
ما لا يتحدث عنه حراس الفضيلة
محمد مرشد محمد الكميم
وأنا أقرأ رواية: “العلاقات الخطرة بين الجنسين” للروائي الفرنسي: كودير لوس دي لاكلو بترجمة: أديب مروة، وجدت فيما أثير من لغط وشوشرة حولها وفيما صب من هجوم عليها من قبل أعضاء في البرلمان الفرنسي -بعد مضي ما يقارب القرنين من صدورها وبعد تجسيدها في فيلم في خمسينيات القرن العشرين- تشابها مع ما حدث من هجوم على الروائيين اليمنيين: محمد عبد الولي ووجدي الأهدل؛ فقد تعرضت رواية الأول: “صنعاء مدينة مفتوحة” للهجوم وقت إصدار صحيفة الجمهورية لها في العقد الأول أو بداية الثاني من القرن الواحد والعشرين من قبل برلمانيين يمنيين؛ أي بعد موت صاحبها بما يقارب الثلاثين سنة، وكأننا نجد من يثأر من الأدب بأثر رجعي، كما تعرضت رواية الثاني: “قوارب جبلية” التي نشرت مسلسلة في الملحق الثقافي لصحيفة الجمهورية -كما أتذكر وقد أكون مخطئا- تحت عنوان: “إضبارة جمهورية الانتفاخ”، لحملة كبيرة نكأها من ظن أنه ومجتمعه المستهدفون بها من زاوية مذهبية وأخرى اجتماعية، وقد ازداد فتيل الهجوم الشرس على صاحبها اشتعالا حتى اضطر إلى مغادرة الوطن؛ خوفا على حياته من آثار الأقلام المسعورة التي حرضت عليه.
إن أوجه الشبه بين الأحداث الموازية لحدث صدور الرواية أو صدور الفيلم الذي يجسدها تتأسس على أوجه شبه متعلقة بمضامين الروايات؛ فالروايات الثلاث تعري المجتمع الذي كتبت عنه وله، وتسعى إلى فضح ما يجري فيه أو في طبقة من طبقاته أو شريحة من شرائحه أو مدينة من مدنه من تفسخ للقيم الأخلاقية أو تغير فيها أو تحول عنها، وتكشف عن أن انتهاك قيم ما قد يأتي بفعل تغيرات وتحولات وهزات مجتمعية تتطلب الانتقال إلى قيم أخرى لا تنظم ولا تقنن إلا بعد أخطاء ترتكب بفعل التغيرات أو التحولات الضرورية التي تحدث في المجتمع وبنيته، كما قد تكشف عن أن انتهاك تلك القيم لا يتم إلا من قبل من ينصبون أنفسهم حراسا لها؛ لهذا وجدنا أن مجموعة من البرلمانيين الفرنسيين استشعروا أنهم هم المقصودون بإعادة إنتاج الرواية في فيلم وأن الفيلم يفضح فسادهم الأخلاقي الذي ينخر في فرنسا ويعري جمرهم المتوقد تحت الرماد للمشاهدين، فانبرى من تحسس التراب على رأسه من البرلمانيين ونصب نفسه حارسا للفضيلة مثيرا ضجة عارمة تجاه الفيلم والرواية أسفرت عن اتخاذ قرار بمصادرته أولا ومنع طباعة الرواية مجددا ثانيا، ثم خفف الأمر إلى منع عرض الفيلم خارج فرنسا بحجة أنه يسيء إلى سمعة فرنسا وصورتها في العالم بأقلام وأفلام فرنسية، ولكن كل المحاولات باءت بالفشل؛ فبعد تلك الضجة البرلمانية خرج الفيلم إلى العالم ولم يظل عرضه مقتصرا على فرنسا وحدها، كما ازدادت مبيعات الرواية وتنوعت طبعاتها وتعددت ترجماتها، ليس لأنهما: (الفيلم والرواية) يعريان حقيقة فساد المجتمع الفرنسي أو شريحة منه أو نخبة فيه، ولكن لأن من يقرأ الرواية أو يشاهد الفيلم يرى فيهما صورة من صور الفساد القيمي للمجتمع الذي يعيش فيه.
ولعل هذا هو ما صنعته روايتا عبد الولي والأهدل اليمنيين اللذين شخصا واقع المجتمع اليمني المنخور بالفساد الأخلاقي الخفي الذي لم يقبل حراس الفضيلة الاعتراف بوجوده مع أن معظهم يعدون جزءا منه ومشاركين في صناعته، بوعي منهم أو بغير وعي.
إن شعورهم الواعي وغير الواعي بأنهم جزء من منظومة الفساد القيمي إن لم يكونوا صانعيه، هو الذي جعلهم يفضلون إعلاء مبدأ ستر الجيفة على معالجة الخلل -وهذا ديدن كل عاجز أو كل مستشعر بتهمة ذبح الفضيلة- ولكنهم بإعلائهم لمبدإ ستر الجيفة يجعلون رائحتها تتفشى وتنتشر بأسلوبهم الفضائحي والاتهامي والوعظي لغيرهم، دون أن يعوا أنهم لا يفضحون إلا أنفسهم ولا يدينون إلا ذواتهم ولا يعرون إلا حقيقة الفساد القيمي الموجود في المحتمع؛ لأنهم بفعلهم ذاك يدفعون القراء والمشاهدين إلى مطالعة ومشاهدة ما يحاولون دفنه، وحينما يطالع الجمهور أو يشاهد الممنوع المرغوب، يجد حقيقة المجتمع مجسدة أمام ناظريه بصورة واقعية أو مجازية، فلا يملك إلا الاعتراف بحقيقة ما صور له والتساؤل عن الأسباب التي دفعت حراس الفضيلة إلى محاولة إخفائها، ومن هنا يبدأ الجمهور خطوة خطوة باستكشاف خفايا اعتراضاتهم وخبايا إداناتهم للروايات والروائيين، ثم ينقلب السحر على السحرة؛ لتتحول -بعد ذلك- الروايات بفضل جمهور المتلقين إلى تاريخ موثق للشعوب والمجتمعات التي تحاول السلط بكل أشكالها إلغاء وجودها بطمس حقيقة ما يجري في حياتها وحياة أفرادها.
قد يمارس حراس الفضيلة استخدام أساليب قذرة؛ لاستثارة جماهير القراء وتحريضهم على إدانة وتسفيه الروايات وأصحابها باجتزاء مقطع كهذا الذي سأنقله إليكم من رواية: “العلاقات الخطرة”. يقول الفيكونت دي فالمون في رسالة موجهة منه إلى الماركيزة دي مرتاي: “إصغي إلي، يا صديقتي الحسناء، لو كنت توزعين نفسك بين عدة أشخاص، فلن تكون لدي أية غيرة، ولا أجد عندئذ في عشاقك إلا خلفاء للفاتح الإسكندر؛ أي سيظلون عاجزين عن الاحتفاظ فيما بينهم بكل هذه الامبراطورية التي كنت أسود فيها وحدي، ولكن أن تمنحي نفسك بكليتك إلى واحد منهم، وأن يكون ثمة رجل آخر سعيدا مثلي، فهذا ما لا أطيقه، ولا تأملي بأن أتحمله؛ فإما أن تستعيديني، وإما أن تختاري لك رجلا آخر، وأرجو ألا تخوني؛ بسبب نزوة خاصة، الصداقة المصونة التي أقسمنا عليها”(ص.54).
إن القارئ لهذا المقطع معزولا ومستقلا عن السياق الكلي للرواية ومغزاها، يجعله يفهم الرواية على طريقة “ولا تقربوا الصلاة”، ولكن الرواية لا تقرأ مجزأة ولا مفقرة، وإن كانت بعض الفقرات والجمل في بعض الروايات ساحرة سحر الأبيات الشعرية المنتزعة من السياق العام للقصيدة كالفقرة التي اخترناها، بل تقرأ في سياقها النصي الكلي وفي سياقها الثقافي والاجتماعي الذي ولدت فيه؛ فرواية “العلاقات الخطرة” إن قرئت خارج هذين السياقين سيرى القارئ أنها رواية محرضة على العلاقات الخطرة بين الجنسين فعلا، ولكن إن عرف القارئ أنها تصور الطبقة الأرستقراطية التي جعلتها أرستقراطيتها تستهين بالقيم الأخلاقية، فإنه سيعي أنها؛ أي الرواية، سعت إلى فضح هذه الطبقة التي أصبحت تمارس هذه القيم الأخلاقية السلبية -من وجهة نظر التصور القيمي لتلك المرحلة- بنوع من العادية واللامبالاة وعدم الشعور بأنها قيم محظورة، ومن هنا سيفهم أن الرواية تشخص المجتمع أو شريحة أو طبقة منه، والتشخيص مهم للعلاج، كما سيفهم أن الرواية لا تعالج القضايا بأساليب الوعاظ ولا بفجاجات حراس الفضيلة، وهي فعلا لا تعالج بتلك الأساليب؛ لأن لها طرائقها الخاصة للمعالجة التي قد تأتي في صورة عرض الظاهرة أحيانا، وفضح الحقيقة المستورة أحيانا ثانية، واقتراح التغيير والتحول للمجتمع أحيانا ثالثة…إلخ، وهذا بعكس معالجة حراس الفضيلة الذين يكرسون لقيم ثابتة بالوصاية والوصية والنصح والإرشاد الفج ويكلسون مجتمعات بأسرها في كبسولات الماضي وقيم العادات والتقاليد المتخلفة أحيانا والمتجاوزة(بفتح الواو) أحيانا أخرى؛ لذا يجب ألا يتعاطى مع الرواية من لا يعرف كيف تقرأ ولا يمتلك جهازها المفاهيمي ولا أدوات نقدها. ولعل هذا هو ما عرض الروايتين اليمنيتين المذكورتين آنفا ومؤلفيهما لذاك الهجوم الشرس الذي يوضح كيف تكون مصائر الأمور إذا آلت إلى غير أهلها.
لم يقتصر الأمر على هاتين الروايتين فحسب، بل وجدنا أعمالا روائية يمنية أخرى، كروايات علي المقري ومحمد الغربي عمران ونبيلة الزبير وغيرهم، تتعرض موضوعات روايتهم لمثل هذا الهجوم والسلق بألسنة حداد، دون أن تلتفت تلك الألسنة إلى فنياتها التي لو تعرض لها واحد منها لوجد مندوحة للقول فيها، ولكن الفنيات ظلت بعيدة عن التناول ومتروكة جانبا لخاصة الخاصة من النخب.
يجب علينا أن نعي أنه إذا كان الذين يتعرضون لهذه الروايات بمثل ذاك الانتقاد، وليس النقد، ما زالوا يلبسون عمامة الفقيه على بدلة فرنسية الصنع وحذاء إيطالي الماركة، فأنى لهم أن يتفلتوا من قيم الحلال والحرام والحق والباطل والصواب والخطأ؛ لكي يلتحقوا بقيم الجمال الموجودة في الأعمال الأدبية التي تحتاج إلى جهاز مفاهيمي خاص لكشفها، وكيف لهم أن يحدثوا ذلك ما داموا يفتقرون إلى تلك القيم الجمالية في حياتهم وفي رؤيتهم للعالم.
إنني – وبكل أسف أقولها- أجد حراس الفضيلة منتشرين في كل مكان في حياتنا، والمصيبة أنهم يمدون أيديهم إلى رؤوس الآخرين ليبحثوا عما يدينهم حتى لو كان الآخرون أبرياء، وينسون أن يرفعوا أيديهم إلى رؤوسهم التي امتلأت بأتربة الرذيلة وتقرحت من ارتكاب الخطايا؛ فكأن لسان حال كل بريء يقول: قبل أن تنزع الخنجر المتوغل في الظهر دعني أراك يا صديقي، فإن لم أكن أراك، فإنني أعرف أن مثل هذه الطعنات لا يقوم بها إلا صديق حقير أو أحد حراس الفضيلة؛ فأي واحد منهم أنت.