ثقافة وفن

الرقص بالكلمات في مساحة للرقص

طارق يسن الطاهر

أتناول هنا رؤية تحليلة لنص نثري قصير، لكنه ماتع جدا ومكتنز بشتى صنوف الجمال،  ويضم كل تكنيكات الكتابة  ،النص للكاتبة السعودية جوري العبدالله.

النص:

مساحةٌ للرقص

أشدُ روحي إلى الأعلى،

تتدحرجُ فكرة على امتداد جذعي

أركلها بقدمي،

تطير في الهواء،

وأضحك..

…..

تراني في الاتجاه الخامس

أهدهدُ رعشةَ شفاه الياسمين،

ويروني في يديك تفاحة..!

…..

يجدر بنا أن نمتطي صحو هذا المساء،

ونفقأ عين البعد،

فالعيون ياحبيبي لاتعشق الغياب..!

جوري العبدالله       

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الرؤية:

      تتكئ الكاتبة على نفسها، وتصعد بروحها ،فتراودها فكرة ، لا تقبل بهذه الفكرة ، فتبعدها عنها ، ثم تضحك، ربما لانتصارها على هذه الفكرة ،وتنحيتها بعيدا عنها.

ثم تعقد مقارنة بين رؤيتها للأشياء، ورؤية الآخرين للأشياء، ولها أيضا .

   فهي تكون مرنة مطيعة ،لا تتمرد على حبيبها ، فهكذا الذوبان في الآخر ، فهي في يديه تفاحة يقلبها كيف شاء.

   ثم ترجو أن تكون مع حبيبها دائما ، لا يصيبهما الفراق  ، ولا يأتيهما البعد ؛ فتستحث حبيبها  – وهنا تدعو للجهد الجمعي معه وليس بمفردها –  ليفقآ – هي وحبيبها – عين البعد ، حتى لا يعد مبصرا ؛ فلا يأتيهما مرة أخرى ؛ فعيونهم لا تطيق بُعدا ولا فراقا ولا غيابا.

العنوان  “مساحة للرقص “أعطى النص حيوية ومنحه نشاطا فاعلا ، فهناك “مساحة” ضاقت أو اتسعت لا يهم ، المهم أنها مساحة ، فيها مجال للتحرك ،وهناك “رقص” ، وحسبها من كلمة توحي بالحركة ، وتفعيل كل أجزاء الجسم.

وامتد العنوان لينقل عدوى الحركة الحميدة للنص ، فكان النص حيا  متحركا ،وليس جامدا.

الفكرة العامة في هذا النص ربما مطروقة  وهي وصف لحظات الرقص ، لكن تناول الكاتبة جاء غير نمطي ، وغير مطروق  ،فقد سبقت الأوائل ، وأتت بما لم يستطيعوه .

طالما هناك فعل “رقص” فلابد أن نلمح إشارات واضحة للمكان ومنها  : الأعلى ، الاتجاه الخامس /  تقابلها إشارات للزمان ، ومنها المساء.

النص محتشد بالصور،  مفعم بالجمال ،ومن ذلك الاستعارات في :

تتدحرجُ فكرة ؛ إذ جسَّدت المعنوي، حين جعلت الفكرة وهي شيء معنوي غير محسوس جعلته محسوسا يتحرك ويتدحرج ، وهنا شبهت الفكرة بالكرة ،وحذفت المشبه به،  ورمزت إليه بشيء من لوازمه وهو ” تتدحرج”.

كذلك : نمتطي صحو هذا المساء

عندما يقرأ المتلقي ” نمتطي ” يخطر على ذهنه امتطاء الجواد ، فهنا تمتطي صحو ، وليس صهوة كما هو مستخدم ، فهنا تأتيك بالجديد المبتكر الذي على حد علمي لم يسبقها عليه أحد .

وكذلك ونفقأ عين البعد ، وغيرها كثير …

استخدمت الكاتبة مفردات رقيقة ورشيقة وموحية ، وذات ظلال ، وليست مفردات مكررة ، ووظفت كل كلمة في مكانها الصحيح ؛ بحيث تكون المفردة قادرة وحدها – وليس غيرها -على تأدية المعنى المطلوب منها ، في اتساق تام مع رصيفاتها.

فالكلمات متسقة مع المضمون الحركي للنص ، فتدل على الحركة هي أيضا ، ومنها :  تطير، أركل ، أشد ، تتدحرج ،  أهدهد …

من عناصر الحركة في النص اختلاف الضمير ، فالكاتبة تستخدم ضمير المتكلم  المفرد مرة  مثل : أشد ، أركلها ، يروني … ثم تنتقل لضمير المتكلمين الجماعة : بنا ، نمتطي ، نفقأ

مما أعطى النص روح البقاء ، وكسر الرتابة والملل.

كما برعت الكاتبة في المفردات وتوظيفها ، كذلك برعت في التراكيب والعبارات ، ومن ذلك الجدة والطرافة في تعبيرها : الاتجاه الخامس ، فهو- كالبعد الثالث – شيء مميز ومختلف وخارج عن المألوف ، فكلنا يعلم الاتجاهات الأربعة ، لكن جوري  تفرِّع لنا اتجاها خامسا ؛ لتوجد هي فيه.

النص فيه طابع التكثيف والتركيز، كان من الممكن لجوري أن تبسط لنا فكرتها في مقال طويل أو قصة طويلة أو رواية ، ولكنها آثرت التكثيف ؛ لذا جاءت المعاني مركزة ، والعبارات محددة والكلمات متقنة راقصة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق