
د. إسماعيل محمد النجار
توفي جلال حزام المقرمي، وترك وراءه ولده غازي جلال المقرمي، وعمره ثلاث سنوات، وبنتين أعمارهما: سنتان، وسنة، وعمر زوجته اثنان وعشرون سنة، والغريب أن الأم بمجرد إكمالها العدة تزوجت مباشرة على رجل متزوج وله خمسة أولاد، وسافرت معه للخليج، بعد أن سلمت أولادها لجدتهم آمنة لتقوم بتربيتهم، وصرف عليهم أحد أبنائها وأصحاب الخير.
وبالرغم من الظروف الصعبة، أصرت جدتهم آمنة على تعليمهم في المدارس صباحاً، وفي الفترة المسائية يتعلمون حرفة تدر عليهم دخلاً ينفقونه على تعليمهم، فأدخلت غازي المقرمي، وعمره ست سنوات المدرسة، وورشة ميكانيك سيارات في الشارع الرئيسي، وتبعد مائة متر تقريباً، كما أدخلت البنات في السنة التالية المدرسة ومعهداً لتعلم الخياطة.
في البداية يتقاضى غازي مبلغ ريالين آنذاك، أما البنتان بعد تعلمهن الخياطة، أشترت لهما جدتهما مكينة خياطة ليعملا عليها، وحرصت الجدة آمنة وتعاملت بصرامة في دراستهم، وتعليمهم الحرف، لدرجة استخدامها الضرب المبرح، مما جعلهم يتعلمون ويستوعبون خوفاً، وفرحاً بالحصول على مكافأة جدتهم لتفوقهم وإجادة عملهم الحرفي.
لم يعش الثلاثة الأطفال حياة الطفولة، وكل أوقاتهم دراسة وعمل، ويستهويهم لعب الأطفال، ويتفاعلون معهم أثناء عملهم أو الدراسة للحظات، ويحلمون أنهم يلعبون كأطفال الحارة.
بلغ غازي عمر التسع سنوات، وتعلم وأجاد حرفة مكانيك السيارات، لذكائه وحاجته للمال، بل وفاق معلمه، ليشخص ويصلح معظم أعطال السيارات، بل ويقوم بتصميم بعض القطع وإرسالها للمخارط (أماكن تشكيل القطع)، ليحل الكثير من مشاكل السيارات التي لا يوجد لها قطع غيار، أو مكلفة الثمن.
أحب غازي مهنة الميكانيك، وأبدع فيها، وحمل عقول الكبار في وقت مبكر، وأصبح معلم الورشة فنياً، ويوجه الجميع بما فيهم صاحب الورشة (مصطفى)، وأطلق عليه مصطفى: الدجاجة التي تبيض ذهباً. لغزارة الدخل المالي للورشة.
عندما يتوافد أصحاب السيارات لإصلاحها لشهرة الورشة، يسألون عن معلم الورشة، ليشار على غازي بالبنان، ولم يصدقوا، ويعتقدون أنهم يمازحونهم، وبعد التأكد يقفون مبهورين غير مصدقين أنه المعلم، ليضحكوا باستغراب، وعينهم تدمع لقناعتهم أن وراء الولد قصة، وقبل أن يتحدثوا معه يتساءلون عن قصته، ويعرفون ما وراءه.
يذهب غازي معظم أيامه للمدرسة وثيابه متسخة، حتى وأن نظفت يظل عليها آثار الزيت المحروق للسيارات، أما يديه ورجليه ووجهه يميل للسواد، وشعره للغبرة، وكأن غازي عجن بالزيت المحروق، لتتغير ملامحه الطفولية، وتبقى براءته ورغبته باللعب بأدوات الورشة وفي المدرسة.
يتجنبه ويسخر منه الكثير من زملائه والمدرسين، على الرغم من تفوقه وذكائه، ليكون مصدراً للضحك والسخرية، وعلى الرغم من ذلك، لا تفارقه البسمة، وإذا ضحكوا يضحك معهم، وغالباً ما يغادر للمدرسة من الورشة ويعود إليها.
توفت جدتهم وعمره عشر سنوات، وأختاه إحداهما تسع، والأخرى ثمان سنوات، وبفقدها كانت مأساتهم لضياع من يوجههم وتعودهم على ظلها الذي يلاحقهم، ويحكمهم ويرعاهم، ويخافون أن يقدموا على الخطأ في حياتهم اليومية.
تولى أحد أعمامهم مسؤوليتهم، على أن يسلموا كل ما يحصلون عليه لجيبه مقابل أكلهم وشربهم، وعانى غازي كثيراً من تسلط عمه ونهمه الشديد للمال، واعتداءاته المتكررة بالضرب، ليهرب إلى الورشة، ويطلب حماية مصطفى، ودخل بمشاكل مع عمه زيد، لتصل لقسم الشرطة، ليتعاطف معه مدير القسم بعد أن عرف أنه أصلح سيارات القسم، وأجبر عمه على عمل ورقة بعدم التدخل في عمله ودراسته، على أن يتولى أمره مصطفى حسب رغبته.
ومن ذلك اليوم بنى مصطفى غرفة وحمام خاص على أطراف الورشة لغازي، لينام ويتناول أكله في بيت مصطفى، ويتولون غسل ملابسة، وبالقدر الذي حرص مصطفى على عمل غازي، أهتم كثيراً بدراسته، ليهدده عند تقصيره بإعادته لعمه زيد، ويبلغ مدير القسم.
وفي ذات يوم، قرر مكتب التربية إرسال أحد الموجهين للعلوم، وحدد الموعد يوم الأحد، وأبلغ مدير المدرسة غازي أن لا يحضر المدرسة، حتى لا يشوه سمعة المدرسة أمام الموجه، وتظهر المدرسة بالمظهر غير اللائق والأنيق، ليصحي غازي في وقت مبكر، ويبدأ عمله في الورشة، وقبل أن يأتي العمال.
وفي الساعة السابعة صباحاً، تعطلت سيارة المفتش بنفس شارع الورشة، وبالقرب منها، ليسأل المارة عن ورشة قريبة، ليصفوا له ورشة مصطفى، ويذهب راجلاً إليها، ولم يجد إلا غازي، ليسأله عن مهندس الورشة الأفضل، ويخبره أن سيارته دائماً تتوقف دون سابق إنذار، على الرغم أنه لم يمض عليها إلا سنة منذ أن أشتراها جديدة، ليقول له غازي: إنه معلم الورشة. ليضحك المفتش ويداعبه قائلاً: أين والدك المهندس؟ ليذكر أن والده توفى وعمره ثلاث سنوات، ويعمل في الورشة ويدرس.
وسأله: لماذا لم تذهب للمدرسة؟ ليقول له: أخبرني مدير المدرسة أن لا أحضر؛ لأن موجه مادة العلوم سيأتي، ولا يريد أن يأخذ انطباعاً سيئاً. ليسأله عن المدرسة، ليقول: مدرسة جمال عبد الناصر؟ ووقف محتاراً وغير مصدق ما يقوله، ليسأله غازي: أين سيارتك يا أستاذ؟ ليقول ويشر بيده: بجوار تلك العمارة المرتفعة.
وأخذ بعض أدوات للفحص، وأغلق غازي باب الورشة، وذهب معه، وهما يسيران، ينظر إليه الموجه يعقوب ويضحك، ويقول في داخله: على الأقل يشغلها حتى أصل للمدرسة.
ووصلا للسيارة، وفتح غطاء المكينة، وفحصها ببعض من الأسلاك، ليقول مشكلة سياراتك بسيطة، ولكن لا أحد يفهمها أو يشخصها، لينظر إليه بذهول ويسأله: ماذا تقصد؟ ليرد: تحتاج فقط لنقطة لحام في منطقة الفضة لوصل الحلقة الكهربائية؛ لأنها تعلق بين الوقت والآخر، وتتوقف السيارة.
وبدأ الأستاذ يأخذ الأمر بجدية، وسأله: كيف عرفت؟ ليأخذ السلك كتوصيله لنفس المكان لتشتغل السيارة، وطلب منه أن يقودها للورشة، وركب بجواره، وهو يشكوا من المواقف المحرجة، خاصة عندما تتوقف السيارة في الشوارع المزدحمة، لتصرخ زمامير السيارات، ويخرج الناس من نوافذ السيارات، ويشتمون وأنا أتصبب عرقاً، لأستدعي الكثير من المارة لمساعدتي لدفعها لمكان آمن.
ليضحك غازي، ويرثي لحاله قائلاً: سأحل المشكلة نهائياً. وأدخلها للورشة، وأخذ مكينة لحام صغيرة، ووضع نقطة من اللحام في مكان سلك التوصيل القصير جداً، وقال له: الآن قودها إلى حيث ما تريد، ولا يمكن أن تتوقف بعد الآن.أخبره الأستاذ يعقوب أنه الموجه الذي سيزور المدرسة، ليخاف ويقول: أنا لم أغب، ولكن طلب مني. ليقول له: أنت ذكي ومبدع، اركب بجواري. ليقول غازي: ملابسي متسخة وغير لائقة. ليكرر عليه اركب. وفي الطريق سأله عن وضعه، ليروي له قصته، ليحزن، بل ودمعت عيناه.
فتحت بوابة المدرسة، ودخل الموجه وبجواره غازي، ليثير استياء مدير المدرسة والمدرسين، وحاولوا ملاطفة الأستاذ يعقوب، والتبرير أن غازي غير لائق أن يكون طالب؛ لقذارة ملابسه وجسمه، وأن النظافة الشخصية هي إحدى الأساسيات لقبول الطلاب. ليرد عليهم الموجه: المدارس والتعليم لم توجد للأطفال الميسورين فقط.
ودخلوا الإدارة ويعقوب ممسكاً بيد غازي، وطلب منه أن يشرح لهم لماذا شكله وملابسه متسخة، ويعطيهم القصة منذ البداية، ليقول قصته وهو يبكي في بعض مقاطعها، ليبكي الموجه والمدرسين، وقال لهم الموجه: عليكم أن لا تتعاملوا مع الطلاب على أساس الشكل، وأن تدرس وضعية كل طالب قبل أن تصدروا أحكامكم.
ودخل الفصول للتفتيش، وتقييم مستوى الطلاب في الفيزياء، وبدأ بفصل غازي، بعد أن أخذوا درجاً وكرسياً ووضعوه في المقدمة، ليجلس عليه غازي، وبدأ الأستاذ يعقوب يسأل أسئلة لمختلف المستويات، ليجاوب البعض، ولكن غازي أجاب عليها جميعاً وبدقة متناهية.
على الرغم أن الأستاذ يعقوب أعطى بعض الأسئلة المعقدة، وهو يعرف ذلك، ليجيب عنها غازي، ويقبل غازي في رأسه، ويطلب من الجميع التصفيق الحار للمهندس المبدع، ووجه رسالة لزملائه يصف مستقبل غازي بالعظيم، وسيكون فخراً للبلاد.
وعندما خرج، طلب من غازي أن يعد ملابسه وحقيبته بشكل جيد من اليوم الأول، ليتعهد قائلاً: حاضر. وطلب غازي منه أن يكون مشرفاً عليه مقابل إصلاح سيارته، وضحك الأستاذ يعقوب.
(الحلقة الثانية)
أخذه الأستاذ يعقوب للإدارة، وقال لمدير المدرسة: من الآن وصاعداً أنا ولي أمر غازي في المدرسة. ليعود غازي للورشة وهو يتقفز فرحاً وسعيداً، ويقول: أنا أعظم شخص بالكون، لقد عرفت المدرسة من أنا، وقدري.
وفي اليوم التالي، مر على الورشة الأستاذ يعقوب الساعة الثانية موعد وصول غازي، ووقف يتأمل في باب الورشة، ووجد غازي يتحرك بين العمال والسيارات، ويعطيهم التوجيهات الفنية للإصلاح، ويدخل ويقول بصوت مرتفع: أين صديقي غازي؟ ليتفاجأ ويذهب إليه، ويحتضنه الأستاذ يعقوب ويقبله، ويسأله: هل تناولت الغداء؟ ليرد: لا، لكن تناولت سندوتشات أثناء استراحة الدراسة.
وأخذ الأستاذ يعقوب، وعرفه على صاحب الورشة مصطفى، ليأخذهما الحديث، ويقطع الحديث الأستاذ يعقوب قائلاً: لنا لقاء آخر يا أستاذ مصطفى. ويشكره على اهتمامه بغازي، ويقول: ليس هناك متسع من الوقت لنتحدث، ولقد أتيت لأخذ غازي لتناول غذائه في منزلي.
حاول مصطفى وغازي الاعتذار قائلين: الغداء أعد، وموجود في الغرفة. ليأخذ بيده بقوة، ويعتذر لمصطفى، وأخذه بسياراته، وعندما وصل للبيت وجد أن أولاده الخمسة: ثلاثة أولاد، وبنتان، أكبرهم ناظم، وعمره عشر سنوات، وأصغرهم ليلى، ثلاث سنوات، وزوجته لطيفة في استقباله، ليرحب به بلطف، وأخذته لطيفة لتقبله وهي تدمع، وتقول: بارك الله فيك يا إبني، اعتبرني من اليوم أمك، ويعقوب أبوك، وأنت الأخ السادس للأولاد، وستأتي لتناول وجباتك معنا يومياً. ليعتذر لبعد المسافة، وحرصه على وقت العمل والمذاكرة، ليوافقهم أن يأتي يوم الجمعة. وطلبت لطيفة أن يحضر ملابسه لغسلها، وقال له الأستاذ يعقوب: إذا لم تأتِ سنأتي إليك. ليتعهد بما اتفقوا معه.
وبدأ من الأسبوع التالي الذهاب إليهم، وأحس بالراحة والدفء وحنان الأسرة، عدا سليمان يعقوب، وعمره تسع سنوات، يتأفف من وجوده، على الرغم من إغداق غازي عليه بالهدايا والمال ليسترضيه، وقد شعر والده ووالدته بتحسس غازي، ليقولا له: لا تأخذ عليه يا إبني، تصرفاته مضطربة، وناتجة عن سقوطه من سطح المنزل قبل ست سنوات، ليحدث له اضطراب في التفكير لأصابته في الدماغ، وسمحنا له أن يبيت ليلة الجمعة في منزل جدته وعمه سعيد المقعد، ويعود صباح السبت للمنزل ليتناول الفطور حتى لا تتحسس. ليرد: لا تجعلوني مشكلة، وتبعدوا سليمان. ليردوا: يا إبني، جدته بحاجة إليه أيضاً، ما عليك من هذا الموضوع.
تابع الأستاذ يعقوب غازي المقرمي في المدرسة والورشة، وساعده في حل كثير من مشاكله، ويراجع ويشرح له الفيزياء والرياضيات ليوسع من مداركه، خاصة يوم الجمعة، وإذا لم يأتِ يذهب أو يرسل أحد أولاده للإتيان به، ويأخذ جميع ملابسه لغسلها، ويحثه على الاهتمام بخواته، ليقول له: ازورهن بشكل دائم، وأوفر لهن كل ما يحتجن إليه.
وينسق الأستاذ يعقوب بالاتصال المستمر مع مصطفى صاحب الورشة، ويناقش كل أمر يهم غازي، ومنها بناء غرفة فوق السابقة للنوم، السفلية للاستراحة واستقبال الضيوف، والجلوس مع العمال أو زملائه في المدرسة.
في يوم الإثنين خرجت والدة الأستاذ يعقوب للمشفى، وعند عودتها للمنزل فتحت الباب، ووجدت ابنها سعيد مقتولاً، والدم يملأ الصالة، ليجن جنونها، وتم إبلاغ الأمن بالحادثة، وأجريت التحريات، ولم يتوصلوا لنتيجة، وسجلت القضية ضد مجهول، وخافت جدة سليمان من السكن وحيده، حزن الجميع عليه، وخاصة سليمان، ليبكي معظم وقته بحرقة، حتى أثناء تواجده بالفصل الدراسي، تأتيه نوبات من البكاء.
اضطرت الجدة أن تطلب من ابنها يعقوب أن يبقي سليمان معها، على الرغم من محاولته أخذها لتعيش معه في المنزل، ليوافق بعد رفضها، على أن يتردد سليمان لمنزل والده بين الوقت والآخر، ووقف يعقوب مع غازي على وتيرة واحدة، خاصة في دراسته، حتى تخرج من الثانوية العامة، بنسبة ستة وتسعين بالمائة، وتابع له المنحة الدراسية للهند في مجال هندسة ميكانيك، ولم يسافر إلا بعد أن زوج أختيه، وودعهن باكياً، وتذكر الجميع أمهم، ليقولوا: تسع عشرة سنة، ولم تذكرهم أو تسأل عنهم. وكانت أمنية ابنتيها أن تحظر فرحة زواجهما على الأقل، وأخبرهن غازي أن ينسينا أمهن، ويكن قويات في الحياة، ويعتمدن على أنفسهن.
سافر غازي الهند، ودرس البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، وحصل على عمل في مجال الهندسة الميكانيكية للطيران، ليثبت جدارته وإبداعه في اكتشاف الخلل والإصلاح وابتكار قطع الغيار، ليصبح المهندس الأول للطيران، وعين ضمن فريق دولي للتحقيق من حوادث سقوط الطيران، وتعين في جامعة سدني، وتدرج في الألقاب العلمية، ليحصل على درجة الأستاذية، ويصبح بروفسوراً محاضراً وزائراً. انقطعت صلة غازي باليمن تماماً، وتزوج على فلسطينية مهاجرة، وأنجب ولدين.
تعرض يعقوب بعد سنة من سفر غازي لكارثة أسرية هزت الرأي العام اليمني، ففي أثناء تواجده في إحدى ورش التربية لتدريب مجموعة من الموجهين الجدد، عاد للمنزل وضغط الجرس أكثر من مرة، ودق الباب بقوة، ولم يفتح له أحد، لينزل سريعاً، ويستعير سلماً طويلاً، ليكسر ويفتح أحد النوافذ ويدخل، وعندما دخل وجد زوجته مقتولة، وهي راكعة فوق السجادة، ودمها ينزف، وأحد أبنائه على باب غرفته مطعون، وآخر داخل غرفته، وبنته الصغرى اختبأت تحت إحدى الطاولات، ليلحقها القاتل ويقتلها، وابنه الكبير على باب المنزل أثناء دخوله، وقد استخدم القاتل سكيناً كبيرة وحادة، وطعنهم حتى الموت.
وأصيب الأستاذ يعقوب بحالة انهيار عصبي، وأسعف للمشفى، وكلما فاق يطلب منهم أن يحقنوه بإبرة القتل الرحيم، ليحدثه الكثير أن يحمد الله على كل ما جرى له، وأن طلبه يعتبر انتحاراً.
وعندما استدعي سليمان كان طبيعياً، وعندما لاحظ الوضعية أنهار أيضاً، وحاول الانتحار أكثر من مرة، وحضرت الداخلية للبحث والتحري، واستجوبوا جميع من لديه علاقة بالأسرة، وربطت بقضية قتل سعيد المقعد، وتوصلوا لقناعة أن القاتل من داخل الأسرة، وتوقفت قضية البحث حتى تظهر نتائج جديدة.
علم مصطفى صاحب الورشة بالقصة، وقام بزيارة الأستاذ يعقوب ليعزيه، وأخبره بمعلومة هامة أن غازي تعرض لمحاولة الاغتيال ذبحاً بسكين كبيرة وحادة، وأن من حاول قتله سليمان، ليندهش، وتفاجأ، وعادت به الذاكرة لما قاله دكتور المخ والأعصاب: أن حالة سليمان بعد الحادثة عندما يكبر يشكل خطورة على محيطه؛ نتيجة إصابته في الدماغ، وطلب من مصطفى أن يكمل الحديث ويقول له، علي الرغم من ضخامة وقوة سليمان، فقد تمكن غازي من الإفلات، واجتمع عليه عمال الورشة وضربوه ضرباً مبرحاً، وأخذوا السكين، وما زلت محتفظاً بها.
وأخذ سليمان وكتف، ووضع في الحمام لتأتيه نوبات عصبية، حاول أن يخنق نفسه، ليسمع الجميع صوت صراخه، ليأمر غازي أن يفتحوا له الباب، وأحاطوا به وبأيديهم قطع من الحديد، وحاول الاعتذار، بل وركع على أقدامهم ليتركوه، وأن لا يخبروا والده، والتزم أن لا يتعرض لغازي مرة أخرى.
انتابت يعقوب نوبة من الخوف الشديد، وطلب من مصطفى أن لا يتركه، وتوقع أن يخلص عليه ابنه سليمان، ليأتي باثنين من عماله الأقوياء، ليرافقوا الأستاذ يعقوب، ونصحه مصطفى أن يبلغ الداخلية فوراً. واتصل بالأمن، وطلبهم للحضور فوراً، وهو مرعوب، ولاحظ المرافقان تواجد سليمان على بوابة المشفى، وحاول الدخول ومعه شيئاً يخفيه.
حضر ثلاثة من ضباط الأمن، ونزلوا من فوق طقم مليء برجال الأمن، ودخلوا المشفى، وعندما رآهم سليمان أخفى ما كان يحتفظ به، وعندما التقى الضباط بالأستاذ يعقوب سألوه: هل لديك أخبار أخرى؟ ليقول: نعم. وطرح عليهم قصة ابنه سليمان، ومحاولته اغتيال غازي جلال، وتحفظوا عليه، وذهبوا للتحقيق في الأشخاص الذين حضروا واقعة محاولة اغتيال غازي، وبحثوا عن سليمان، ووجدونه في منزل جدته، التي أصبحت مقعدة، ويحاول اقناعها أن تخبر الشرطة أنه كان في المنزل أثناء وقوع عملية الاغتيال في منزلهم، وأثناء دخولهم وجدوها في مكانها خائفة مرعوبة، ليأخذوا سليمان للاستجواب، وواجهوه بما عمل، واعترف بسهولة، وغير نادم على ما أقدم عليه، قائلاً: إن الجميع يكرهونه ويحقدون عليه، وأن جدته الوحيدة التي تحبه، وعبر عن فرحته لقتلهم، وندم أنه لم يخلص على غازي المقرمي.
في نفس لحظة التحقيق، وصلت لهم أخبار وفاة جدته من الخوف، لتنتابه حالة من العصبية، وأسعف، وأعطيت له حقنة، ليستعيد وعيه، وعندما صحا، قال: عليكم أن تعدموني فوراً، فلم تعد الحياة مهمة. وأخذ للسجن، وقدم للمحاكمة، وحكم عليه بالإعدام، لكن والده طلب من المحكمة بقائه في السجن حتى يموت، ليغضب سليمان، ويقول لوالده وهو يضحك: على دمارك يا أستاذ يعقوب.
وبعد هذه الحادثة، توقف الأستاذ يعقوب عن العمل، وأحيل للتقاعد، ليستلم راتبه التقاعدي، ويصرفه على نفسه، ويرسل بمبالغ لابنه سليمان.
حاول سليمان مراراً طلب والده لزيارته، ليقنعه أن يعفي عنه، ويزوجه لينجب ويعوض العائلة، ويستمر النسل، لكن والده رفض قائلاً: هذا جنون، هو يريد أن يحصل على فرصة ليخلص عَلَيَّ.
توقفت رواتب الموظفين، وشكلت أزمة حقيقية للأستاذ يعقوب، وأنفق كل ما لديه، وباع حتى أثاث منزله، واستأجر دكاناً مع حمام، وكل ما يملكه فرش وبطانية ثقيلة، وملابسه وكتبه وضعت في كراتين مغلقة، يبلغ عددها أكثر من ثلاثة آلاف كتاب، ويعتبرها ثروته الحقيقية، ومعظمها في مجال تخصصه، والبقية ثقافية وأدبية.
ومرت الأيام، وتضرر من الجوع، ليذهب متنكراً للمطاعم، ليحصل على بعض الطعام المتبقي للزبائن، وفكر بعد معاناة التردد على المطاعم عرض كتبه على المكاتب، ليبخس في سعرها، ليبيع البعض ويقتات عليها، على أن يعرضها على أحد أرصفة الشوارع في حدة، ومر عليه الكثير من طلابه سابقاً، وركزوا على صورته، ويسألونه: ماذا يقرب إليك الأستاذ يعقوب؟ لتغير الكثير م