
أي سلام هذا … أظنهم يقصدون السلام روتانا …؟!
نزار العقيلي
كنت ولا زالت من هواة السفر داخل السودان و كنت أحرص في عملي السابق أن اكون ضمن أي مأمورية ولائية من شدة عشقي للريف و أهله و إن لم تكن هناك مأمورية كنت أستمتع بإجازتي السنوية بالسفر للولايات مع أصدقائي و جيراني في حي الشعبية نادر المنا و حذيفة علي فنعد العدة و نجهز السيارات و بنادق الصيد و (عدة القهوة) لكي نصنعها و نحتسيها تحت جبال (الفاو) او تحت ظلال (التاكا) او داخل غابة (الفيل) و في كل مرة كنت ازور فيها مدينة او قرية كنت اخطط و أحلم بأن أشتري فيها ارضا” ابني عليها كوخا” و استقر فيها، فقد سرقت عقلي منطقة (الخوي) بشمال كردفان و قبيلة المجانيين هناك بكرمهم و جمالهم و خيلهم و خيامهم حتى تمنيت لو كنت (مجنوني) و كذلك لم أري في حياتي وديان من الفواكه إلا في مدينة (الترتر) و لم اشرب مياه نقية و نظيفة إلا في (ام روابة) هذه المدينة التي كان الحاكم العام البريطاني إبان الاستعمار يستجلب منها مياه الشرب حيث لا يوجد في العالم مياه جوفية انقى و اروع من مياه (ام روابة) و أهلها الذين يستبدلون حرفي الألف و اللام بحرفي الألف و الميم في لكنة موسيقية جميلة و هذا الاستبدال جعل من (الروابة) ام روابة و من (السيالة) ام سيالة و هكذا، و قد كنت أظن بأن مدينة (الدويم) بالنيل الابيض هي افضل مدينة تصنع الجبنة المضفرة و ان القضارف هي الافضل في زيت السمسم لكن تبين لي لاحقا” جهلي و عدم معرفتي بان ام روابه لا منافس لها في السمن و زيت السمسم و الاجبان و الحديث عن شمال و جنوب كردفان يطول عن خيراتها و إنسانها كما دارفور بشمالها و جنوبها، فمن رأي (نيرتتي) عبر الشاشات هذه الايام لم يجلس تحت أشجار (تلس) و لم يعبر وديان (زالنجي) و لن تكفينا مجلدات الدنيا لنحكي و نحصر خيرات هذه المدن الطبيعية جدا” و والله لن تصدقوا ان قلت لكم باني اكلت قطعة (طماطم) في قرية اسمها (الله كريم) بحجم فاكهة الشمام و طعم التفاح و الى وقت قريب جدا كنت اشتري عطوري الباريسية الاصلية المفضلة لدي من (الجنينة) و (نيالا)
وفي جميع زياراتي لهذه المناطق لم أري شخصا” يحدثنا عن (الجلابة) التي حدثنا عنها عبدالواحد نور و لم اشاهد صراع النخب (النيلية) الذي صدعت به رؤوسنا تراجي مصطفى و لم أجد (عنصرية) بركة ساكن تمشي بين الناس بل وجدت سلاما و تعايشا” و حبا وحميمية لا حدود لهم.
بالمقابل زرت أهلي في (وادي حلفا) اقصى الشمال الجغرافي فلم استطيع صبرا” و كدت ان أفر فرار السليم من الاجرب من شدة البؤس و التصحر و انعدام ادنى مقومات الحياة، وجدت هناك الطبيعة القاسية تصرع الانسان النوبي صاحب الحضارات و التاريخ، وجدت بيوتا” مسقوفة من الورق و الخشب فهم لا يعرفون شيئا” عن المطر، وجدتهم يعيشون على ذكرياتهم و اطلال مدينتهم الغارقة في مياه السد العالي و التي يحتفظون بصور فنادقها و مبانيها داخل كل منزل و (بلك)، وجدتها مدينة لا تعرف الحركة ولا العمل إلا يومين في الاسبوع، عند مغادرة او وصول (ساق النعام) الباخرة العتيقة التي اظنها الان اصبحت وكرا” على الضفاف، او عند حضور و ذهاب قطر (الخرطوم) الذي يسمونه هناك قطر السودان في إشارة الى انهم خارج الحدود السودانية.
لم أري في حياتي بؤسا” و قساوة للطبيعة و الحكومة إلا في منطقة (الحصايا) بالدامر بنهر النيل و من يعرف شرق السودان يعلم بان هناك منطقة اسمها (مسمار) إن ربطت فيها حمارا” لأنتحر فورا” و دخلت فيه النار، و من يعرف (الساسريب) و البطانة و حلفا الجديدة يعلم بأنهم ظلوا يحاربون التمرد منذ ان اجبرهم عبود للهجرة هناك في الستينات و التمرد هناك ليس قوات عسكرية بل هو أشجار (المسكيت) التي تقضي على زراعتهم مصدر دخلهم الوحيد و الدولة بعد ان دمرت مصنع سكر حلفا و مؤسسة حلفا الزراعية تركتهم للأوبئة و الامراض و المسكيت و من يمرض منهم في (الشواك) او (قرى حلفا) او (خشم القربة) لن يجد المستشفى الا في (كسلا) و حتى تاريخ اليوم نساء (القضارف) حين تأتي ساعة وضوع إحداهن قد تلد مولودها فوق (التراكتور) بسبب سوء الطرق الطينية في الخريف التي تنهار امام قوتها ولزوجتها إطارات التراكتورات الضخمة
أبناء الشمال في السودان تعرضوا لأسوء عملية تهجير قسري في التاريخ للمصلحة العامة و لم يفكروا في حمل السلاح ضد الدولة و دماء ابناء المناصير روت رمال سد مروي ولم يفكروا المناصير في حمل السلاح ضد الدولة التي هجرتهم للمصلحة العامة و اطفال وابناء الشمالية و نهر النيل يموتون بالعشرات بسبب لدغات العقارب لانعدام (الامصال) والنهر يبتلع العشرات من رجالهم و اطفالهم في كل عام بسبب انعدام الخدمات الاساسية و لم نسمع بان قبيلة كذا و لا مدينة كذا اعلنت التمرد على الدولة او طالبت بحق تقرير المصير لان اراضيهم و جبالهم من دهب و يورانيوم.
يمكنك عزيزي القارئ ان تسأل العم (قوقل) عن عدد اتفاقيات السلام التي وقعتها الحكومات السودانية مع الحركات المسلحة منذ الخمسينات لأنك لن تصدق إذا قلت لك بانها اكثر من خمسين اتفاقية سلام، لكن ما لم و لن تجده عند العم قوقل هو الاخطر و العجب العجاب، و هي الفواتير التي دفعتها خزينة الدولة السودانية لشراء السلام في كل اتفاقية، يا ترى كم دفعت في اجمالي الاتفاقيات الخمسون؟ كم دفعت خزينة السودان لاستضافة المفاوضين من فواتير الفنادق الفخمة و تذاكر الطيران الدرجة الاولى؟ كم دفعت الدول الصديقة لاستحقاقات السلام و استضافة اطراف السلام بداية من طرابلس و مرورا بالدوحة و اديس ابابا الخ.
و الغريب العجيب ان ذات الوجوه المدنية و العسكرية التي جلست في طاولة مفاوضات المائدة المستديرة في الستينات و السبعينات و الثمانينيات و التسعينات و الالفية الاولى الان تتحدث و تقترح و تبحث عن موضع قدم في المفاوضات الجارية الآن.
المهدي لوحده كان شاهدا على ثلاثين اتفاقية و ياسر عرمان كان حضورا في ثلاثين اتفاقية، ماذا جنينا من مفاوضاتهم و اتفاقياتهم ماذا كسب اهل دارفور و المنطقتين و الجنوب من كل هذه الاتفاقيات؟
وحدهم هم المفاوضين الذين كسبوا و امتلأت حساباتهم البنكية في الخارج و الداخل من هذه الاتفاقيات، هم وحدهم الكاسبون و الخاسر الاكبر هو المواطن و الوطن .
يحدثوننا صباحا” و مساءا” عن جزور الازمة السودانية و في الحقيقة لا توجد جزور للازمة السودانية بل هذه الشلة السياسية التي لم تتبدل منذ نصف قرن هي جزور كل ازمات السودان، المشكلة السودانية تكمن في هذه الواجهات السياسية و العسكرية التي اذا مات احدهم اورث عشيرته هذه الصنعة و الحرفة، نعم هي مهنة يسترزق منها عواجيز و عطالة النخب السياسية في بلادنا العاطلين تماما” عن الموهبة و التفكير و الانتاج، هم السماسرة العظماء و الحقيقين في بلادنا، هم السرطان الذي ينخر في عظم هذا الوطن، هم (سم) الانانيا، و قد اختارت اول حركة تمرد في السودان اسم (انانيا) شعارا” لها، و الانانيا لمن لا يعرفها هو لفظ من لغة المادي و تعني (سم الثعبان الاسود) و سم الثعبان الاسود هذا لا يقتل الشخص مباشرة، بل يجعل الشخص يترنح من الالم و الحمى لايام طويلة ثم يسقط جثة هامدة، و هذا هو ما حدث للسودان منذ اندلاع اول شرارة تمرد و لدغة سم في العام ١٩٥٤ ظل السودان يترنح و يتقهقر و الان اقتربت لحظة سقوطه اذا لم يتدخل الشعب السوداني و يقف و قفة رجل واحد ضد جميع الحركات الانتهازية و السماسرة السياسيين و الاحزاب الضالة و النخب المتعفنة و الفاشلة لحسم هذا العبث و الضلال باسم السلام و باسم الشعب و ثوراته.