ثقافة وفن

مُساءلة القانون والفتوى والاختلاف الدينيّ في عصر علمانيّ: مصر الحديثة أنموذجاً

طوسون البديري

١- ما الذي يعنيه أن نفكر في زمنٍ ما بعد كولونياليّ؟

أو في يقظة اللامرئيّ

يفتتح إدوارد سعيد كتابه الاستشراق باقتباس هام من ماركس يلخص موضوع الدراسات ما بعد الكولونيالية: ”لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ولا بد أن يمثلهم أحد”[1] .ما الذي يفترضه درس الاستشراق؟ ببساطة، إنه يفترض أنه أمام مجال بلا هوية، ولذلك فإن مهمته إعادة ترتيب ذوات وممارسات تلك المجتمعات اللاغربية لتتوائم ونظرته وممارساته الجديدة للعالم. فهو يرفع من ذاته لمصاف الكوني ويريد من كل خارج عنه قياس ذاته وفق ذلك الكتالوج الكوني الذي يؤطره ليستطيع تمثيل نفسه في العالم.

فاللاغربي لا يستطيع تمثيل نفسه داخل العالم؛ لأنه لا يمتثل لتلك النظرة والممارسة الغربية الجديدة، ولذلك فكرومر المعتمد البريطاني لمصر سيرى في مستعمِريه أنهم ما زالوا بمرحلة ”التلمذة”[2] وأن مهمته ومهمة أمثاله هي إعادة تأهيل ذلك اللاغربي لكي يستطيع تمثيل ذاته. لذلك، فإن المقولة الكانطية التي يتحدث فيها أن تجعل من قانونك وقاعدة سلوكك قاعدة كونية أو ما نسميه بكتالوج كوني يعمل الجميع وفقه، ستكون تلك القاعدة المستبطنة في وعي ولا وعي الغربي مدخلاً لإخضاع ذلك اللاغربي ولجعل ذاته ذاتاً متعالية يريد من اللاغربي الاستسلام والخضوع لمقاييسه التي من المفترض أنها تكون نتاجاً لصيرورة تاريخية ما إلى مصاف الكوني الكلي.

فكان يَفترض أنه ثمة وجود ”لثقافة واحدة، دين واحد، وخضوع واحد على مستوى العالم”[3]. لذلك، فالغربي حريص كما يقول طلال أسد إلى دعوة الجميع إلى ”أن يغدو غرباً أو يحاول إكراههم على فعل ذلك، ليعبروا عن خصوصياتهم من خلال الغرب بوصفه مقياساً للكونية”[4]. وعليه، فإن مشروع دراسات ما بعد الكولونيالية يفترض في ذاته أنه محاولة استعادة المستَعمر واللاغربي لذاته، إن اللامرئي الذي ظل لقرون عديدة في غفلة أو متوارياً يريد تمثيل ذاته بذاته.

  والحال أنّ الموضوعات التي سنتناولها هنا في متن الدراسة هي القانون والفتوى والاختلاف الدينيّ، وهي كلها موضوعات كُتبت عبر باحثين ينتمون لذلك الحيز؛ حيز اللاغربي، كما إنهم ينتمون لذلك الحيز الما بعد الكولونيالي من حيث المبدأ والموقف وهو أن اللامرئي الذي ظل لقرون لامرئياً لديه رواية أخرى لما حدث وقصة أخرى يريد أن يحكيها؛ لذلك سيقوم بالعمل على نقض الأساطير المؤطرة في مجال العلمانويّة والقانون والفتوى والاختلاف الديني كما سنرى ذلك.

تمارين في الأنثروبولوجيا أو من مُسَاءلة التراث إلى مُسَاءلة الراهن وراهن الراهن

يُعرِّف معهد الأنثروبولوجيا الملكي الأنثروبولوجيا (علم الأناسة) ”بأنه العلم الذي يدرس البشر في جميع أنحاء العالم، وتاريخهم التطوري، وسلوكهم، وكيفية تكيفهم مع البيئات المختلفة وتواصلهم واختلاطهم معا”[5]. تتزايد الشكوى في عالمنا العربي، وخصوصاً مع جيل الباحثين الصاعدين مع موجة الثورات العربية، من قلة الاهتمام التي حظيت بها المجالات المعرفية والإنسانيّة التي لها ارتباطات لصيقة بالواقع كالأنثربولوجيا والسوسولوجيا. وثمة نقمة ومرارة على الاتجاه الذي نحا فيه المشروع الفكري العربي عقب هزيمة 1967، حيث الاتجاه الثقافوي والاهتمام المتزايد والمبالغ فيه كما يرون لمسائل متعالية على الواقع؛ ذلك المنحى الذي يرى فيه جيل الباحثين الجدد هروباً من الواقع أكثر من أن يكون محاولات جادة للإصلاح. فما الذي استفاده الواقع العربي بعد كل هذه العقود من كل تلك المشاريع والأحبار السائلة حول قضايا التراث ومُسَاَءَلة العقل العربي؟ لا شيء.

من الأمور التي دعمت ذلك الاتجاه بخلاف تقديرات الدائرة الثقافية لما يجب أن يُهتم به هو الحالة القمعيّة التي عاشتها البلدان العربيّة. فمثلاً، قام الملك الحسن الثاني في عام 1970 بإغلاق معهد السوسيولوجيا، والذي كان يديره عبد الكبير الخطيبي، هذا بخلاف ما يعانيه الباحث الاجتماعي في الواقع من تتبعات أمنية وإشكالات بيروقراطيّة وما حدث مع الباحث الإيطالي ريجيني والذي تُتهم الحكومة المصرية برئاسة عبد الفتاح السيسي بقتله منّا ببعيد.

ولذلك تنبع من هنا مساعي الباحثين الجدد لمحاولة الاهتمام بكل العلوم الإنسانية التي لديها ارتباطات مباشرة بالواقع من سياسة واجتماع واقتصاد في محاولة لمُسَاءَلة الراهن وراهن الراهن -الراهن هنا نعني به الإطار الرمزي للواقع؛ وراهن الراهن هو التمظهرات الماديّة لذلك الراهن الرمزي- الذي يرون فيه سبب الإشكال وليس شيء آخر من تراث أو عقل كما رأت الدائرة الثقافية العربية ذلك عقب حدث هزيمة 1967.

وما سنتناوله في متن الدراسة له علاقة مباشرة بذلك الراهن وراهن الراهن؛ فهو يُسائل الواقع المتعين -في مجالات القانون والفتوى والاختلاف الدينيّ وسلطة العلمانويّة-، ويحاول فهم ماهيته وإشكالاته كما سنرى ذلك في متن الدراسة. ما نعتقده ونؤمن به أن كل ثراء في الحقل المعرفيّ الإنسانيّ المرتبط بالواقع هو إثراء للدرس الفلسفيّ العربي. وأحد الأشياء التي تساهم في ضعف الدرس الفلسفيّ العربيّ هو قلة الاهتمام بذلك الحقل المعرفي المرتبط بالواقع؛

فبالأساس تتأسس الفلسفة في إطار واقع وعلوم جزئية مُنتَجة، فكما الفلسفة تؤثر في الواقع فهي تتأثر به وتتأسس عليه. فبدون وجود علوم جزئية كيف ستنتج الفلسفة العربية مقولاً كليّاً؟ ينبغي أن يكون هذا أمر يدفعها للاشتغال على مقولات كليّة تم إنتاجاها في فضاءات أخرى، وهي فضاءات أٌنتجت مقولاتها الكليّة بناءً على علوم جزئية مرتبطة بواقعها، والذي تم إنتاجه وفق سياقات تاريخيّة وجغرافيّة محددة.

تمهيد، أو في القانون وتأسيسه

تقوم الحداثة السياسيّة أو العلمانوية بالأساس على علمنة للثالوث المقدس، بحيث تصير الدولة[6] إلهاً والقانون كلمةً مقدسةً والمؤسسات ابناً.

سنحاول هنا في ذلك التمهيد قراءة ماهية القانون الحديث من نواحٍ سوسيولوچيّة وثقافيّة، وتتبع كيفية تشكله وتأسسه في فضاء غير فضاء ولادته وتأسسه الأصلي. ونتتبع ملامح التغيير التي طرأت على البنية الاجتماعيّة والثقافيّة في الفضاء الإسلاميّ جراء استعارة ذلك القانون الحديث.

يؤرخ المستشار طارق البشري في العديد من كتاباته في مسألة القانون الحديث وكيفيّة تشكله في الفضاء الإسلاميّ، سواءً أكان في مصر أو في الدولة العثمانية برمتها، وبدء الانزياح عن الشريعة كنظام وَكَكُلّ متكامل، إلى ثلاثة أسباب متواشجة يشد بعضها بعضاً لا نستطيع فهم ذلك التأسيس والانزياح من دونهم معاً: ”جمود الوضع التشريعي؛ الصحوة الاجتماعية والسياسية؛ الغزو الأوروبيّ السياسي والاقتصادي والعسكري”[7].

ففي مصر، ستبدأ حركة التأسيس للقانون الحديث والانزياح عن الشريعة الإسلامية عقب معاهدة لندن 1840م من خلال أحكام التجارة ومجالس التجار. وفي الستينيات من القرن التاسع عشر، سيشرع الخديوي إسماعيل في تعريب مجموعات من المدونة القانونيّة الفرنسيّة من قوانين مدنية وجنائيّة ومحاكمات ومرافعات وحدود وسيتوج كل ذلك بتأسيس مدرسة الإدارة، وهي، كما يقول البشري، اسمٌ يخفي تحت ظلاله المعنى الحقيقي لكلية الحقوق، وذلك التخفي يُستنتجُ منه دلالة خطيرة تتمثل في محاولة ”استنبات الفكر القانونيّ الغربيّ في البيئة المصرية، وحذراَ في الوقت نفسه من أن تلقى المدرسة مقاومة الأزهر ورجال الشريعة”[8].

ما نودُّ طرحه -وهو يذهب في اتجاه مضاد لما طرحه البشريّ- من أنّ لعبة التأسيس والانزياح لم تكن أبداً وليدةً لصحوة اجتماعية -كما أننا لا نشاطره كليّاً في السبب الأول المتعلّق بجمود الوضع التشريعيّ وسننقد ذلك في متن الدراسة-، بقدر ما أنه كان بالأساس وليد طموح سياسيّ من السلطة الحاكمة في محاولة الاستثمار في طرق جديدة تتيح لها تعزيز وتوسيع سلطاتها بجوار أنها إرادة استعمارية تريد توسيع نطاق اشتغالها ليصل إلى الهيمنة الرمزية بجانب هيمنتها المادية المباشرة.

والبشري في متن كتابه سيشير لخطورة ذلك الأمر عبر حديث تحدّث عنه الدكتور أحمد عزت عبد الكريم يقول فيه إنّ ”النظام الإداريّ الدقيق الحديث في مصر قد أفقد المصريين شيئاَ ثميناً هو تكتلهم في طوائف وهيئات لها قدر من الحرية والحكم الذاتيّ والقدرة على الصمود”[9]. بل سيشير أيضاً إلى الانعكاس الخطير الذي أحدثه ذلك التأسيس والانزياح من خلال تجربة الدولة العثمانية؛ فستنتج التغيرات التي تراكمت في الفترة من 1826 إلى 1876 ما يطلق عليها فترة التنظيمات والتي كان معلمها الأساس هو تصفية الانكشاريّة كقوة تحد من توسيع نفوذ السلطان، ومن ثمّ من استبداده. فبغض النظر عن التحفظات حول تلك التنظيمات ومدى نجاعتها، إلّا أنّ ما أُنتج كبديل لها كان كارثياً.

ولهذا مغزى هامّ، وهو أنه قد يؤدي استيراد ”نمط تنظيميّ وفكريّ من بيئة مختلفة إلى عكس النتائج المرجوة منه والتي كانت مقصودة أصلاً من استيراده”[10]، بل إن عديد الشكاوى ستظهر على السطح في نهايات القرن الثامن عشر من ذلك التأسيس والانزياح. فيورد البشري مقتطفات من كتاب مترجم أصدره حزب الإصلاح الدستوريّ بعنوان: رسائل مصري لسياسيّ إنجليزي في عام 1905 يتشكى فيه من أن لعبة التأسيس والانزياح دُشنت بقوة الاستعمار وأدواته الرمزية والمادية دون أية مراعاة لأخلاق او تقاليد ذلك الشعب أو لحساسيّاته؛ فيتحدث عن أنّه تمت تغذية المصريين بطعام لم يألفوه ولا يستطيعون هضمه وكل زيادة من هذا العلف القانونيّ منه ينتج عنه تأصل الداء.

ويشير إلى خطورة وانعكاس ذلك التأسيس والانزياح في استنبات وغرس والاستثمار في تقليد أجنبيّ هو أمر سيئ التأثير والمناسبة والحجم بأنه قد أفسد وشوَّه تقليد هذه البلاد، بل ويلمحُ إلى ما أشرنا إليه سابقاً من أن لعبة التأسيس والانزياح هي سياسيّة بامتياز؛ فأفضل الشروط التشريعية تكون فائدتها لأولي الأمر -أولي الأمر هنا هم المجتمع والبشر العاديون وليس الحكام وولاة الأمور- قليلة”[11].

ونتيجةً لكلّ ذلك، سيكون القانون معبراً عن إرادة سلطة متفرّدة بكل شيء أمام كل خارج عنها من مجموع الأفراد الخاضعين لها والعُزّل من كل شيء، وستغترب السلطة عن الجمهور وستصير علاقة الفرد مع محيطه تتشكل بقوانين تتشكل من خارج إطاره ومفروضة عليه وفق سلطة قهريّة لا تلتفت له ولا تعيره أيّ اهتمام أثناء وضع القوانين وتنفيذها.

وسيختتمُ القرن التاسع عشر -بل طوال الفترة العلويّة التي شهدت التشكل الأوّل للدولة الحديثة في مصر- أمرَه في عملية التأسيس والانزياح بأن نكون أمام ثلاثة نظم تشريعيّة وقضائيّة لكل واحد منهم طريقة وهيئة لتشكله ونطاقاً لولايته ونوع أقضيته، ولكل منهم مرجعياته التشريعيّة التي تشكله ويقاس بها، وستصل الإزاحة إلى أقصى حدّ لها بحصر الشريعة في أمور الأحوال الشخصية، بل إن حتى تلك الدائرة والتي تُرِكت للشريعة لن تسلم من التوترات ومحاولات التدخل لإدخالها تحت طاولة فلسفة القانون الحديث وتحرير ذاته من أحكام الدين مثلما فعلت المجالات الأخرى؛ سياسيّة واقتصاديّة، لم يتبقّ للشريعة سوى مجال الحميميّ تنافح عنه وستجعل منه المنطقة الأخيرة وراية دفاعها عن الهوية بعد أن يأست تماماً من مقاومة زحف القانون الحديث على المجالات الأخرى.

فالقانون يُفترض أن يكون من الناحية السوسيولوجيّة ”فضاءً اجتماعياً منظماً حول النزاع المباشر بين طرفين معنيين مباشرين إلى جدال قانوني بين المهنيين العاملين بمقتضى وكالة”[12]، وهو فضاء يتم فيه صراع بين أطراف ذات مصالح متناقضة ومتضاربة، ليس فقط، وكما يشير بورديو، صراعاً ماديّاً ولكن أيضاً صراعٌ رمزيّ. فالقانون هو ”التمظهر الأساس للسلطة الرمزية التي تقوم بتسمية الأشياء والممارسات“[13]، بل ويقوم بخلق الفضاء الاجتماعيّ ذاته[14].

وفي اتجاه آخر، سيسعى المستشار طارق البشري[15] إلى قراءة القانون من مدخل ثقافيّ في محاولة منه -كما يقول- لتخليصه من النظرة الفنيّة والسياسيّة الخانقةَ له، فهو يماثل القانون والتشريع داخل الحيّز الثقافيّ بالعمارة في الفنون التشكيلية. فالقانون ليس فقط علاقة خارجيّة، ولكنه نظيمة داخلية تساهم في تشكل المجتمع لعقله ووعيه ووجدانه في العالم؛ فعبره، يتم به معايرة الصواب والصحيح والخطأ والذَّلل. ومن المفترض  أن تكون المرجعيّة الأساسيّة للتشريع والقانون نابعة من مجمل التشكل الثقافيّ القائم في مجتمع ما؛ ذلك التشكل الذي يكون عليه إجماع لكي يساهم في حفظ الآصرة الروحيّة والماديّة للمجتمع. ومن هنا، يرى بورديو في ضرورة أن يكون القانون نابعاً من عملية ربط بين الماضي بالحاضر.

وختاماً، في ذلك التمهيد، نخرج من كلّ هذا إلى خطورة العملية التي واكبت عملية تأسيس القانون الحديث والانزياح عن الشريعة. فقد نتج عنها ليس ما كان ما يجب أن ينوط بالقانون أن يفعله -وهو أن يكون انعكاساً لحالة الاجتماع القائمة؛ بل ضداً لذلك، قام بخلق حياة مغايرة ومضادة لحالة الاجتماع القائمة بجانب أنّه قام بمَرْكزة السلطة. ومن ثمّ، تم إهدار حيوية المجتمع. فالقانون في مَعينه الأصلي الذي تأسس كمحاولة في إشراك للجميع لكي يقول كلمته، ولكن عملية تأسيس القانون في فضائنا الإسلاميّ كانت مدخلاً لإهدار ما كان قائماً بالفعل من تعدديّة وتدافُع مجتمعي، ونتج عنه حالة من حالات التشظي فيما هو الصواب والخطأ.

فنحن -كما رأينا- ظلت الفترة العلوية فترة التأسيس الأولى للدولة المصرية كمثال تحظى بثلاثة نظم تشريعيّة وقانونيّة، لكل واحد منها مرجعياته ونظمه وفلسفته. وهذا ينتج عنه بالأساس تضارب في الممارسات وفي وضع معايير جمعية وكلية نظراً لذلك التشظي. كما إنّ ذلك أحدث خطوة ستجد كامل قوتها في الفترة الثانية للتأسيس في مصر ما بعد انقلاب 1952م، وهي القطيعة مع الماضي تماماً عبر توحيد الأنظمة القضائية وإلغاء القضاء الشرعي بدلاً من محاولة الدخول في حالة رَبْطية جادّة ما بين الماضي والحاضر.

أولاً: المسألة الدينيّة في عصر علمانيّ: مصر أنموذجاً

لكل تأسيس وتشكل جديد إشكالاته التي يثيرها ويطرحها على نفسه وعلى الواقع الذي يتأسس فيه، والمسألة الدينيّة هي إحدى المسائل التي دوماً ما تثار ويكون لها حضور في كل تأسيس مجتمعيّ؛ فالأمر ليس خصيصة وليدة انبلاج فجر الحداثة، ولكن هو أمرُ معهود به في كل تاسيسات التجارب البشرية وعلى رأسها الممارسة الإسلامية التاريخية التي اختلفت فيه البيئات والسلطات السياسية والاجتماعية في تفاعله معه، وهو إشكالٌ له ميسم خاص في إنه دوماً ما يكون له كل الراهنية.

فهو دائم الحضور ودائمٌ في إثارة الإشكالات. وفي ظرفنا الراهن له ألقٌ خاص، فالمسألة الدينية هي البوابة السحرية لجوهرنة العالم الإسلامي في محاولة لنفيه من خلال الادعاء المستمر بأن الإشكال نابع من تراثه الذي يحتاج فيه العالم الإسلاميّ تَجشٌم عناء المرارة لكي يتخطاه والدخول في روح العصر المتمثلة في النقطة الأساس، وهي عملية الفصل بين الدين وجميع قطاعات الحياة وليس فقط الدولة والدخول في الوعد العلماني القائم على المساواة العمياء.

ولكن من خلال الطرح الذي سنتناوله مع صبا محمود وكتابها الاختلاف الديني في عصر علماني[16] ستسير عكس التيار من خلال محاولة استنطاق وقائع اللامرئي المتمثل في الراهن الذي يتم تهميشه عند تناول تلك القضايا؛ فستعمد بالأساس إلى الإبانة عن سبب قلق المسألة الدينية في أنه ليس كامناً في أمر خارج الراهن وبراديغمه العلماني وتمظهره المادي المتمثل في العلمانوية كعقيدة سياسيّة.

فالراهن الذي يتأسس على العلمانية كمذهب وجودي ومعرفي وسياسي سترى فيه صبا محمود سببا أساسياً في تلك المشاكل الدينية متمثلة في الطائفية والاقتتال الديني في الشرق الأوسط، وذلك رغم وعودها بالمساواة القانونية بين الجميع والتي ستسهم بنقض جميع التراتبيات الاجتماعية السابقة عليها. لذلك فالكاتبة ستحاجج ”بأن الدولة الحديثة، وعقلانيتها السياسية، قد لعبت دوراً أكثر حسماً بكثير في تحويل الاختلافات الدينية السابقة، منتجةً أشكالاً جديدة من الاستقطاب الطائفي، وجاعلةً من الدين أكثر بروزاً لهويات الأقلية والأكثرية على السواء لا أقل بروزاً” (ص27).

وهي عندما تُسائل الراهن تفرّق بين مستويين: مستوى معياري (العلمانية) كمجموعة مفاهيم ومعايير وهو مستوى -كما يعرفه مترجم الكتاب كريم محمد- بأنّه نمط الكينونة العلمانية بمسألة الذات وتدابيرها في عصر علماني؛ ومستوى آخر هو العلمانوية وهو مستوى الواقع الخارجي الواقعي حيث علاقة الدولة بالدين. فالعلمانوية تمثل العقيدة السياسية ومبدأ نظام الحكم فهي متعلقة بمسألة الدولة وأيديولوجيتها. فالعلاقة هنا ليست علاقة فصل كما يدعي المستوى العلماني المعياري، بل هي علاقة تداخلية.

فالدولة تتداخل في لحم الدين وتتقاطع معه في الواقع اليومي. فالعلمانوية السياسية من خلال أداتها الدولة والتي وضعت نفسها كإله ومن خلال كلمتها المقدسة عبر القانون وابنها المؤسساتيّ ستتداخل في كل شيء، ومن ضمن ذلك الدين لضبطه وتحديد مجالات اشتغاله وصلاحياته، بل وستبلغ مدى أقصى من ذلك بتحديد هوية المضامين الدينية التي يجب أن تكون وهوية المضامين الأخرى التي بحاجة إلى النفي. ففكرة رسم خط فصلي بين الدين والدولة هو تمنٍّ ليس أكثر لا توجد دلائل في الواقع على صحته. فالدولة، كما تناولها ماركس في كتيّبه «في المسألة اليهودية» واسطة بين الإنسان وحريته، وصبا محمود من خلال ذلك تود التأكيد على أن الإشكال كامن في قلب الراهن المتمثل في العلمانية والليبرالية الحاكمة. وتريد نقض دعوى العلمانويات المتعددة التي تراها أنها تقع في فخ بنينة واقع العالم الإسلامي باعتباره انحرافاً عن العلمانية الحقّة المتمثلة في النماذج الغربية.

وستعالج ”العلمانوية لا كتشكل أحادي يبدل كل التواريخ، بشكل متجانس، ولا كتعددية معبر عنها في أشكال ثقافية محلية” (ص39). فالإشكال ليس قائماً في صورة علمانوية دونما صورة أخرى ولا في تقدمية أنموذج علمانويّ على آخر، بقدر ما أنه إشكال قائم في النموذج في ذاته. ولذلك، كما إنه لا نستطيع أن نعمم تجربة علمانوية بقدر ما أن النموذج ككل النماذج هو متحرر من كل صياغة ونمذجة مطلقة وكلية تقدم للجميع ككتالوج كونيّ بل كل نموذج سيتفاعل في كل مكان حسب تقاليد وعادات كل مكان. ”فليس الإشكال الحيوي متعلقاً بتعديد صور العلمانوية بقدر ما هو متعلق بمفهمة تغيراتها فيما يتعلق بمشروع كوني” (ص39).

بالنهاية العلاقة بين الدينيّ والعلماني إنما هي علاقة تداخل يشرط كل طرف الآخر. وستحاول الكاتبة إبراز الكيفية التي سعى من خلالها الدين إلى إعادة إنتاج نفسه واستمراريته في قلب أزمنة تدعي بنفيه وفصله عن مجالات الحياة، وذلك عبر تتبع ”الوظيفة الحديثة للعلمانوية السياسية في مصر عبر مأسسة خمسة من أفكارها البارزة: الحقوق المدنية والسياسية  والحرية الدينية، وحقوق الأقليات والنظام العمومي والتفريق القانوني بين العمومي والخصوصي” (ص 40).  فعبر استكشاف وتتبع مفهومين أساسين -الحرية الدينية والأقليّة- ستناقش صبا محمود وتسائل المسألة الدينية في عصر علمانيّ.

في مفهوم الحريّة الدينيّة

لا نستطيع قراءة الواقع بدون قراءة مفاهيمه التي تؤطره وتؤسسه والمفاهيم التي هي معبرة عن رحلة تاريخية تراكمية ساهمت في تشكله. فمفهوم كالحرية الدينية لا نستطيع قراءته بدون الحدث الأساس لمعاهدات ويستفاليا 1648الذي سينتج عنه مفاهيم ثلاثة  متواشجة: مفهوم السيادة، والحرية الدينية، والأقليّة. فالمعاهدة ترتكز على أساسين: الاعتراف بسلطة وسيادة كيان داخل حيز جغرافي على سكان،ه ولكن تلك السلطة ومن ضمن مهامها العديدة عليها احترام والسماح للجميع بممارسة معتقداته الدينية من دون تدخل في محاولة نزع فتيل ما كان قائماً قبل المعاهدة من احتراب دينيّ وجور من أغلبية دينيّة تنتمي لمذهب معين على حقوق أقليّة أخرى تنتمي لمذهب آخر.

(يتبع)

تلك العلاقة الثلاثية المتواشجة أطرت الداخل الأوروبيّ، ولكن ذلك الخطاب حول الحرية الدينية سيكون أداة أوروبية أساسية في تعاطيها مع الدولة العثمانية منذ القرن السابع عشر؛ فستحاول التدخل في شؤون تلك الدولة من خلال ما تسميه الحرية الدينية وحقوق الأقليات التي تنتمي لمذهبها الديني، والدولة العثمانية كانت تقوم في حكمها على أساس التراتبيّة والتفاوت الديني. ولكن ثمة سمة أساسية وسمت الممارسة العثمانية ”هي أنه لم تكن ترمي إلى تحويل الاختلاف إلى تجانس سياسي عبر التدخل والاستيعاب، ولكن سمحَت للجماعات الدينية المتنوعة أن توجد بشكل متاخم داخل نسق يحتل فيه المسلمون المكانة العليا” (ص73).

ولذلك يسمي البعض الدولة العثمانية بإمبراطورية الاختلاف لأنها كانت مميزة بذلك خلافاً لتعاطي تلك الدول الأوروبية مع مسألة كالمسألة اليهودية التي ستظل صداعاً فظيعاً في رأس أوروبا حتى حدود المحرقة وتسوية تلك المشكلة على حساب أمّة أخرى وخارج حدودها. هذا بخلاف ما يعلمه الجميع من مآسي وكوارث الممارسة الاستعماريّة التي مورست من قبلهم في حق تلك الشعوب المُستعمَرة التي ليس فقط تم سحقها مادياً، بل إنّه تم قتلها رمزياً وتم وضع تلك الشعوب والأمم في خانة اللامرئيّ، ولهذا دلالة قوية على وقاحة البرغماتية الأوروبية.

  وتورد الكاتبة في متن كتابها أن سياسات الباب العثماني القائمة على الاعتراف بحق الاختلاف والتي كانت قائمة عبر وكلاء محليين أدت إلى بروز طبقة علمانية قبطيّة سنرى فيما بعدُ -خصوصاً في مصر ما بعد الكونيالية، أي مصر في تشكلها الثاني للدولة الحديثة- أنه تم إهدار ذلك لصالح سيطرة الكنيسة، حيث منحوا سلطة لا نظير لها على الشؤون الإكليركية ولعب دور الوسيط بين سلطات الدولة والجماعة المسيحية. وسيشهد القرن التاسع عشر تطورات هائلة بسبب تدهور أحول الدولة العثمانية وزيادة الدول الأوروبية في تدخلاتها في شؤون الدولة، بل يذهب البعض إلى أنّ الإصلاحات العثمانية التي سعت من خلالها دمج الأقليات الدينيّة في جهازها السياسي كانت تقابل بمقاومة شديدة.

المرحلة الثانية والتي سيساهم في تأطير مفهوم الحرية الدينية متمثلة في مرحلة التبشير المسيحيّ وهو تبشير بروتستانتيّ يقوم وفق رافعة أنواريّة بالأساس يتبنى دعوة ليبرالية من حربة الفرد وضميره الدينيّ ووجوب تحريره من كل سلطة قيدية أكانت دولتية أو لاهوتيّة. ثمة حذر تلفتنا إليه صبا محمود شديد الأهمية وهو أنه يجب ألّا يقاس فعالية النشاط التبشيري بمدى مردوديته العدديّة التي جذبتها لأرضيتها ولكن بمدى الأفكار الأنواريّة الليبرالية التي ساهمت في نشرها وتبيئتها، بحيث إنها أصبحت واقعاً كونياً تتفاعل جميع الأمم معه. فغدا ما كان تجربةً تاريخية خاصّةً كتالوجاً كونيّاً معيارياً تقاس علي أساسه كلّ التجارب والممارسات.

في مفهوم الأقلية

مع مؤتمر فرساي 1919، سيكون إيذاناً بزهق روح جميع التراتبيات القديمة القائمة على ممارسة إمبراطوريّة من ضمنها الإمبراطورية العثمانيّة ورسم معالم تشكُّل جديد متمثل في الدولة القوميّة التي ستحلّ محل جميع التراتبيات القديمة. فتلك الممارسة السياسية والاجتماعية الجديدة ستطرح شكلاً ونمطاً في الحكومة مغايراً لما كان سائداً: ”فعوضاً عن الاعتراف بالجماعات المجاورة والموازية التي تميزها فضيلة انتمائها المذهبي والطائفي أو الشعائري، سعت الدولة القومية إلى تمثيل الشعب الذي يوحده تاريخ وثقافة وإقليم مشترك.

في هذا النظام، فإن كل فرد بصفته مواطناً يغدو مربوطاً بالدولة من خلال نسق حقوق وواجبات” (ص 97). هذا الشكل السياسيّ سيولد توتراً هاماً ومن سيفشل في تجاوزه في الحقيقة سيعيش جحيماً لا يطاق لم يعرفه من قبل، وهو كيفية التوفيق بين خطة قومويّة تمثل إرث أغلبية من تقاليد وعادات وثقافة داخل حيز جغرافي محدد وداخل ذلك الحيز تقبع أقلية لا تنتمي لذلك الموروث الثقافي؛ فهذا يضاد الدولة القومية ويعتبر تهديداً وجودياً لها. ومن ثمّ، سيتم طرح جدل الأغلبية والأقلية من خلال التنازع الدستوريّ والسياسي ّفي محاولة لكسب كلّ طرف مساحة أمام الآخر؛ فالأغلبيّة يهمها أن يكون نظامها العام نابعاً من ثقافتها بحيث تكون هي المهيمنة.

في المقابل، ستحاول الأقلية النفاذ من ذلك السياج القومي التي تؤطره الأغلبية لإثبات ذاته وهمومه الذاتية. ولذلك فإن ما تفترضه العلمانية من خطاب بأن تدشين نموذج الدولة سيفصل ما بين الدولة والدين هو محض خطاب مثاليّ لا توجد دلائل في الخارج على صدقه بقدر أن الموجود هو مضاد لذلك, فإن ما كان لا مرئيا من مسألة دينية قائمة على تراتبية دينية كانت موجودة في الممارسة الإمبراطورية ستصبح ليست فقط مرئية مع نموذج الدولة القومية التي عبر وعدها الليبرالي بالمساواة ستكون المسألة الدينية مصدر قلق دائم وإزعاج ومن ثمَ مصدر تهديد وجودي للحيز الجغرافي الذي يفشل في التعاطي مع ذلك الإشكال، وهذا سيتسبب برأي الكاتبة في نشوء موقف متداعٍ للأقليات في الخطاب والممارسة القومية:

”إذ بينما تتوقف مقدرة الأقلية على الازدهار ضمن دولة قوميّة على دمجها في اللحمة القومية، فإنّ استيعابها يتطلب في كثير من الأحيان توهين، إن لم يكن كفاً عن، القيم والممارسات الأساسيّة لهوية الأقلية” (ص115).

التجربة العلمانويّة السياسيّة المصريّة

ستنتقل صبا محمود إلى تنزيل ذلك الجدل بين الوعد العلمانيّ بالمساواة والحرية والممارسة العلمانويّة على الأرض من خلال جدل الأغلبيّة والأقلية. إذ إنّه جدل يقوم على تنازع بين فكرتين: معتقد ليبرالي ينتصر للفرد في ذاته كفكرة مجردة تقوم على المساواة العمياء والتي لا تبصر ولا تعير أيّ اهتمام لأي اختلاف دينيّ أو ثقافيّ في الخارج والواقع؛ ومعتقد اجتماعيّ يموضع الفرد حسب شروط واقعه[17]، إنه تنازع -كما يسميه طلال أسد- بين خطاب السيادة للفرد والسيادة للدولة[18].

في كل إعادة تموضع كبرى لمجتمع ما، فإنّه بالضرورة ستشهد تدافعات لكل القوى من أجل تحسين موقفها وكسب مساحة أوسع لذاتها في التأسيس الجديد. وهذا ما سيظهر في مصر الحديثة بواكير القرن العشرين، فمصر التي ستخرج من النظام المِلي سيرى كلٌّ  من الطرفين الأغلبيّ والأقلّي فرصة سانحة أمامه لكسب مساحة تعزز حضوره. كل هذه الأمور ستضع الحوكمة السياسية والليبرالية في موضع حرج؛ فالخطاب الليبرالي يقوم على حجته الأساسيّة: المساواة العمياء.

ولكن الطرف الأقلي سيرى ذلك مضراً له لأنّه يعني من ضمن ما يعنيه تموضع ذاته وفق قيم وممارسات الأغلبية، في حين أن تدخل الدولة لحفظ حق الأقليّ بضمان حصص له في إدارة الدولة والتمثيل في ذلك النظام سيعني إهدار ادعائه المساواتيّ وسيعني أن ثمة إرادة لنبذ الاختلاف على الصعيد السياسي والقبول به على الصعيد الاجتماعي. سنجد ذلك حاضرا في التنزاع الطرفين الإسلامي والمسيحي قبل حدث ثورة 1919.

دوماً ما يقدم حدث ثورة 1919 كوحدة قوموية موحدة وفق أجندة محددة لا تقبل فيه تلك المصطلحات أكثرويّ وأقلويّ وأن تلك المصطلحات هي أداة كونيالية تريد إفساد لحظة توحد المصريين ضد الكونياليّ. ولكن هل هذا كان صحيحاً أم ان الواقع ينقضه؟ تذهب صبا محمود في نقضه عبر ضرب أمثلة عديدة تؤكد زيف ذلك الادعاء من خلال حوادث متفرقة قبل ثورة 1919 تؤكد فيه قلق كلّ طرف من كسب مساحة من الآخر.

فالمسيحي ومنذ مطلع القرن العشرين سيحاول أن يُمفهم ذاته كأمّة لها تقاليدها التي لا بدّ لها من تمثيل يراعي خصوصيتها، وذلك ما تم تدشينه في الحدث الأول وهو حدث المؤتمر القبطي الأول والمطالبة بقانون انتخاب يؤمن تمثيل عادل لهم في دوائر الحكم؛ الأمر الذي سيجعل صحيفة كصحيفة المؤيد تتدخل لتؤكد على قيم الأغلبيّة التي على الأقليّة الانصياع والخضوع لها، فتؤكد على إسلامية مصر منذ ثلاثة عشر قرناً، وسيحاول المسيحي الأقليّ الاتكاء على ادعاءات العرق وأنهم هم المصريون الحقيقيون والأسياد الحقيقيون للدولة وأن الأكثريّ ما هو إلا غازٍ.

هذه الأمور ساهم في ظهورها الضغوط الليبرالية وغير الليبرالية المتأصلة في الأيديولوجيا القومويّة والتي ستعمل على صبغ ”فهم المسلمين والمسيحين لذواتهم وإدراك كلّ منهما للآخر” (ص126).

كل ذلك سيجد في لحظة تشكيل دستور 1923 ذروة الصراع الأساسي بين المدافعين عن خطاب ليبرالي قائم على المساواة التامة والعمياء مما يعني أننا أمام دولة لا تعطي للتمايز الديني أو العرقي أية أهمية، وبين خطاب يدافع عن حقوق الأقلية وضرورة تمثيلها لأنّ المجتمع لا يتموضع في الواقع وفق تراتبية واحدة، ولكن توجد تعددية مجتمعية لابد وأنْ تُراعَى. ويكمن منبع الحرج في أن الدولة وأداتها المتمثلة في الكلمة المقدسة “القانون” عليها أن تراعى تلك المصالح المتضاربة، وأن يتدخل القانونُ للفصل بين تلك المصالح المتضاربة، وهذا يقع ضد صميم تأسيسه؛ وهو موقف الحياد الذي يدعيه.

في دستور 1923، هناك من يدافع عن مساواة تامة كعبد الحميد بدوي الذي يذهب في اتجاه يقول إنّ من المفترض أنّ كل نائب وحضور لشخص داخل هيئة دوائر الحكم لا بدّ أن يكون حضوره كحضور مواطن، وليس حضوراً طائفياً. فهو في موقعه يمثل الأمّة بجميع طوائفها. فالفرد هنا -كما يدعي الخطاب الليبراليّ- فرد مجرد. فالراجل تحدث أننا وفي ظل نظام حديث يريد الدخول في قطيعة مع النظام التراتبيّ المِليّ يجب نفي كل ناخب يريد محاصصة لأنه سيولد الانقسامات والاختلافات وبديل ذلك هو المساواة العمياء التي ستعمل على محو كل التراتبيات الاجتماعية ومعالجة مساوئ النظام المليّ القديم. يستبطنُ بدوي هنا النظريّة الليبراليّة.

وسيذهب شخص كمحمود عزمي في اتجاه مضاد، رغم ليبراليته التي تقوم على ضرورة الفصل بين الدين والدولة، ولكن عزمي يرى أنه لابدّ من الأخذ في الاعتبار حالة الاجتماع القائمة التي وإن تركت وفق خطاب ليبرالي قائم على المساواة التامة، فإنه سيؤدي إلى قتل المشروع الليبرالي بالنهاية. ففي الواقع، يوجد تفاوتات دينية ستفرض نفسها بالنهاية، ولذلك لا بد أن تؤمن الدولة محاصصة تحفظ للأقلية حضورها. وعزمي هنا ”كان فريداً بين أقرانه لإدراكه التوتر القائم بين المبدأ العلماني لحيادية الدولة تجاه الدين وسوسيولوجيا الأمة التي سُحبت في الاتجاه المعاكس” (ص136).

ثمة شيء هام في النقاش حول التمثيل وكيفيته التي ستطل برأسها أيضاً عقب ثورة يناير 2011، وهي تجعلنا ننفتح على أحد أهمّ مشاكل العلماني العربي، وهي مشكلة محاولة سعيه لتحقيق المشروع الحداثيّ والليبراليّ ككل في لحظة واحدة ودفعة واحدة دونما نظر أو أخذه في الاعتبار للواقع ومدى قدرته على تحمل ذلك. فالعلمانيّ العربيّ لا ينظر للأمر في تقلباته التاريخية، ولكن ما يهمه هو اتكاؤه على اللقطة الأخيرة الحالية للحداثة؛ فالنموذج الغربي الذي دوماً يقيس العلماني العربي ذاته وواقعه عليه مرّ بمراحل وانتكاسات وهزائم في سبيل بلورة واقعه وأنموذجه الذي يسعى العلماني العربيّ إلى استعارته. وهذا سيكون مدخلاً أساسياً لهزيمة ثورة يناير2011.

ففي تلك الفترة مثلًا، والتي كان النقاش فيها حامي الوطيس حول المسألة الدينية في دستور 1923 وكيفية بلورتها، كنا أمام أربع مراحل لليبرالية مر بها العالم الغربيّ: مرحلة التكوين وهي ترتكز على مفهوم الفرد والذات؛ مرحلة الاكتمال حيث سيطرة مفهوم الفرد العاقل وتشييد علميْ الاقتصاد والسياسة المبنيين على فضاء أفراد عقلاء مستقلين ومتساوين؛ مرحلة الاستقلال حيث المبادرة الخلاقة؛ مرحلة التقوقع حيث سيطرة الفكرة الاجتماعية المضادة للفكرة الطبيعيّة حيث الإنسان ليس كائناً مجرّداً، ولكنه كائن يتموقع في إطار اجتماعي يحدد ماهيته[19].

ستبلغُ المسألة الدينية في مصر ما بعد الكولونياليّة، أو في مصر وتشكلها الثاني للدولة القومية، مبلغاً غاية الخطورة؛ لأننا نستطيع أن نلتقط دور نظام الحوكمة السياسيّة في فعاليته في تعقيد الإشكال الديني واطّراد التفاوت الدينيّ وليس كما الادعاء السائد بمسؤولية -وهي موجودة بالطبع ولكن بصورة أقل مسؤولية الدولة ونظمها التي تعاقبت على إدراتها منذ تلك الفترة إلى الآن- التيارات الإسلاميّة؛ الأمر سيبتدأ بالمرحلة الناصرية والتي كانت عازمة على خلق دولة كلاسيكيّة هوبزيّة الطابع ممثلة للجميع لا تسمح بأي خروقات أو فضاءات مجتمعية خارج سلطة الدولة المباشرة. فسيتم تجريف الحياة السياسية من خلال مبدأ الحظر لكل الفضاءات السياسية والمجتمعية فيما عدا ما ستشكله الدولة.

أعتقد ثمة أمر هامٌّ طرحه أنّه وكل الحالات الشبيهة بمصر الخارجة من حالة الاستعمار ذهبت لنماذج دولة كلية الحضور كما في نسخة الدولة الأولى الكلاسيكية والتي بدأ العالم الغربيّ الانزياح عنها عقب الحرب العالمية الثانية، وتوج ذلك بأحداث الستينيات وما تبعها؛ وهو نموذج يقوم على ترك مساحات وفضاءات اجتماعية متحررة من سلطة الدولة الكلية، بل إن مصر ذاتها وبمقارنتها بالتشكل الثاني للدولة على يد عبد الناصر كانت مصر في المرحلة العلوية ذات فضاءات اجتماعية متحررة سيتم قتلها لصالح دولة كلية الحضور.

كيف سينعكس ذلك على المسألة الدينية؟ نحن لدينا ثلاث محطات في التعاطي مع تلك المسألة: محطة ناصر الذي سيعمد فيها على تأجيل فكرة التمثيل النسبيّ للأقباط لصالح التعيين المباشر للموالين له بالطبع؛ المحطة الثانية وهي التي سيعمد نظام ناصر إلى تطبيقها ألا وهي تقويض سلطة المجلس المليذ الذي سعى إلى دمقرطة البنية الإكليريكية للكنيسة وبذلك ستتحول سيطرة الأوقاف الدينيّة إلى الكنيسة ممّا سيعزز حضورها وإخضاع المجلس الملي لسيطرتها وسيتمّ اعتبار الكنيسة الممثل الوحيد للأقباط، وناصر هنا لم يفعل ذلك وفقاً لأيّة أجندة دينية بقدر ما هو فعل ذلك وفقاً لضرورة يراها سياسيّة ينتصر فيها لنموذج دولة كليّة الحضور مُؤَمِّمة لكل شيء وتقتل كل فضاءات اجتماعية متحررة من قبضته السلطوية.

ثمة شيء من المهم الإشارة له، وهو ليس فقط سياسات مصر ما بعد الكونياليّة ستسهم في صعود سيطرة الكنيسة منذ تلك اللحظة إلى الآن، ولكن ساهمت سياساتها وبالضدّ من ذلك على الصعيد الإسلاميّ في قتل حيوية وفعالية المؤسسات الإسلاميّة الرسمية، وسيحصل فترته نزاع ما بين الأزهر ونظام حكمه سيؤدي على سبيل المثال إلى استقالة الإمام الأكبر محمد الخضر حسين  احتجاجاً على دمج القضاء الشرعيّ بالقضاء الأهليّ.

محطة السادات وتعاطيها مع مسألة الاختلاف الديني أو من التقويض علي يد ناصر للقوى الاجتماعيّة للنخبة القبطيّة العلمانية إلى ”التطييف”(ص140) ونزاعه الشهير مع بابا الكنيسة الذي وصل النزاع إلى إقصائه بعزله. ومحطة مبارك على النقيض سيقوم بإحياء التحالف الوثيق ما بين الدولة والكنيسة واستعادة حالة الوفاق الناصريّة مما سيؤدي إلى تمدد هيمنة الكنيسة على كلّ الشأن القبطيّ، لا سيّما في الفترات الأخيرة لحكم مبارك الذي اتسمت فيها الدولة بالتراخي وانسحابها من مهامها المنوطة بها لصالح الكيانات الدينية: الكنيسة أو الجماعات الإسلاميّة. وستُرجع صبا محمود تصاعد حدّة الطائفية وصراعاتها إلى غياب الحريات السياسية المستمرّ. فمصر في تشكلها الثاني هي دولة في حالة طوارئ مستمرة.

مع الثورة والانقلاب العسكريّ، لم يحدث الشيء الكبير في مسألة العلاقة الدينية ما بين الأقباط والدولة، بل سعى الطرفان في الحقيقة إلى تعزيز حالة التحالف والتفاهم رغم أحداث ماسبيرو والتي مارست فيها الدولة آلة عنفية شديدة الوطأة ضدّ الأقباط. لكن على الرغم من ذلك، كانت الكنيسة مساهماً أساسياً في دعم الانقلاب على الرئيس محمد مرسي ونظامه ومحاولة المساهمة في طيّ صفحة كانت تخشى الكنيسة من كسر سلطتها على الشأن المسيحيّ وخلخلة التحالف الوثيق بين الدولة والكنيسة والذي تأطر مع نظام عبد الناصر.

المسألة الدينيّة في مصر الحديثة واختبارات عمليّة: قانون الأسرة انموذجاً

يميل البعض إلى تصوير قانون الاسرة إلى أنها امتداد لبقايا ترسبات متبقية للعصور ما قبل الحديثة، بل إنهم يقومون وبدون مواربة مهاجمة الحكام الكولونياليين بتخاذلهم عن علمنة ذلك المجال الحميميّ مثلما فعلوا مع مجالات الحياة الأخرى. ولكن ذلك ينطوي على مغالطة متمثلة في أنّ قانون الأسرة هو نتاج لعلمنة الشريعة. فهي، وكما يقول طلال أسد، ”الصيغة العلمانية لخصخصة الدين”. فقد تحولت الشريعة في نطاق الأحوال الشخصية والأسرة عبر ما يسميه وائل حلاق بالتكويد القانوني[20] من كونها ”نسقاً للمعايير والإجراءات اللامركزية والمُدارَة إلى نسق مُقنَّنن للأحكام والقواعد التي تديرها دولة مركزية” (ص187).

فنطاق إدارتها سيتحول من حيز معرفي وأخلاقيّ يحاول من خلال ذلك المجال إنفاذ حالة الضبط الإلهيّ إلى حيّز أخلاقي ومعرفي مغاير يرى في الأسرة باعتباره ”وحدة للإنتاج الاجتماعي والاقتصادي” (ص188)،  والاسرة بفضل ”كونها فئة قانونية فهي موضوع للتدخل الإداري وجزءٌ من إدارة الدولة”[21]. بل إنّ طلال أسد يشير لأمر هو أبعد من ذلك على الصعيد اللغوي حيث الانزياح الحاصل للمفاهيم مثل مفهوم العائلة هي مفاهيم حديثة لا تنتمي لحيز المفاهيم ما قبل الحداثة[22].

ولكن من أين ينبع ذلك الاختلاف الذي يشير إليه البعض والذي جعلهم يتحدثون عن أنّنا أمام قانون يعبر عن استمراريّة زمنية سابقة على الحداثة؟ ينبع بالأساس من عدم التفاتهم بأن ماهيّة القانون الحديث للأحوال الشخصية والأسرة وضعت لكي تعكس ”روح الشعب وتقاليده وخصوصياته وتاريخه” (ص192). ولذلك، فإن حداثية المجال الذي نتحدث عنها هنا كامنة في الموقف. فقانون الأسرة وُضع بالأساس ليعبر عن روح وتقاليد كل أمة. ولذلك فمن الطبيعيّ أن يختلف من مكان لمكان وأن لا يوضع له كتالوج كونيّ كليّ عكس ما هو حادث مع مجالات الحياة الأخرى السياسية والاقتصادية. ونظراً لأنّ الدين هو ما يمثل روح الشعب في العالم الإسلامي، فإن قوانين الأسرة في العديد من بلدانه ستصاغ وفقاً لتلك الروحيّة الدينيّة.

ما هو هام كيف سينعكس ذلك في التجربة المصرية، ذلك البلد الذي يحوي خمسة عشر قانون في مجال الأسرة؟ ينبع التوتر من كون القانون العمومي هو قانون يعكس إرادة الأغلبية وروحها الثقافية بالأساس وبين قوانين للأقليات ستتعارض بالضرورة مع ذلك القانون العموميّ الذي يعبر عن روحية الأغلبية وكل مسعى يضادّ لذلك سيثير هواجس الأغلبية وخشية خلق دولة داخل الدولة. كما إنّ الأقليّة القبطية سترى في خضوعها للقانون العموميّ الذي يعبر عن روح الأغلبيّة هو خضوع لنسق نابع من دين مغاير فهو خضوع للمعايير الإسلامية.

سينعكس ذلك وبشدة عندما حرم البابا شنودة الثالث على الاقباط الزواج والطلاق إلا وفق ما تحدده الديانة المسيحية، هذه نقطة هامة تلفت انتباهنا إلى إشكالية صعدت مع اشتغال الدولة الحديثة وهي ما إن تمتد يدها في مجال أو نطاق ما تثير حساسيات مرتفعة داخل الهوية. فمسألة الزواج والطلاق في المسيحية، كما يشير المؤرخ تامر الليثي، هو جديد في تاريخ الشريعة القبطية: ”فبين القرنين الحادي عشر والثالث عشر جوّزت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الطلاق والزواج ثانية للأقباط” (ص199).

فما كان ممارسة تاريخية متغيرة تم رفعه لمصاف العقيدة الدينية. ففي إحدى المحجاجات الكنسية، سيماثل نبيل جبريل الممثل القانوني للكنيسة وضعية الزواج والطلاق عند المسيحيين بعدم مقدرة الدولة والقانون إجبار الأزهر أو المسلمين جعل الصلوات ست صلوات في اليوم بدلاً من خمس. ما الذي يشير إليه كل ذلك؟ إنّه يشير، برأي صبا محمود، إلى أنّه عن طريق خصخصة الشؤون الدينية والأسرية ”لم تمنحهم العلمانوية السياسية حماية الدولة” (ص203).

فالدولة بالنهاية معنّية بتطبيق ما تقره الأغلبّية في ذلك المجال وما يعبر عن روحيتها؛ لذلك فهي ستضخم من مراسيم عقائدية بعينها وتهمل أخرى، وستحاجج المحكمة الإدارية العليا في مصر في حكمها الصدار مارس 2008 بضرورة حمايتها للقانون وغاياته التي تكفل حقوق المواطنين -فالمحكمة هنا تؤكد على غاية قانون الأسرة الحديث كمجال لإعادة الإنتاج الاجتماعيّ والاقتصاديّ والكنيسة برفضها ذلك هي تنازع الدولة في أحد أهم مجالات اشتغال الدولة، وستفوز الكنيسة بعد ذلك بقانون مظفر من الدولة بالموافقة على تعديل قانون الأسرة الذي يتوافق ورغبات الكنيسة. وهذا أمر سيعبر عن تحالف وثيق بين الكنيسة والدولة تم تدشينه مع نظام عبد الناصر وسيعيد نظام مبارك اشتغاله من جديد بعد تعطّل في فترة نظام السادات.

بل إنّ الكنيسة وفي الدساتير الجديدة التي وضعت عقب ثورة يناير في 2013 و 2014 ستظفر بنص دستوريّ لتكريس ذاتها كسلطة مطلقة داخل الحيز المسيحيّ والشؤون الإكليريكية والعقائدية عبر إضافة المادة 3 للدستور الجديد وتنص على ”مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود هي المصدر الرئيس للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية وشؤونهم الدينية واختيار قياداتهم الروحية”.

ما تخلص إليه صبا محمود أنه كل نظرة لقانون الأسرة كتعبير عن علمنة غير مكتملة هو لا يدرك خصيصة السستمة الحديثة التي هي جزء لا يتجزء من التدبير العلماني. ”فليس قانون الأسرة المرتكز إلى الدين تعبيراً عن تديّن هذه المجتمعات، ولا هو أمارة على علمانيتها الناقصة. بيد أنه تجسيد مُحدّد تاريخياً لمشروع كوني يُقولب بمصطلحات حضارية في كثير من الأحيان” (ص232).

موت مدني أو العلمانوية السياسية ومرتكز النظام العام

من خلال مشكل الاختلاف الديني للبهائيين، ستنفذ الكاتبة إلى مفهوم أساسيّ ّللعلمانية وهو مفهوم ”النظام العام” الذي يعبر عن أحد أهم مرتكزات السيادة للدولة الحديثة وأداتها كلمتها المقدسة القانون. فالمفهوم أداة تدخّلية من الدولة لِلَجْم أي خلل يصيب حالة الاجتماع السياسيّ أو الاجتماعي أو الديني. إنه أداة لتعليق العماء الليبرالي العلماني المعياري الذي ينتصر لحقوق طبيعية مجردة، ومفهوم النظام العام سيشهد تجارب مختلفة.

فكل سياق جغرافي واجتماعي له خصوصيته التي يتفاعل بها مع ذلك المفهوم -”النظام العام”- فتنتج فروقات مختلفة في الممارسة ولكن تتحد في الموقف، وهو أن كلها تنبع وفق المفهوم العلماني لـ”النظام العام”.

ثمة ميسم خاص يسمّ القضية البهائية وهو التعقيد فسنشهد خلال العقود الماضية تراوح للقضية بين الاعتراف واللاعتراف وتفريق بين الشخص البهائي كشخص مدني مواطني والشخص البهائي كشخص ديني ينتمي لدين لا يعترف القانون به. فالفقه القضائي كما تقول الكاتبة ممزق أو يتمحور بين تصورين مختلفين ومتضاربين وتضاربهما راجع للحمولة التي يحملها بداخله معبرة عن وضعية مرجعية مختلفة ولكل منهم نمطه الحوكمي الخاص به.

فهناك المفهوم الإسلامي ”أهل الكتاب” والمفهوم العلماني ”الحرية الدينية والمساواة”، ولكن المفهوم العلماني لديه خرق أساسي وهو تفرقته بشأن الحرية الدينية بين الاعتقاد كفضاء خاص، والممارسة لهذا الاعتقاد في الفضاء العمومي. الاعتقاد ليس للدولة علاقة به بخلاف الفضاء العمومي الذي يحاول الاعتقاد الشخصي ترجمة اعتقاده لممارسات ملموسة، وهنا يخضع للدولة ولنظامها العام كأداة ضبطية عندما تشعر الدولة بخطورة تلك الترجمة الاعتقادية في الفضاء العمومي، ولها صلاحية التقييد لتلك الممارسات. وهذا أمر ليس خاصاً بمصر، بل هو ممارسة كونية كما سنرى بعد قليل.

فالمحكمة الإدارية العليا في عام 1983 ستنص في حكم لها بضرورة الاعتراف بالحق المدني للشخص البهائي في إثبات وجوده باستخراج الوثائق الرسمية والحصول على بطاقة هوية رسمية، وهو كما يقول حكم المحكمة إن مطلب إصدار بطاقة هوية ليس نشاط محظور على أحد، لا هو أمر واجب بموجب القانون، ولكن من الناحية الأخرى والتي تخص الشق الديني للشخص البهائي فالشريعة -كما ينص حكم المحكمة- تحرم ممارسة البهائي لممارسة اعتقاده في الفضاء العمومي؛ حيث الفضاء العمومي بخصوص الممارسات الدينية خاص بأهل الكتاب.

وسيتأكد ذلك الحكم وذلك التفريق بين الشق المدني في حق اثبات وجوده والشق الديني ورفض الممارسة العلنية للمعتقد البهائي في قرار للمحكمة الإدارية عام 2006، فحرية الاعتقاد تظل مطلقة، ولكن ترجمة الاعتقاد إلى ممارسات ملموسة في الفضاء العمومي تظل مقيدة بالنظام العام للدولة وما يقرره.

ولكن وفي العام نفسه 2006، ستقوم المحكمة الإدارية العليا بنقض قرار المحكمة الإدارية -والذي سيرى فيه البهائي قراراً بـ”موت مدني”(ص250)- وفق تأويل مختلف للفضاء الخاص والفضاء العمومي. فهي تذهب في اتجاه مضاد للمحكمة الإدارية في أن إصدار بطاقة هوية للشخص البهائي هو أمر يمثل انتهاكاً للنظام العام. فعبر إصدار بطاقة هوية يخرج ذلك عن النطاق الخاص للفضاء العمومي؛ بحيث يعتبر ذلك اعترافاً بحق البهائي في التواجد العمومي لدينه.

المحكمة في البداية تؤكد على حرية المعتقد: ”يتضح من كل الدساتير المصرية أنها كفلت حرية المعتقد وحرية الشعائر الدينية باعتبار أنها تشكل المبادئ الأساسية لكل البلدان المتحضرة. إذ لكل إنسان حق الإيمان بدين أو معتقد يرضي ضميره ويسعد روحه وليس لسلطة نفوذ على ما يؤمن به في أعماق روحه وضميره”. هذا بخصوص الاعتقاد، أما بخصوص تمظهر وترجمة الاعتقاد لممارسة عمومية فهو مقيد في نفس نص القرار: ”أما بالنسبة إلى ممارسة الشعائر الدينية، فذلك أمر يخضع إلى التقييد … وباحترام النظام العام والأخلاق العامة”.

وستقوم بتأويل أن استخراج بطاقات هوية للبهائيين هو بمثابة اعتراف بالديانة وحق وجودها كممارسة في الفضاء العمومي. ولذلك ستقوم برفض إصدار بطاقات هوية بنصها على أنه ”يجب أن لا تسجل أية بيانات تتعارض وتختلف مع النظام العام في دولة يرتكز أساسها وأصلها على الشريعة الإسلامية”.

ستحاول الكاتبة للتدليل على أن التوتر قائم في قلب العلمانوية وليس توتر خاص بأنموذج دون آخر، وذلك من خلال تناول قضية لاوتسي بإيطاليا عام 2011؛ تلك القضية التي تثبت مدى مركزية المسيحية في الهوية الأوروبية ومساهمتها في تشكيل النظام العام. فهي مماثلة لمركزية الإسلام في بناء الهوية الاجتماعية لمصر ودولتها. لاوتسي هي مواطنة فنلندية وإيطالية لديها ابنان قاصران في مدارس حكومية يعرضون الصليب وهي رأت أن ذلك العرض الإلزامي للصليب انتهاك لحق وحرية الأبناء.

ومن خلال الأحكام ما بين المحكمة الإدارية العليا بإيطاليا والمحكمة الأوروبية ما بين إثبات حق السيدة ورفض مطلبها، استقر الوضع بالنهاية لرفض ادعاء السيدة لاوتسي حيث نظرت الدائرة الكبرى بالمحكمة الأوروبية بأن الصليب ليس ”رمزاً سلبياً”(ص258)، بل ورأت في الصليب رمزاً ثقافياً وحضارياً للأمة الأوروبية؛ وهذا سيضاد قراراً آخر لنفس المحكمة بخصوص قضية أخرى للسيدة دحلب وهي امرأة مسلمة ترتدي الحجاب منعت الإدارة العام للتعليم الابتدائي وحكومة مقاطعة جنيف ارتداء الحجاب بالفصل وسترفض المحكمة الفدرالية التماس السيدة دحلب بحجة أنّ الحجاب يمثل تمظهراً خارجيّاً وعمومياً للمعتقد، وهو ليس جزءاً من الجوهر المصون لحرية الدين، كما نصت المحكمة. وستؤيد المحكمة الأوروبيّة ذلك التي سترى في الحجاب رمزاً تبشيريّاً وسترى في إجراء السلطات الجنيفية قراراً منطقيّاً.

يظهر تعامل المحكمة الأوروبيّة بين القضيتين أمراً هاماً كما رأيناه في قضية البهائيين وهو اختلاف التأويل حول قضية واحدة؛ وهو التمظهر الرمزي الديني في الفضاء العمومي بحيث يكون لكل تمظهر حكم خاص به؛ فتمظهر الصليب تمت رؤيته كمظهر ثقافي وحضاري يعبر عن هوية النظام العام الإيطاليّ والأوروبيّ في حين أنّه تمت رؤية مظهر ديني آخر كالحجاب كأمر تبشيريّ يهدد النظام العام الأوروبي وقيمه ولذلك تمت حظر ممارسته.

هذه أمور ستدفع طلال أسد لطرح تساؤل هام: ”هل يمكن للمسلمين أن يُمثّلوا في أوروبا؟”[23]. فالمسلمون وحسبما يرى طلال فهم ”مضمّنون في أوربا ومستبعدون منها في الوقت نفسه بطريقة خاصة”[24]. ولذلك أعتقد أن السؤال الصحيح الذي من المفترض أن يتم طرحه هو كيف يُراد للمسلم أن يُمثَّل داخل أوروبا؟

نختم هذا الجزء الأول من حديثنا حول المسألة الدينية في عصر علماني بفقرة من حكم المحكمة الإداريّة الابتدائيّة لعام 2008 تثبت فيه محورية مفهوم النظام العام العلماني حيث تنص فيه: ”يحتوي النظام العام على القواعد التي تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة للبلاد، من منظور سياسي واجتماعي واقتصادي، وتحلّ محل مصالح الأفراد، ويقوم مفهوم النظام العام على مذهب علماني بحت بحيث يطبق كمذهب عام يمكن للمجتمع برمته الالتزام به ويجب ألا يكون مرتبطاً بأيّ حكم من أحكام الشريعة” (ص265).

الهوامش:

[1] – الاستشراق:المفاهيم الغربية للشرق، إدوارد سعيد، ترجمة: محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2006،ص83.

[2] – نفسه، ص92.

[3] – هل يستطيع غير الأوربي التفكير، حميد دباشي، ترجمة: عماد الأحمد، منشورات المتوسط، الطبعة الأولى 2017 ،ص50.

نحن هنا قد لا نقر لدباشي قراءته لكانط ضمن ذلك التقليد والاطار الكولونيالي فكانط في كتاباته ومنها الدين في حدود مجرد العقل سيمتدح مسيرة الإسلام أو ما يسميهم المحمديين فهو يرى فيه دين”يتميز بالكبرياء”، وهنا في الحقيقة تأتي خطورة حضور اللامرئي بعد عطالته الطويلة واستقالته من الفعالية في الحياة، فاللامرئي يريد أن ينتقم لذاته المغيبة طوال قرون رأينا ذلك في الكثير من اللامرئيات منها ما حدث مع احداث ماي 1968 حيث اللامرئي الفردي الخصوصي والذي تم قمعه ولقرون طويلة مع المسيحية ثمّ مع الحداثة أراد أن يعوض غيابه وينتقم لذاته المفردنة المغيبة ولكن ذلك الحضور سيتم تفريغه من محتواه بسبب حضور الرأسمالية الطاغي وتفريغ حضوره من محتواه الأساسي، وكما نرى الان مع اللامرئي النسوي في الفلسفة النسوية والممارسات النسوية، اللامرئي خطر وقد يرتد انتقامه على نفسه وينهي ذاته بذاته.

[4] – مقارعة العلمانوية:العلمانوية والإسلام في أعمال طلال أسد ،سيندر بانجستاد، ترجمة:طارق عثمان انظر الرابط.

[5] – انظر الرابط.

[6] – الدولة باعتبارها “دين مدني”هو عنوان سيفتتح به جان جاك روسو الفصل الثامن بالباب الرابع بكتابه”العقد الاجتماعي”.

[7] – الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، دار الشروق ،الطبعة الأولى 1996.

[8] – المصدر نفسه، ص 17.

[9] – المصدر نفسه، ص 26.

[10] – المصدر نفسه، ص 26

[11] – المصدر نفسه ،ص18

[12] – بيير بورديو، قوة القانون: نحو سوسيولوجيا للحقل القانوني، ترجمة:سعيد العليمي، انظر الرابط.

[13] – المصدر نفسه

[14] – يتحدث كارل شميت عن الكيفية التي شهدت ولادة القانون ففي القرن السادس عشر سيتم هجر اللاهوت كحقل مركزي والإقامة في حقل آخر الا وهو القانون كحقل مركزي بديل لللاهوت حيث أنه علقت عليه الامال بإيجاد الحد الأدنى من التوافقات والمقدمات المشتركة الذي به يتم ضمان الامن واليقين والتفاهم والسلم مفهوم السياسي، كارل شميت، ترجمة:سومير المير محمود، مدارات للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2017، ص 148-149.

[15] – السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة الإسلامية، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى 2011.

[16] – الاختلاف الديني في عصر علماني، صبا محمود، ترجمة:كريم محمد، مركز نماء، الطبعة الأولى 2018 – كل إحالة على الكتاب سيتم ذكر الصفحة عقب الإحالة في متن الدراسة.

[17] – يتحدث كارل شميت في كتابه مفهوم السياسي عن ان خطاب الليبرالية في صيغته المعيارية لا يعمد لتأطير نظرية في الدولة أو تقديم فكرة سياسية بل يسعى لربط السياسي بالاخلاقي وتقييده بالاقتصادي، ترجمة: سومر المير محمود، مدارات للأبحاث والنشر الطبعة الأولى 2017،ص114

[18] – طلال أسد، تشكلات العلمانية في المسيحية والإسلام والحداثة ،ترجمة: محمد العربي ،جداول للنشر والترجمة والتوزيع، الطبعة الأولى 2017، ص 153.

[19] – مفهوم الحرية، عبدالله العروي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة 1993، ص39-41.

[20] – هو نمط تشريعي حيث تُسن القوانين وتدون بشكل نسقي ونظامي مكونة بذلك أكواد قانونية، انظر، ما هي الشريعة، وائل حلاق، ترجمة:طارق عثمان ،مركز نماء للبحوث والدراسات ،الطبعة الأولى 2016، ص80.

[21] – تشكلات العلماني، طلال أسد، ترجمة:محمد العربي ،دار جداول،الطبعة الأولى 2017، ص 252.

[22] – مصدر سابق، ص253-254.

[23] – تشكلات العلماني، ص193

[24] – مصدر سابق، ص 179.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق