سياسة

عندما يكتب الكبار عن الكبار

هكذا كتب د. منصور خالد عن الأديب الخالد الطيب صالح.. استذكار وَمضَاتٍ من حلم

د. منصور خالد

قبل خمسة أشهرٍ من يومِنا هذا لم نودعْ رجلاً في مقبرة البكري بمدينة أم درمان وإنما أودعنا رُفاةَ حلم. وإذ يلتقي صحابُ الطيب صالح الحُلم هذه الأمسية، لا يلتقون لتأبين أو رثاء وإنما لاستذكارِ وَمضَاتٍ من ذلك الحلم. كُلُكم عرف الطيب. عرفه صديقاً، وعرفه كاتباً، وعرفه محدثاً، وعرفه أخاً لم تلده أمه. ومثل كثر منكم أزعم، وأنا أقف أمامكم، أنني عرفت الرجل كما لم يعرفه الكثيرون. عرفته خلال ما ينيف على نصف قرن تكافأنا فيه وداً لم يُفسده اختلافُ رأي، ولم يكدر صفوه تباين فكر. بدأت الرحلة من الدراسة الثانوية في مدرسة وادي سيدنا، ثم في جامعة الخرطوم، وامتدت عبر عقودٍ من الزمان تلاقينا فيها في كل أصقاع المعمورة التي حملتنا إليها ضرورات الحياة وظروف العمل، كما حملتنا الرغبة في الارتحال إلى من نحب. نرتاد عندهم ومعهم رياض المعرفة ومغاني اللهو والإمتاع. تلك لحظات أظلم نفسي، قبل أن أظلم الراحل، إن لم أستذكر فيها رجالاً كان كل واحد منهم حبيباً إلى نفس الطيب: صلاح أحمد محمد صالح، فتح الرحمن البشير، عثمان محمد الحسن، محمد إبراهيم الشوش، حسن تاج السر، محمود عثمان صالح، محمد الحسن أحمد، حسن أبشر الطيب، وإلى أولئك من السودانيين ينضم حبيب الطيب وخدن نفسه، محمد بن عيسى الذي كان بيننا كلؤلؤةِ الغَوَّاص. فلله الحمد على تلك الصحبة المثرية.

كان الطيب، من بين كل صحبه رجلاً بهي الرواء يملأُ منه المرءُ عَينَه، ونسمة عفية في حياة كثيراً ما قاظت أيامها في الشتاء قبل صميم الصيف. تلك النسمة العفية أصبحنا أكثر حوجة إليها عندما انتهت بنا الأمور إلى أوضاع تعسرت فيها صحبة الأناسي. تلك أوضاع وصفها الإمام الطبراني أجود وصف حين قال: «إن الناس قد مسخوا خنازير فمن وجد كلباً فليتمسك به». كان الطيب ناراً يقبس منها كل من يغشي مجلسه وكان في ذلك المجلس يلمع كذات العرش، وهي الثريا. كان يحب الناس ـ كل الناس ـ حباً لا رياء فيه ولا مداجاة رغم علمه بطبائع البشر، إذ كثيراً ما كان الطيب يترنم بشعر واحد من شعرائه المفضلين، غيلان بن عقبة بن العدوي الربابي الملقب بذي الرمة.

عوَى الذئب فاستأنست بالذئب إذا عوى

وصَيَّح إنسانٌ فكدت أطير

ولعل الطيب بسبب من سماحته كان يلتمس المعاذير للناس ويبحث عن وجوه الخير والصلاح فيهم. بين الطيب ومجايليه شياتٌ فارقة، على أن أهمها هو احتمال الأذى ورؤية جانية دون أن يضوي جسمه. كنت أختلف إلى الطيب كثيراً في لندن والقاهرة وكان أكثر ما يدهشني فيه هو أنه أقل الناس عِبئاً على مجالسيه، وأكثرهم صبراً على الفارغين من كل شيء.

الطيب مفكر مدقق عميق التفكير إلا أنه، رغم انغماسه في الفكر، ورغم ارتهان الكثيرين من مجايليه عقولهم للأيدولوجيات السياسية، الدهري منها والديني، أبى أن يرتهن نفسه لتلك الأيدولوجيات، أو يحبس عقله في قماقمها. هذا شأن كل من كان بصرُه حديداً. لهذا ظل الطيب في مسيرته الفكرية يُحكِّم عقله أبداً فيما يكتب وما يقول. بل كان يتنسم معارج الكمال في أحكامه ولا يرتضي لنفسه إماماً سوى العقل.

كذّب الظَنَ لا إمام سوى العقل

مشيراً في صُبحه والمساء

ذلك قول لحكيم آخر هو شيخ المعرة.

علني لا أغالي إن قلت إنني لم أر للطيب ضريباً في الصدق مع النفس. أبى الطيب على نفسه في كل ما كتب وقال التنزل عن علياء المبدئية في القيم المطلقة إلى تخوم النسبية، إذ لا نسبية في تلك القيم، وعلى رأسها الحق. فالقيم العليا منذ عهد أرسطو هي الحق والخير والجمال، ولعل هذا هو الذي مكنه من مواجهة نفسه بالحقائق وملكه الشجاعة على الاعتراف بالخطأ والصدق مع النفس. ففي قول نيتشه الأخطاء تنجم دوماً عن الجبن عن مواجهة النفس بالحقائق. ومن الناس كثر آثروا اعتقال أنفسهم في بهو كله مرايا لا يرون فيها إلا أنفسهم: عن الميامن والشمائل، ومن خلف وقدام.

من سمات الطيب الوضيئة أيضاً التواضع، وكان تواضعاً مضنياً ضنى ينحل الجسوم. كما من سماته النأي بالنفس عن الأضواء أو الحرص على الزلفى للسلاطين، ولعله كان في الأخيرة شافعياً. فالشافعي هو القائل: لو عرف السلاطين ما عندنا ـ أي العلم ـ لقاتلونا عليه. لم يكن ابتعاده عن هؤلاء وجلاً أو تهيباً مثل العتابي الشاعر. قيل للعتابي التغلبي لما لا تصحب السلطان على ما فيك من الأدب. قال: لأني رأيته يعطي عشرة آلاف في غير شيء، ويرمي من السور في غير شيء، ولا أدري أي الرجلين أكون.

ولربما كان لتواضع الطيب ونأيه عن الأضواء عُلقةُ بتدينه الداخلي، وهو التدين الخالص، بل وبتصوفه العميق. لم يكن الراحل مسلماً نمطياً يرضي ضميره بأداء الشعائر العبادية ومع ذلك يكذب، ويكذب ثم يكذب فيكتب عند الله كذابا، والكذب هو أصل الشرور. وما تكدرت الشرائع إلا بمثل هذه المنكرات. كان الطيب مسلماً شرح الله صدره للحق وأعانه على دركه. كـان في إيمانه مسكونياً (ecumenical) مما قربه إلى استيعاب مفهوم الإيمان كما أراده الحق عزّ وجل: «قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون».

أما تصوفه فكان تصوف عاشقين

وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى

ولا خير فيمن لا يحب ويعشق

بيد أن عشقه كان هو عشق المثل الأعلى: الذات الإلهية. ذلك هو الحب الصادق

الحب الصادق

موت العاشق

حتى يحيا في المعشوق

لا حب إذا لم تخلع أوصافك

حتى تتصف بأوصافه

بقيت لنا كلمة حول الطيب الكاتب – ولعل الكثيرين لا يعرفون أن راحلنا ابتدر الكتابة في مرحلة متأخرة من العمر أي بعد أن انتقل إلى لندن التي هي في آن الحاضرة ذات التاريخ العريق، والقرية الظالم أهلها. في لندن اغترف الطيب من كل فيوض العلم والمعرفة، وأمتع نفسه بكل ما في أنديتها ومسارحها من فنون، وصاحب أدباءها وشعراءها، ثم انكب على الكتب يحرثها حرثاً. قرأ في الأدب، والسياسة، والتاريخ، والديانات حتى أصبح عليماً بأسرارها. ولعلني لا أريد أن أجعل من هذه الليلة مناسبة لإجلاء ما كتبه الطيب على أناس يملكون ما أملك، بل ربما أكثر مما أملك، من قدرة على ذلك. ما أريد قوله هو أن في كل إنجازات الراحل الأدبية جرعات كبيرة من الإدهاش والإبداع في تصوير تجاربه الحياتية، وكأنه كان يغمس قلمه في شرايين قلبه ليخرج منها صوراً عن الحياة السودانية نابعة من أعماق النفس. ولئن قال ميلان كونديرا الكاتب التيشوسلوفاكي إن ثمة مراحل في التاريخ تشبه فيها الحياة روايات كافكا، أقول إن ثمة مراحل في تاريخ السودان وواقعه تعبر عنها روايات الطيب تعبيراً لا تجده في كتب التاريخ أو الأدب، ودون أن تطغى المحلية فيه على الإنسانية الشاملة. في تصوير تلك المراحل أيضا لم يذهب الطيب إلى تقديس أهله، مع حبه لهم، فالسودانيون، مثل غيرهم من عباد الله، يضمون البر والفاجر، والجاهل والعالم، والعاقل والأفين، وفيما كتب نماذج لكل هؤلاء. تقديس الشعوب كذب متخاذل لا يلجأ إليه إلا العاجز عن التصالح مع نفسه.

قلت في البدء لقد أودعنا في القبر حلماً جميلاً أصبحنا من بعده في عتمة خواء.

وأفجع من فقدنا من وجدنا

قبيل الفقد معدوم المثالِ

يدفن بعضنا بعضا ويمشي

أواخرنا على هام الأوال

سقياً لك من ميت يا طيب يا صالح. ولئن يجتمع اليوم أهلُ الوفاء لاستذكار تاريخك العطر يحق لك أن تعلم أنك باق بينهم ما بقي في الناس وفاء، وأنك حي معهم طالما ما حفظ الأحياء وداد.

فلئن هلكت فما الوفاء بهالك

ولئن بقيت فما الوداد ببال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق