود للبلاد.

وأخبره بعض أصحابه أن الوسطاء نجحوا، ووافق إخوانه على دخوله صنعاء للدراسة، وبعد فترة يطرح موضوع نصيبة من التركة على المحكمة، ويتصرف بها كيفما يشاء، وبدأ يعد حاله للسفر لصنعاء، بالاستماع لنصائح إخوانه وأصحابه، وبعض شيوخ القبيلة، وأول نصيحة أن يتعلم النخيط (التكبر مع التهديد)، وأخذه أصحابه المبندقين (المسلحين) للسوق الخاص بالقبيلة، ليستعرض أمام الآخرين هيبته وقوته، ومبارزته في الشعر، على أن يستهدف من يظهر عليهم الضعف، ويضع وجهه مقابل وجوههم، وعيناه مسمرة على عيونهم، ويقول بعض من أبياته في التحدي، ولا يتركهم إلا بعد أن يستسلموا بإزاحة وجوههم عنه، أو ينسحبوا، أما في حالة تحريك بنادقهم واستعدادهم للمواجهة ينسحب، ويعطي لهم التحايا القبلية، وهكذا تعلم أسس النخيط، وخططوا له عند سفره لصنعاء أن يبدأ نخيطه أولاً على أصحاب تعز، ثم إب، وينتقل للمواجهة مع أصحاب خبان، استعداداً للنخيط على قبائل رداع والحداء وخولان… إلخ.

وسألهم: كيف أعرف أنهم من تعز أو إب أو خبان، أو من القبائل؟ ليقولوا له: إذا سمعت الشخص يقول لك: (أنا حميسك) عند مواجهته، فاعرف أنه من تعز، وإذا قال: (أنا فدا لك)، فهو من إب، أما إذا قال: (فديتك)، فهو من خبان.

وسأل وأصحاب الحديدة؟ ليقولوا: هم مساكين، والطعن في الميت حرام، وأول ما يروا شكلك يرتعبوا، ويقولوا: لا ترمائنا (لا تؤذينا).

ونصحوه أن لا يستمر في النخيط مع أصحاب خبان إذا رآهم يحركون بنادقهم، فدمهم حار، وطباعهم قريبة من القبائل، أما مع القبائل يستخدم المواجهة وجهاً لوجه، مع التحدي والشتيمة، وإذا وصل معهم لمرحلة تحريك السلاح والتكافؤ، عليه الصلح معهم.

وأخذ الكثير من النصائح المتعلقة بالجامعة، وعدم الاحتكاك بالمبنطلين أو البنات، وغيرها من النصائح، وحدد يوم سفره، وذهب مع اثنين من أصحابه يعرفون صنعاء جيداً، ومعه اثنان من الجراء (الكلاب الصغيرة)، وركبوا سيارة حبة لاندروفر مكشوفة مع ركاب آخرين، وعند وصولهم لمشارف صنعاء، وظهرت مبانيها، كان الجروان منكسين رؤوسهم للنعاس أو الراحة، ليضربهم منصر على رؤوسهم قائلاً لكل منهما: ارفع رأسك، أنت من قبيلة قنبع. وهكذا ظل ما تبقى من الطريق، ليضحك كل من معه في السيارة، ويقولون: حتى تطلبون من كلابكم أن ترفع رؤوسها وتنخط عند دخول صنعاء. ليرد أحد المرافقين: نحن قبيلة القنابعة نخاطين، حتى كلابنا نخاطة مثلنا، كلاب الدنيا كلها تقول: هو هو هو، وكلابنا تقول: الهف الهف الهف. ليضحك الآخرون من أعماقهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق