
«مريودة» الملاك الخائن ومقبرة الذئب!
بدر الدين العتاق
لم أكره في حياتي أحداً مثل ما كرهت هذه الفتاة التي اسمها ( مريودة )؛ كرهاً ليس له ضريب ؛ وفي ذات الوقت لا أجد أثراً في قلبي بغضاً لها أو حقداً عليها ولا أيٍ من خَطَرَاتِ النَّفسِ المريضة التي لا ترضى برد كبريائها إلاَّ بالانتقام / حاشا لله؛ فليس الانتقام من شِيَمِ الكِرام / كأن تكون ردَّة الفعل مساوية لمأساة الحدث أو قل : مقابلة للخيانة؛ التي تبعث وتحض وتحث بلا وازع ضمير ولا أدنى ذرَّة من اللوم أو العتاب أو العقاب أو جلدٌ للذات؛ على أن تسترد كبريائها المنهزِم وشعورها المقتول ونفسها المُهَانَة؛ أن تفعل بها ما يحلو لك؛ وبكل تأكيد ولا يعني بالضرورة أن تُقَابَل الخيانة بالمثل حقَّاً وعدلاً لتحقيق العدالة الغرامية والمعاملة سواءً بسواء؛ فالله يقول : { وجزاء سيئة سيئة مثلها؛ فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنَّه لا يحب الظالمين } سورة الشورى؛ إذاً ليس غير الصبر على الضَيْمِ والأذى والألم والشكوى لله بلا حس ولا خبر لأحد من سبيل؛ فرُبَّما يكون العزاء سلوى لي بكل ألوان الذكريات الجميلة واللحظات المجنونة التي تجدد الحزن وتجدد الشوق في ذات الوقت.
(مريودة ) كنت أظنها ملاكي الطاهر الذي لا يعرف غير الخير سبيلاً؛ وبعض الظن إثم؛ فبدى لي من بعد عكس توهمي؛ فالوَهْمُ هَمٌ؛ قال الشاعر العربي القديم :
تنكر لي دهري ولم يدر أنني * أعز وأحداث الزمان تهون
فبات الدهر يريني كيف اغتراره * وبت أُريه الصبر كيف يكون
ولعلَّني أتمثَّل بقول الثعلب حين غدر به الذئب وخانه في بعض قصص العرب من ألف ليلة وليلة؛ إذ أخلص الثعلبُ الحبَّ والوفاءَ والخِدْمَةَ لسيِّدهِ الذئب؛ فكان الذئب يقابل معاملة الثعلب الحسنة له بالضرب والتجويع ومشاق العمل مع قليل مما يقيم به أَوَدَه من عظْمٍ نتنٍ أو ودكٍ عفِنٍ نظير ديمومة الوفاء له متخذاً من المثل السائر: ( جوِّع كلبك يتبعك ) قدوة ذهبية وقاعدة للمعاملة ذكية؛ فدعا عليه الثعلب منشداً :
لا تظلمنَّ إذا ما كنت مقتدرا* فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه * يدعوا عليك وعين الله لم تنم
ولا يلبث الثعلب شاكياً أمره لله أن يُيَسر عليه طريق الخلاص من قبضة الذئب وفتكِهِ حين قال :
ولرُبَّ نازلة يضيق لها الفتى * ذرعاً وعند الله منها المخرجِ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها * فُرِجت وكنت أظنها لا تفرجِ
وقد فرَّج الله ما ضاق به الثعلب من قبضة ربقة الذئب وذهب كلٌ إلى حال سبيله؛ في قصة طويلة؛ أردت ضرب المثل بها ههنا؛ فعسى الله أن يُفرِّج كربتي كما فرَّج كُربة الثعلب.
وجه الخيانة بعد كل ذلك العذاب وركوب الصِّعاب من المصاعِب وطيلة علاقتي بها ومعها وإليها ما نيف على عقدين من الزمان؛ لم تراعِ حُرمة الحب ولا قداسة العشق ولا تقدير الصبر على أمل الهناءة والسرور؛ بعد كل تلك الظلامات والانكسارات؛ هان عليها في رمشة عين أن تدعوني لعقد قِرانِها من معتوهٍ أبلهٍ لا يسوى ذرَّة رمْل ولا هبأة ذرٍّ ولا يعرف كيف يكون المستحيل في الحب سهلاً؛ وما معنى التضحية ولا هو إنكار الذات من أجل.. من أجلها؛ نعم من أجلها هي بالذات؛ قال السرَّاجي من قصيدته (بعتُ عمري ) :
أحببتها أنا وسكبت بين* نهديها عطوري وخمري
كم لامست ردفها كفاي* دون خوف مني ولا حذر
وخدَّها الممشوق يا ولدي * يحاكي ندى الفجر
وأنفاسها حرَّى تصاعدت* بعضاً من شذى زهري
فهل إلاَّ أنا حين وهب * تها روحي وعمري
أو تغافلت الورى وأخفيت* عَمْداً حقيق أمري
وصليت في معبد حبها* أتقرَّب في سِرِّي وفي جهري
ولم تقبل انظلاماتي *وانكساراتي وصبري
فما عُدت أنا قبل الهوى* ولا القابض وحدي على الجمر
فينعم بها حياة ليُشقِي بها آخراً؛ بعد كل تلك العذابات؛ تدعوني لأحضر عقد قِرانِها من سفيه قوم ضل طريقه في الحب سهواً يرنو إلى شاهقات الوفاء من قلبها خلوصاً بوازع ضياع الوقت وهدْر الشباب وفوات الحياة ؛ ألا لعنة الله على الفقر وقلة الحيلة وذهاب المال؛ قال الحردلو يعزيني :
يا الكبرتوك
البنات فاتوك
في القطار الفات
وقال :
الليل يهينك والزمان يوريك
وقِلَّ المال يفرقك من بنات واديك
وقد صدق؛ تباً لكم جميعاً أَيَّتُها الحُثالات المهلكات المفرِّقات الآفِنات ؛ الفقر والحيلة وذهاب المال؛ أن كانوا سبباً في فِراق ( مريودة) من قبضة قلب «الفدوكس « فلا ينالها ولا عضَّة من شفتيها حَتَّى؛ وينالها الخَصِيُّ الزبون العِنْيِّن ؛ ثكلتكم جميع الثكالى فلا تُبْقِي منكم شيئاً ولا تذر إلاَّ هي؛ (مريودة) فما زلت بها كَلِفَاً؛ أو لعلني كذلك ؛ قال أحدهم :
أضاعوني وأيُّ فتىً أضاعوا * ليوم كريهة وسداد ثغرِ
وقال الآخر :
سيفقدني قومي إذا جدَّ جدَّهم * وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر
هذه هي الخيانة بعينها يا ملاكي الطاهر؛ بل يا ملاكي الخائن ؛ لن أغفر لك ذنبك وستظل ذكراك مقرونة بفعلتك التي فعلت وأنت من الظالمين ؛ وكلَّما خيلُك خالني؛ كُلُّما خانتي الذاكرة خوناً أن أنسى لك أو اعذرك؛ فطالما لم يكن بيننا عهد إلاَّ رعيناه أن نكون سويِّاً أبد الدهر؛ قَسَمٌ غير مخون؛ فسوَّل لك الشيطان وأملى لك حتى نكثتِ عهدكِ ووعدكِ وحبكِ وكنتُ عندكِ نسياً منسياً؛ فاذهبي غير مأسوف عليك ولا على غدر الزمان بي؛ فهكذا يرتد إليَّ بصري من الكبرياء عزيزاً ويعود حديداً كما كان؛ فمتى التقينا في متاهات السنين؛ أيَّتُها الملاك الخائن؛ نلت منك ما لم ينله العاضَّة المتوثب؛ فلا أهنأ الله لكِ بالاً ولا أراح الله عن ذلكم الخسيس السفيه حالاً وليهنأ به قبر كقبر مالك بن نويره ولات رثاء كرثاء أخيه متمم :
سقى الله قبر مالك… .
قال الكاشف مغنياً :
ظلموني الناس وجاروا علي
والجور ده كتير علي ما شوي
رفقاً يا ملاك يا مليح الزي
علشان حبك ظلموني الناس
لذا أكرهُها كُرها يليق بخيانتها ثَمَّ كَرْهَاً بقَدَرٍ مقدُور؛ حيث لا ملاك طاهر ولا هم يحزنون ؛ بل مثالٌ كذئب الثعلب حين دعا الله ففرَّج عن كربته فقُتِلَ الذئب شر ميتة؛ قتله الغلمان في البستان ولات (مريودة) ولا ( مكروهه) وذكَّرَه بما كان منه حين وقف على ظهر الحُفْرَة؛ لا كحفرة قبر مالك بن نويرة؛ منشداً :
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا * فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه * يدعوا عليك وعين الله لم تنم ولا نامت أعين السفهاء