سياسة

القضية العمالية ضحية بؤس أيديولوجي

عبدالحي كريط

تحتفل الطبقة العمالية بالعالم بالعيد الأممي من  فاتح ماي ( آيار ) السنوية، في جميع أرجاء المعمور وذلك من أجل التذكير بمطالب وتطلعات  الطبقة الشغيلة التي تعتبر العمود الفقري للنظام الاقتصادي لأي بلد وإن إختلفت في الشكل والمضمون ،بالرغم من الإشكالات والثغرات القانونية والتفسيرات الدستورية المتعددة التي يتم استغلالها في مواجهة مطالب الطبقة العاملة خاصة في الدول التي تنعدم فيها شروط العدالة المؤسساتية أو شبه المؤسساتية إلا أن الحق النقابي يعتبر مبدأ أمميًا لا يمكن نكرانه بالرغم من أفول ونكوص وهج النقابات العمالية، التي تماهت مع الخطاب الرأسمالي الشجع  وأضحت فقط ديكورًا وقتيًّا للمناسبات والمهرجانات العمالية الذي يؤثث للاحتفالات 1 مايو (أيار) السنوية.

ولقد بدأ الكلام عن القضية العمالية منذ القرن التاسع عشر إذ أن انتشار البطالة والفقر والبؤس في أوساط الطبقة العاملة ،دفع الكثير من المفكرين والمنظرين للفكر الاشتراكي والماركسي إلى مصادمة ومواجهة النظام الاقتصادي الرأسمالي القائم على الحرية الفردية المطلقة والملكية الخاصة ،فنجد هذا الهجوم حتى في النصف الأول من القرن التاسع عشر أي الفترة التي كان فيها هذا النظام في أوج قوته وانتشاره ويحتل المكانة الأولى في عقول المفكرين وإيمانهم بضرورة تغيير النظام الاقتصادي الذي يقوم على استعباد العامل .

ولكنه اتخذ شكلا آخر وقويا جدا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين حتى أننا لانجد دعاة لمذهب إقتصادي جديد إلا ومعالجة وضعية الطبقة العاملة دعامة من دعائم هذا المذهب،ويكفي للإدراك  ذلك مجرد نظرة عاجلة على كتابات وتنظيرات أصحاب المذاهب الاشتراكية لاسيما إشتراكية الدولة والاشتراكية المسيحية والتضامنية والتعاونية والنقابية،وقد كانت إشتراكية الدولة من أكثر الاشتراكيات تطبيقا على أرض الواقع التي ثبتت فشلها بل كانت أكثر رأسمالية من الفكر الرأسمالي نفسه ومادموية ستالين وإستعباده للشعوب السوفياتية والتي راح ضحيتها ملايين البشر في حقبة ستالين وحول هذه الشعوب إلى قطعان خاصة قامت عليها إشتراكيته وسار على نهجه الكثير من الدول فهي إشتراكية راديكالية لاتختلف عن الرأسمالية الراديكالية وان كانت هذه الأخير أقل إيلاما وكبحا لأنها تخضع لسلطة المؤسسات الدستورية والمدنية ،وهذا ماجعل دول إشتراكية مثل الصين أن تمزج بين اشتراكيتها الشيوعية مع النظام الرأسمالي العالمي الذي يتحكم في مفاصل الاقتصاد الدولي.

فالقضية العمالية بدأت من خلال بؤس الطبقات العاملة والذي نتج عن أن شروط حياة الكثيرين من العمال إنحدرت إلى مستوى لايستطيع أن يقبل به الضمير والوجدان الإنساني.

لقد بدأت المشكلة العمالية على هذا الشكل أي مشكلة الفقر في مطلع القرن التاسع عشر عندما تدنت أجور العمال إلى مستوى يستحيل معه على العامل أن يضمن بأجرته سداد حاجياته الضرورية وتأمين قوته الضروري، وهذا مادفع الكثير من العمال إلى تشغيل نسائهم وأطفالهم في عدة فترات تاريخية ليستطيع الفرد منهم أن يجمع من أجور جمع عائلته مايستطيع به سداد حاجاتها الرئيسية ،وهذا لازال قائما إلى الآن في عدة دول .

ولقد بدأت القضية العمالية على هذا الشكل أيضا أي مشكلة بؤس عندما ارتفعت مدة العمل اليومي إلى 14 ساعة أو أكثر، ومارائعة البؤساء( Le misérable) للكاتب والروائي الفرنسي فكتور هيجو إلا ترجمة لجزء من واقع الطبقة العمالية بالعالم.

 أما أسباب هذه المعضلة فليس من الضروري أن ندخل في تفاصيلها وفي الآراء المختلفة حولها بل نكتفي أن نقول إنه وإن حاول الماركسيون وغيرهم ممن قدم للماركسية أفكارها ولبنات بنائها أن يعتبروا هذا الوضع ناتجا عن استغلال العامل وجشع أرباب المصانع والشركات والمعامل وإندفاعهم وراء الثروة فاءنهم جميعا يسايرون غيرهم في اعتبار هذه المعضلة نتيجة طبيعية وحتمية لنظام اقتصادي يقول على حرية المزاحمة بين المنتجين لأن بقاء المنتج وحياة معمله إنما تتوقف على مدى التخفيض الذي يستطيع تحقيقه في تكاليف الإنتاج ولاشك أن مدة العمل اليومي ومستوى الأجور عناصر أساسية في تشكيل وتكوين هذه التكاليف.

ولعل المناظرة الأخيرة التي جمعت بين الفيلسوف الماركسي سلافوي جيجيك والسيكولوجي الكندي المحافظ بيترسون والتي سميت بمناظرة القرن عام 2019  حول موضوع السعادة من وجهة نظر ماركسية ورأسمالية قد أماطت اللثام عن بؤس الأيديولوجيا وتفكيكها ونقدها ،هذه المناظرة بالرغم من أنها حسب وجهة نظري المتواضعة لم تقدم شيء جديد كل ماقيل فيها هو ربما تبسيط الفكرة أو إعادة صياغة لجدالات سابقة بعضها شعبوي وبعضها متخصص ،وقد كانت خالية من الهجومية الصدامية، لكنها كانت على درجة عالية من الصدق والموضوعية في الاعتراف باءخفاقات كل من الجهتين الفكريتين ،ففلسفة التبرير التي تقع خارج الايديولوجيات حسب قول جيجك هي ماتؤدي إلى البؤس والتعاسة لحياة البشر وقد كشف عن تناقضات الماركسية المركبة التي في كثير من الأحيان تتعامل مع موضوع العامل بفقوية واستعلاء وجعل الدولة الصنم الذي يعبد ويقدس على حساب كرامة الفرد وحقه بالتملك، والعكس صحيح، فهي علاقة تأثر وتأثير وهي تخضع حسب التغيرات وفلسفة التبريرات المصاحبة لهذه الايديولوجيات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق