سياسة

خارج المتاهة

لن نتوقف عن الحلم

محمد عتيق

كان تساؤل الراحل الكبير الطيب صالح «من أين أتى هؤلاء» ، والذي راحت به ألسنةُ الندوات والأقلام وكافة معارضات حكم الكيزان الساقط (١٩٨٩-٢٠١٩)، قد أخَذَ دَوِيَّهُ وتِرْدادَهُ على كل الشفاه من أنه صدر عن اسم ضخم في عالم الفكر والأدب ، إلّا أنه كان يقصد – حسب إفاداته المتكررة – غُرْبة هؤلاء القوم عن أكثر ما يُمَيِّز أهل السودان في التسامح والمحبة .. أمّا المعنى الحَرْفي المباشر للتساؤل فإنه يكون مقصوداً به أفراد العصابة التي قامت بانقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١ ويحكمون السودان بموجبه حتى اللحظة .. وإذا كان الحكم على الجزء من تلك العصابة التي تنتمي للقوات المسلحة مشابه للكيزان بأن التساؤل حولهم يأتي بمعنى الغُرْبة عن قيم الشعب السوداني والقيم الإنسانية عموماً ، فإن الجزء الآخر مَعْنِيٌّ  فعلاً بالسؤال في ظلاله المباشرة : مَنْ ألذي جاء بآل دقلو حكاماً على وطننا ؟ هذا يتَوَعَّدُنا وذاك يُحدِّد لنا الصراع السياسي/الاجتماعي الجاري في بلادنا بأنه بين «الزُرقة والجلّابة» ؟ ، ذهبوا يبعثون الحياة في القبيلة والطائفة والعِرق والإدارات الأهلية ؛ يستقطبون الأبناء إلى صفوف مليشياتهم والعطايا المُرصّعة بسيارات الدفع الرباعي يهبونها للآباء ، وعلى مشروعهم الأسود لحكم السودان من الأموال الضخمة التي استولوا ويستولون عليها من موارد هذا الوطن ، الثروات التي يريدون الاستجابة بها لمقتضيات المصالح الخاصة لبعض دول الإقليم والعالم إذ راحوا يعرضونها – أرضاً وبحاراً – في مزادات النزالة البائسة ، ويقودون حروب الإبادة بالقتل الجماعي والتشريد لمواطني أيّةَ بقعةٍ يحتوى باطنها على ثروات مثل الذهب ، النحاس ، الماس واليورانيوم في دارفور ، وذلك جوهر أسباب الحروب الدائرة في دارفور .. وإذا كانوا داخليّاً قد ذهبوا بعيداً في تأسيس الجيش الموازي للجيش السوداني فإنهم قد بدأوا في تأسيس الدولة الموازية للدولة نفسها بأوامر تصدر عن رئيسهم إعلاناً عن قيام المفوضيات كالأراضي وتأسيس المدن الخاصة بأفراد مليشياتهم في العاصمة والأقاليم ، فضلاً عن تمليكهم الأوراق الثبوتية كالرقم الوطني والجوازات ..

فإذا كانت ثورة ديسمبر ٢٠١٨ الجارية قد استحقت بالفعل وصفها بأنها (ثورة وعي) فإن ذلك قد جاء نتيجةَ مواجهتها الشاملة لمواريثنا من البناءات الهشّة في كل المناحي والتي تداخلت معها حكم الكيزان لثلاثين عاماً أفرزوا خلالها ثقافةً أقلّ ما توصف بها أنها «هايفة» ومعقوفة (ليست فقط مسطّحة) حملت داخلها وأنتجت حياةً مظهريّةً في كل شيء : من التديُّن إلى الفنون والآداب ، ومن التعليم والمعرفة العامة إلى الإنسان نفسه ، والنتيجة أنّ حياتنا مُزَيّفة ومختلّة ، وإنساننا ضعيف التكوين معرفيّاً وأكاديمياً وتأهيلاً ، فجاءت الثورة ثورةَ وعيٍ بالواقع ، وما تغيير النظام بإسقاط الكيزان إلّا نتيجةً ومدخلاً حتمياً لذلك الوعي المتفجر .. وإذا كان وقود الثورة هو هذا الجيل – جيل الشباب الراهن – الذي نشأ في كَنَفِ الكيزان مختوماً بذلك الخاتم واستحقّ بالفعل لقب «أبناء الإنقاذ» ، فلأنه عاصَرَ في نفس الوقت التطوُّر الهائل في تكنولوجيا الإتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي مما أتاحَ له الإطلاع المباشر على حياة الآخرين (أقرانه في العالم) وكيف أنها حياةٌ مُلَوّنةٌ بالمعارف الحديثة وبآفاقٍ رحبةٍ تُطِلُّ على المستقبل الواثق ، فكانت المقارنة ميلاداً للحلم والغضب الصامت فالمواجهة الصارمة للعائق الأول المنتصب في وجه أحلامه البهيَّة : السلطة الغاشمة المستبدة ، ثم القوى الأخرى من داخلها التي تأَهَّبت للميراث ..

هكذا واجه الثوار وواجهت الثورة واقعاً متعدِّد الزوايا تمسك برقاب بعضها :

– بقايا اللجنة الأمنية من صنائع الكيزان وتطلُّعاتهم للحكم ..

– الجنجويد ، قوات الدعم السريع ، وسعيها المحموم لتأسيس مشيخة آل دقلو ..

– ثم المشكلة الذاتية ، وهي الأخطر والأهم ، أداة الإنجاز والصعود بالثورة ، هي القوى السياسية التي (تحتضن) شباب الثورة و «تستثمر» بسالاتهم  وتضحياتهم الجبارة على طريق أحلامهم وبناء دولتهم .. لا زالت الأحزاب السياسية «قوى الثورة» يرهنُ كل طَرَفٍ منها إلغاء الآخر قُرْباناً ليقوم بدوره .. (الأعداء) : الكيزان وضباطهم ، الجنجويد وأموالنا المُغتَصَبَة ، سكاكين المطامع الإقليمية والدولية ، كلها في حالة هجوم صاعق على الوطن (وعلى وجوده أيضاً) وعلى أحلام أجياله الجديدة ، وقوى الثورة المعنِيّة بقيادة المواجهة تمارس نفس أمراضها القديمة بالتشكيك في الآخر والتعَنُّت في الرأي وفي الموقف ، منقسمةً بين مجلس مركزي و منفيِّين ومبتَعِد ، وكلها «فارغات» «ولتّ وعجِن» ..

الحلف المعادي : الانقلاب وكل مشتركٍ فيه وفي سلطاته ومناصبه + الدعم السريع وأحلام آل دقلو ، لن يهزم هذا الحائط إلا وحدة قوى الثورة ، وحدة تكونُ مطالبها للوطن ولمستقبل أجياله الجديدة ، لا مطالب لأفراد وجماعات وكيانات ..

   هل نطمع في ذلك ؟ ، هل سيُبادِر حزبٌ من قوى الثورة بدعوة القوى الأخرى للقاءٍ محصورٍ في إنقاذ الوطن ؟ ، تجميد كل شيءٍ سوى إسقاط الانقلاب وقواه ،وقيادة انتقالٍ حقيقي من عهود الاستبداد والفساد والانفراد إلى عهد الديمقراطية وصيانة الحريات وسيادة حكم القانون ..

«العسكر للثكنات والجنجويد ينحل» لا تحقيق لهذا الشعار المركزي إلّا بتلك الوحدة التي روحها : التسامح والمحبة ، ووجهتها : الوطن وأجياله الجديدة ..

ولن نتوقف عن الحلم ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق