سياسة

انعكاسات الاختلالات التربوية في السياسة السودانية

د. أمجد إبراهيم سلمان

في يوم الاثنين الثالث من سبتمبر من العام 2007 تسلمت وظيفة طبيب عام في مستشفي “دي يوترز” للصحة النفسية للأطفال في مدينة لاهاي الهولندية ، المستشفى يقع في جنوب المدينة على ساحل بحر الشمال و يطل على محمية ساحلية عبارة عن كثبان رملية و غطاء نباتي نادر. كانت البداية بعد معاينة وظيفية تمت قبل عدة أسابيع من ذلك اليوم ، رئيستي المباشرة في العمل كانت الدكتورة ماديلون دي فريس و هي استشارية نفسية للأطفال ذات خبرة عملية طويلة. من مسئولياتي المتعددة كانت متابعة و إعداد التقارير الدورية للقسم الداخلي للمراهقين الذي كنت طبيبه المباشر حيث كان به حوالي 10 أطفال في المراحل العمرية بين 13 و 17 سنة ، كان المستشفى متكاملاً حيث كانت به مدرسة و قسم لتطوير المهارات اليدوية عبر الرسم و النحت و الأعمال الخشبية و الرياضة و يشرف على تعليم تلك المهارات تربيون ذوو تأهيل خاص.

في نهاية كل أسبوع كانت تعقد جلسات التقييم الشاملة لعدد من المرضى حيث يقدم الممرضون والتربيون تقاريرهم عن المريض المعين و المهارات التي اكتسبها و يتم استكمال ذلك عبر التقرير العلاجي للمرض النفسي المصاحب مثل الذهّان (انفصام الشخصية) أو الشخصية الحدّية أو مرض ثنائي القطبية أو غيرها و يتم تنوير الأهل في جلسات المتابعة عن حالة مريضهم. في إحدى جلسات المتابعة مع أم أحد الأطفال كانت سيدة بسيطة من إحدى الأقليات المهاجرة ، قالت الأم لنا الأم “لم أستطع أن أربي طفلي هذا .. إنه صعب المِراس” و واصلت قائلة “في بلدنا كُنا نهاب أهالينا كانت نظرة واحدة منهم تجعلنا نكف عن ضجيجنا احتراماً لهم” ، ردت عليها الدكتورة دي فريس بحذر بالغ تجنباً لسوء الفهم ” يا سيدتي تلك النظرات التي تجعل الأطفال يهدئون و يقبعون في أماكنهم ، تسبقها في العادة ممارسات طويلة في التعنيف و الإسكات حتى يتم تطويع أولئك الأطفال” … و أردفت ألم تكونوا في أشد حالات الخوف من مآلات تلك النظرات ، و ما قد تتلقونه من عقاب بعد ذلك” ، طفلك يا سيدتي حتى لو تمت تربيته بمثل الطريقة التي ذكرتها لن ينجح معه ذلك لأنه مصاب بمرض نفسي يمنعه من تقييم نظام العقاب و الثواب التربوي ذاك”. وفي نقاش لاحق جمعنا كفريق علاجي كانت تلك نقطة لحوار مستفيض حول إشكالات اندماج المهاجرين في نظام اجتماعي يتمتع بحريات كبيرة و بقوانين تحمي حرية الأطفال و تشجعهم على التفكير الحر و الشجاعة في إبداء الآراء و التسامح معهم عند ارتكاب الأخطاء مما يشجعهم على الاعتراف بها و التعلم منها بدلاً من الإنكار و العنف اللفظي و الكذب تحاشياً للعقوبات المغلظة و التي يقوم بها الأهل – و لو بحسن نية – في عملية تربية قاسية ينتج عنها عقل إذعاني إنصياعي غير قادر أو معتاد على مناقشة أي أفكار مهما كانت خاطئة خوفا من التنمر الجماعي من أصحاب تلك الآراء بحكم مواقعهم الإدارية العليا أو وجاهتهم الاجتماعية الحقيقية أو المكتسبة باستحقاق أو بغيره ، و تأثير تلك السلوكيات على إدارة المؤسسات و الشركات إذا استبد الخوف بالمرؤوسين من إبداء وجهة نظرهم في أمور العمل.

غنيٌ عن الذكر المآسي التي يمر بها بلدنا الحبيب السودان ، و للحق فإن الكوارث الحادثة خاصة الحرب التي بدأت شهرها الثالث ألجمتني كما أسكتت آخرين عن الإدلاء بآراء قد تبدو كترف فكري في ظل حرب ضروس يقودها جنرالين أعمتهما طموحاتهما الشخصية عن تدمير بلد ينشدان أن يحكمه أحدهما يوما ما و لكن وتائر الدماء المتواصلة تنبئ أن المنتصر سيكون مهزوما في يوم انتصاره المتوهَم حيث سيحكم كوماً من الرماد خالياً من العباد. و لعل ما يمنعهما و من حولهما من العسكريين من الاعتراف بالخطاء بجانب الضغوط الدولية هو عقلية ركوب الرأس و عدم الاعتراف بالخطاء خاصة مع نياشين لمّاعة تغذي الإحساس الكاذب بالتفوق المعرفي المنقوص أصلاً.

إنني أعتقد جازماً اننا إن لم نُعمِل الفِكر و النقد البناء في أسباب هذه الأزمة فلن نصل إلى حلول ، فالشاهد أنه و بعد كل هذه المآسي لم تستطع كل الأحزاب السياسية و لا المنظمات المدنية و لا الشخصيات القومية المرموقة بعد شهرين من الحرب صياغة وثيقة جامعة تحت قيادة موحدة تخلع الغطاء السياسي عن الكتائب العسكرية المتصارعة و تفرض نفسها في طاولة المفاوضات ، و في ظني أنه من الأسباب النفسية العميقة لعدم الاتفاق هو ذهنية الاعتداد بالنفس التي رسخت للتعنت و عدم الاعتراف بالأخطاء تلك الذهنية المترسخة في معظم المدنيين و العسكريين السودانيين على حد سواء تحول بينهم و بين الاتفاق و الوصول لحلول وسطى لإنقاذ بلادهم ، و إلا فكيف يمكننا تفسير تصريح غير مسئول صدر عن الناطق الرسمي بالمجلس العسكري الفريق أول ركن شمس الدين الكباشي إبراهيم شنتو حيث قال مقولته الشهيرة عن فض الإعتصام الذي استمر عدة ساعات أزهقت فيها أرواح مئات السودانيين أمام القيادة العام بتعبير ( حدث ما حدث) ، و كأن فض الاعتصام كان سببه كارثة طبيعية أو تسونامي مفاجئ هاجم المدنيين النائمين صباح العيد على حين غِرّة فاجأت حتى القيادات العليا للجيش في أبراجها العاجية ، و في واقع الأمر كان شنتو و رفاقه اللا ميامين يتابعون هذه المجزرة الوحشية من نفس الشاشات التي نقلوها إلى بدرومهم و هم يراقبون قوات الجنجويد تعبث بأبراجهم التي استعصمت بالبعد عن شباب غض نواضر اغتيلوا من قبل ضباط و جنود كان المنوط بهم حمايتهم ، لكن يد المنون اختطفتهم بهذا التواطؤ الإجرامي بين العسكر و الجنجويد ، و لكن “و يمكرون ويمكر الله و الله خير الماكرين” ، حيث لم تمض بضعة سنوات حتى قضى العديد ممن ارتكبوا تلك المجزرة نحبهم في نفس المكان و بطريقة بشعة “ويضرب الله الأمثال للناس لعلّهم يتذكرون”.

و بالطبع فإن مسألة عدم الاعتراف بالأخطاء و الاستعداد لتحمل النتائج الناقمة عن ذلك تتجاوز منسوبي الجبهة الإسلامية القومية و -إن كان لهم القدح المعلى في المغالطات و إلباس الباطل لبوس الحق- و تطال الممارسة كل معظم الأحزاب السياسية السودانية و دونكم المقولة الأكثر التواءً في تاريخ السودان السياسي المعاصر حيث يقول الحزب الشيوعي السوداني في تقييمه لانقلاب 19 يوليو 1971 ” تلك تهمة لا ننكرها و شرف لا ندعيه”. و لكي لا يعتقد البعض أن السلوك هو مملوك حصرياً للأيديولوجيين فكلنا يذكر عنت معالي رئيس الوزراء الراحل إسماعيل الأزهري في بيان حزب الأشقاء المعنون بتاريخ 20 أكتوبر من العام 1947 حول قيام الجمعية التشريعية المؤقتة التي اقترحها الإنجليز لتدريب السودانيين تدريجياً على مسألة حكم أنفسهم حيث قال البيان ” سنرفضها (أي الجمعية التأسيسية) و لو جاءت مبرأةً من كل عيب” ، فكيف يستقيم عقلاً أن يرفض المرء أمراً مبرأً من كل عيب حتى و لو كان من ناحية الصياغة اللغوية ، لكن كل ذلك يعكس ذهنية إقصائية لا تعترف بالآخر و تتحين الفرص كي تطيح به و تنكل به مما يجعل فرضية أي تداول سلمي للسلطة بعيدة المنال ، فمن هذا المنظور يمكننا فهم تسليم الأميرالاي عبد الله خليل الحكم الديمقراطي على طبق من ذهب في انقلاب أبيض لرئيس الجيش الجنرال إبراهيم عبود لقطع الطريق أمام تسليم السلطة لغرمائه السياسيين ، كما لجأ اليساريون للعسكرين من كوادرهم للقيام بانقلاب عندما تم طرد نوابهم من البرلمان من قبل رئيس الوزراء آنذاك السيد الصادق المهدي تعنتاً و صلفاً بمنع نواب منتخبين من ممارسة مسئولياتهم و الدخول إلى مكاتبهم حتى بعد أن حكمت المحكمة الدستورية لهم بذلك ، و لعل السيد الصادق المهدي بصغر سنه آنذاك لم يكن حينها يعي كلمات الفيلسوف الفرنسي فولتير الخالدة عندما قال لأحد الكتاب الذين تعرضوا لحملة اغتيال معنوي كبيرة داخل البرلمان الفرنسي في القرن الثامن عشر بسبب رواية أدبية “إنني أختلف معك في كل كلمة قلتها ، لكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في قول ما تريد”.

مما سبق أعتقد أن الأسباب التي أدت لما يحدث في بلدنا السودان عميقة الجذور في العملية التربوية و العقلية الجماعية للنخبة السودانية عسكرية أم مدنية و قد حان الوقت للاعتراف بكل الأخطاء التاريخية التي أدت لهذه المآلات ، و يجب علينا جميعاً الحوار الجاد و العميق خاصة مع من نختلف معهم في الرأي لأن الحوار مع من يتفقون معنا في المفاهيم لا يكون حواراً بل هو نوع من الوعظ كما ذكر أحد السياسيين السودانيين الموهوبين ، لكن هل قياداتنا الحالية مستعدة نفسياً و ذهنياً للتنازل عن الأنّا الغارقة في الذاتية و الغرور؟ و هل سيتمكنون من الاتفاق على برنامج حد أدنى لإنقاذ الوطن؟ ، و هل يمكن الإجماع على قيادة تمثل الجميع بلا استثناء حتى من الإسلاميين الذين وعوا الدرس و لم يدانوا في قضايا أخلاقية أو مالية و هم كثيرون؟ هل يمكننا الاستفادة من كل الذين هاجروا و تعلموا من تجارب الشعوب التي بنت بلادها بالاعتراف بالأخطاء المرتكبة و عمل مصالحات عميقة بين مكونات مجتمعها انطلاقاً من ثقافة الشفافية و الصدق التي يتم تدريسها خاصة للأطفال لانهم قادة المستقبل ، حينها و حينها فقط نكون قد فهمنا مقولة فولتير الخالدة تلك ويمكننا البناء على أساس صلب من الاعتراف بحق الآخر في الرأي و من ثمّ في حقه أن يدير دفة أمور البلاد إذا ما تم انتخابه أو اختياره لهذا الأمر الجلل عندها يمكن أن نتوقع تبادل سلمي للسلطة عبر الانتخابات ، و حدها الأيام القادمة ستجيب على هذه التساؤلات الكبيرة !!!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق