ثقافة وفن

رغدة زيتون

الهوية الفلسطينية تحولات بصرية تنتصر للأرض والإنسان

بشرى بن فاطمة

تحملنا الصدفة أحيانا إلى اكتشافات جمالية، رغم بساطتها عميقة تقنيا وفنيا وأسلوبيا، فرغم احتمالاتها المتناقضة بين الموجود والمنشود في ترتيب اللون دافئة ومريحة، تعيد تفاصيلها وتنساب مع حكاياتها وهي تداعب خيال اللحظة بالحنين لتحبك روايات بصرية شيّقة في  ثنايا أحداثها الصاخبة والهادئة والمنيرة والداكنة والمجرّدة والواضحة برمزيات العشق وتفاصيل التيه في الأرض منها وإليها، وهذه الاكتشافات هي لوحات الفنانة التشكيلية الفلسطينية رغدة زيتون التي تتجمّع فيها الهوية النابضة بالفرح وبقصص الأرض مع الاستمرار التعبيري الدقيق المقترن بمواسم الطبيعة وانتصارات البقاء الناضج فيها، فهي ترتبها لتكون خاصة بها وتحمل بصمتها المشبعة بالأثر.ورغدة أبو زيتون فنانة تشكيلية فلسطينية من قرية عصيرة الشمالية مقيمة بمدينة نابلس تخرجت من كلية النجاح للفنون الجميلة قدّمت عدّة معارض ولها العديد من الأعمال التي حاولت فيها أن تقدّم فلسطين بكل أثر الهوية والانتماء والبساطة والجمال والامل والحياة كفلسفة بصرية تعكس الانسان ومدى حفاظه على كل تلك القيم.لقد تعثّرت في جمال تفاصيل أعمال رغدة زيتون اللامتوقّعة واللامألوفة من خلال صفحة “الفن الفلسطيني المعاصر” حيث تراءت الأعمال في تماسها الأول اعتيادية ولكنها من تلك الاعتيادية البسيطة استطاعت أن تستنطق المشاعر في حضورها المشحون بالدقة والتفعيل الكثيف للتفاصيل الفلسطينية الحقيقية.فعند التأمل في عمقها ينطلق المُتلقي باختلاف مستوياته الفكرية والانطباعية والمفهومية والمعرفية، في قراءة تفاصيلها المحكية بصريا على مهل يرشح بالحنين والذاكرة بالانتماء لكل فصولها والتفاعل الممتد مع حبكتها السردية بين الأرض والهوية وبين الأحاسيس التي تتفوّق عليها وتتجاوزها من الفردية إلى الجمالية بأناقة طافحة ورزانة تكاد تخترق الصمت في حركة الشخوص، وهو الأمر الذي يحقّق التواصل الذهني والعاطفي مع كل شخصية وفي كل مكان تجسّدت فيه.فعندما تحجب رغدة زيتون ملامح شخوصها وتعابيرها تتقصّد أن تحاول الابتعاد بالمتلقي أكثر في قراءاته حسب مخزونه من القصص والصور والمشاهدات، لأنها تستفز فيه قراءة الجسد وحركته حتى يسرح عندها المتلقي في حياكة قصص من ذاكرته وتكوينه وموروثه واتصاله بالأمكنة.أقحمت رغدة زيتون في أعمالها اللون وحاولت تطويعه لكل تفاصيلها الشيّقة المؤمنة بالتناسق الطبيعي مع البيئة الفلسطينية الفلاحية وتفاصيل أثوابها بين أشكالها وحليّها وزينتها حملت مع كل امرأة قصة استوحتها من طبيعة فلسطين في اختلافاتها الجغرافية التي يوحّدها لون الأمل الباقي في الانسان وإنسانية الانتماء فهي تشكّل معها رؤاها البصرية وترتحل عبرها أعمق في التصورات النفسية والحسيّة والحالات سواء في تركيب اللون أو في العمق الذي تملأ به الفراغ بين كل تفصيل وشخصية وكأنها تسترجع من كل حالة وحركة وطنا من الأحلام التي تتشبّث بذاكرتها، فهي لا تبالغ في تفكيك التفصيل الرمزي في الملبس فبين الصبر والياسمين وشقائق النعمان ينبت الأمل من صخرة الانتظار وينمو في كل جلسة وحوار تنثره على الحركة وتستثير مقاماتها اللونية ومجازاتها وهو ما يخرج أعمالها من الطابع الكلاسيكي المتعوّد إلى البصمة المتفرّدة خاصة مع حركة نسائها التي تعيد صياغة حضورها بأكثر من بعد وامتلاء يحطّم بؤر الفراغ وجموده.فمع امتلاء الأمكنة وتمازج الشخصيات والمعالم يبدو التجريب اللوني حيويا ولا يقف عند زيتون على الشخصيات بل على انتمائها لعوالمها المتداخلة، فمن الطبيعة إلى معمار إلى الألبسة التي تحيل على انتماء بسيط وحقيقي للأرض والتراب، أجادت به إدهاش المتلقي وبث فضوله في محاورات نسائها، شدّت اللوحة إلى التأنيث وأثّثت لها فضاءات مشرقة رغم أنها خفّتت من تعابير ملامحها حتى يستنتج المتلقي وحده مدى ارتياحها وقلقها انتظارها وترقّبها حيرتها وفرحها ليندمج معها حسب حركتها المتجانسة والمتصادمة.إن تجربة رغدة زيتون لا تفارق مكانها وانتماءها وهويتها ولا تتوقف عندها بل تتجاوزها أبعد في عناصرها التكوينية وأسلوبها المتناسب مع كل التقنيات من أجل التعريف والنبش والحضور الجمالي والتفعيل الذهني للحواس التي تشارك في فكرة البقاء الأجمل بكل ألوان الحياة المستحقّة.

*الأعمال الخاصة بالتشكيلية رغدة زيتون مأخوذة من صفحة فايسبوك

الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر

Contemporary Palestinian Art 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق