سلايدر

معمار الرواية وبناؤها (الجزء الخامس)

مع الروائي السوداني عماد البليك

د. محمد بدوي مصطفى

< عطاء بليكيّ في الأدب والثقافة والفلسفة مدرار يبحث عن مثيل. كيف تنامت كل هذه الطاقات ثمّ ارعوت ونضجت حتى تفجرت بحق وحقيقة لتصب في بحر زاخر ينطوي عن فلسفة عميقة، وعلوم كامنة ومتباينة، متداخلة ومتكاملة في نفس الوقت، حيث نجد كل واحدة من هذه المعارف تمثّل جزءً من حلقة معرفية لم تكتمل بعد ولا تكتمل كليًّا إلا حينما تجتمع كل الأجزاء برمتها، الواحد تلو الآخر؟ هل نظرية المعرفة المتشظية هي السبب؟ خذنا معك في هذا الرحلة وكيف يتعلم البليك من أمهات الكتب، واسترسل عن بعض مراحلها.

> تقريبا هذا ما اكتشفته بعد سنوات طويلة من القراءة والبحث المضني عن تعريف لهذا العالم، لا أقول إنني وصلت لشيء، إذ ما أزال باحثا عن “حقيقة” غائبة أو مفتقدة، باعتقادي أن الحياة والعالم برمته يقوم على احتمالات لانهائية من القراءات وكلها قد تكون ذات نتائج صحيحة، حيث يعتمد هذا على الطريق الذي نسلكه ويوصلنا في نهاية الأمر لكن بشروط معينة. أنا أتحدث عن عالم مُتشظٍ إذن، لكنه متماسك وحقيقي وفق نظرتنا له ورؤيتنا التي هي جوهرها ذات رؤية وسياق معرفي وعارف وليس مجرد اتكاء على تصورات برانية. يكون على الفيلسوف أو الفنان أو العالم البحث المستمر وأن يمشي في طريق الاستكشاف والرؤى المتعددة، ليشكّل نظرية أو طريق رؤيوي للعالم، وقد يحدث ذلك فجأة ذات لحظة إشراقية، وقد ينهار كل العالم في لحظة معينة فيبدأ من جديد، فالقضية متعلقة بفيزياء الكون التي هي في خلاصتها بظني ذات طابع درامي وغريب، لا يمكن الجزم إلى اليوم بأننا نعيش في عالم معروف أو مدرك على أي من المستويات لهذا فالغرابة تحيط بنا وتحاصرنا، نحن جميعنا غرباء وأسرى معرفة متشظية، بقدر ما نحاول لملمتها وتشكيلها، هي أيضا تتلاعب بها. لهذا فالبحث عن المعنى سواء في أمهات الكتب أو في هوامش الكتب التي قد لا تبدو مهمة، قد يعطي ذات النتائج، ليس بالضرورة أن المعارف الكبرى تأتي من مصادر درجنا على التمسك بها، لا يوجد قداسة في الإطار المعرفي الكلي والكبير، هناك دائما هامش للممكن الذي يحتل الصدارة ليكون متنا حقيقيا والعكس صحيح. هذا ما تعلمته من خلال خبرة السنين وعملت على السير به كقاعدة أو إطار نظري للتفكير والاستكشاف المعرفي وفي ممارسة فنون الكتابة والقراءة والتعلم بشكل عام.

سيبقى ثمة سؤال هل يمكن لنا احتواء المعرفة، هل يمكن تشكيل جسم متماسك يحكي عن الحقيقة المنشودة أو التصور النظري الكلي المطلوب؟ هذا يبدو وهما، لأن الإشارة الجلية التي قلت بها وأكررها دائما، أن نتعلم من مدارات الافتراضات وتشكيلها بشكل مستمر وفق المواضعات الظرفية على المستويات الزمكانية، ففي المعرفة النظرية والعلوم الإنسانية كما في التجارب في المعملية يمكن للتجربة أن تخرج بنتائج متغيرة بناء على ظروف بعينها، هذا هو ما يحدث في الغالب. أنا أرى نفسي بالتالي أكثر من احتمال معرفي ممكن، وغاية متصورة لذاتي وللآخرين، هذا الفهم يعطي مجالا للتعايش الإنساني، للتسامح، للفكر الحر، لصياغة معنى الإنسانية وأن تكون المعرفة المتشظية هي طريق تحرر حقيقي للإنسان بعيدا عن غلواء الصراعات المؤدلجة والقيم الثابتة بنظر أصحابها. يجب تعلم فن الاحتمالات المتبدلة واللانهائية، الممكنة واللاممكنة. 

بالنسبة لقضية المراحل في التعلم واكتساب المعرفة، فهذا موضوع شيق يعيد التفكير بالنسبة لي شخصيا في طريقة تعلمنا كبشر، تراكم العلوم واكتساب الخبرات والتجارب، كيف تتشكل فينا المعرفة وتعمل داخلنا وتتفاعل مع محيطنا؟ كل ذلك يبدو موضوعا كبيرا لا يمكن احتواءه بمجرد سطور، فكما قلت كل طريق يقود لآخر وتفرعات لانهائية، ولا اعتقد انه يمكن لنا فهم هذا الإطار الكلي أو التمرحل بشكل كلي إلا عبر محاولة تأطيره في شكل تصور يتخذ انطلاقه من لحظة الراهن، بهذا فلن يكون هو الحقيقة بقدر ما سيكون تصورا متخيلا لحد كبير عن نظرية محتملة للمعرفة، أكثر من كون ما بُنيّ فعليا عبر السنين متمرحلا، ويكسبنا على أي حال التأمل بهذا الشكل طريقة جديدة لوعي التعلم، أن نشكّل طرق جديدة للمعرفة، واشتغالها على مستوى ذواتنا والمحيط الاجتماعي وفي الحراك الكوني عامة.

أنا شخصيا لا أؤمن بفكرة الأمهات بالشكل الكلي، اعتقد بوجود بؤر معينة مضيئة، قد تكون أحيانا استشهادات بسيطة تنسى من أين انبثقت أو تبلورت أو تولدت، حتى لو أنها جاءت مثلا من فضاءات غير مرئية مباشرة كالأحلام أو التأملات، غير أن ذلك لا يعني أن هناك مصادر أخرى للمعرفة تتشابك مع هذه اللامرئية، ليكون لنا في نهاية الأمر أن نصدر الأحكام ونصنع الحكمة ونبني التصورات المختلفة.

< عندما أتنقل بين ابداعات يراعك ومقالاتك العديدة سواء في صحف الشبكة العنكبوتية أو في صحن مواقعك الشخصية ينتابني إحساس مهيب، لا أعرف إن كان بالغريب أم المدهش، على كل يوحي لي هذا الاحساس بأن البليك في بحث دائم عما لم يُكتب بالأساس أو بالأحرى عما لم تتح له الفرصة بأن يكتبه؟ هل أنت في صراع مستمر مع العلم أم الزمن أم النفس وماذا لو كان عدد ساعات اليوم ٤٨ ساعة؟ هذه الصورة تذكرني ببحث سيدنا ابراهيم الخليل عن الحقيقة، المعرفة وانكشاف الأحجبة. هل هذا أيضًا شئ من هذا القبيل، أقصد، أهي رحلة بحث سرمدية في عوالم المعارف؟

> نعم أنا في بحث دائم عن شيء، فكرة، تصور ما لم أقبض عليه، بظني أن هذا ما نحتاجه هذا الشغف اللانهائي الذي يجعلنا ندأب على التعريف المستمر لأنفسنا، ذواتنا والعالم والحياة. وهو يأتي من التعلم المستمر، وفي طريق المعرفة ليس من إرواء نهائي أو أبدي. أنا في صراعات متعددة أنت لخصتها في فكريت العلم والزمن والنفس “اللوامة”، وهي عوالم في جوهرها متداخلة ومتشابكة، ماذا يعني لنا الزمن بمنظوره العملي أو الفلسفي؟ ما هو العلم؟ وهل البناء التراكمي للعلم يأتي من خلال مستويات زمنية متعاقبة أم ربما من خلال اختراقات تهشم حتى صورة الزمن التي هي تصور إنساني لعلاقة نبتكرها ونعتقد بها، مع هذا الكون أو العالم؟! وقد يقودنا ذلك لجدل فلسفي خلاصته البحث عن مطلق الأشياء، الحضور الكلي للسيد الكبير –  “السيد الكلي الحضور كما في تعبير الشاعر الفرنسي بودلير” –  الذي لا يكون حضوره إلا لحظة انطفاء للوجود، أو غياب بذات الحضور، كما في التصورات اللاهوتية أو الفلسفات الصوفية المتعمقة. هنا شيء مهم وكبير وغامض في ذات الآن سيكون علينا الاقتراب منه، نحمل أشواقنا له، لكننا قد لا نعثر عليه أو لا نصله، أو قد نكون اقتربنا منه دون أن نلمحه لأن سريع التحرك واحتيالي، هذه هي المعرفة في اطلاقها وجماليتها المفترضة.

بالإشارة إلى سردية النبي إبراهيم أو الخليل، التي هي صفة ذات دلالة عميقة، في أن تصبح صديقاً لهذا “الحضور الكلي”، فذلك شأن عظيم، وهو سرد عظيم يحيل إلى شغف الكائن، أن رحلة الإنسان هي مسارات من التبصر الممكن لاختراق اللاممكن، حيث سيكون لك في ذات لحظة أن تخلق أو توجد الاستنارة الكلية، شاسعة التكون، التي تحتوي هذا الكون برمته. هنا قد تبدو الاستعارات هي المعنى، لكن من قال إن العالم ليس إلا جملة من الاستعارات المشتتة التي نحاول أن نقبض عليها لكي نكون في خلاصة القصة، ما الذي يعنيه الإنسان؟ ما الذي تتضمنه الرحلة؟ ما هي حقائق الوجود؟ المطلق؟ كل هذه الأسئلة التي سار عليها “الخليل” ليضع كل إنسان أمام هذا السير وهذا الحج التاريخي المسرود الذي سيكون على الذات أن تسلكه ليصبح هذا البحث السرمدي كما اسميته أنت.

فالمدونات تتطلب التحرر من أسرها الشكلي والمباشر، ومن الاستعارات التي غلفتها  من خلال ما صدقناه واعتقدناه لأزمنة طويلة ليست هي حياتنا فحسب، بل معارفنا وما نقرأه من كتب وما نراه من صور، نحن في واقعنا نتحرك في كل الأزمنة والتاريخ كبشر، نحمل تصورات إنسان الكهف كما نعيش بعقل العصر الحديث، ثمة صورة في أحلامنا قد يكون مصدرها تصور لجد قديم أو هي آنية، يصعب أن نحصل على الفرز، لأن أدوات المعرفة والتفكيك الذهني الهائلة عندنا كبشر لا زالت قاصرة، نحتاج المزيد من التدرب لكي ندخل حقائق الأشياء ونسبر أسرار كوننا وعقلنا. بهذه الطريقة يجب أن نعيد قراءة صور المعرفة والعلم وسرديات الخليل وتاريخنا بشكل عام.

< الأديب عماد البليك شخصية خلوقة، مهذبة وعذبة، صديقة وفي نفس غامضة ومثيرة على حد سواء، هذا شعور شخصيّ، وأقول ذلك ذلك رغم التقائي بها وحديثي معها عن كثب، فهي تظل بالنسبة لشخصي مثيرة وغامضة في أحايين كثيرة، من أين يأتي هذا الغموض، هل أنت في خلوة مستمرة كأهل اليوقا؟ أم أن العلم يجعلك في برزخ آخر تنفرد بنفسك عن الآخرين حتى ولو كنت معهم، حتى لا تهدر طاقاتك مع البشر سدا أو دون جدوى؟

> هذا الكلام مثير لكنه مهم بالنسبة لي أن تفتح لي كوة لفهم ذاتي بشكل أفضل، فكرة الغموض التي تتحدث عنها هي أمر إنساني أحسه مع نفسي قبل أن يشعر به آخر، كثيرا ما أفكر من أنا وماذا أريد؟ حتى أن بعضا من ارتباطاتي الافتراضية التي أحملها معي أراها غريبة عني، كجسدي مثلا، وجهي، نبرة صوتي؟ أفكر مرات هل هذه الأشياء تشبهني؟ هل هي ملك لي أم أنا مجبر على تحملها والسير بها إلى خلاصي الافتراضي، كأنها صليب مجبر على حمله والسير به في طريق الآلام بعاطفة مستمدة من قوة جبارة لا أعلمها، الخلاصة أن هذا الشعور يكون وقعه على الذات أكثر ألما وتعسفيا من تشكله عند الآخر، فالطرف الثاني يراك متماسكا، كلي الحضور، وأنت في غاية “التشظي” والارتباك والظنون المتشردة بلا هوادة. أعتقد أن هذا هو سر الغموض. فالآخر ربما يكون مرآة للذات. أما عن فكرة الخلوة واليوقا وهذه الأشياء، فأنا أشعر بأني في عزلة مستمرة عن العالم، هذا الاضطرار الإجباري، غربتي فيه، تُشابه تماما هذا الشك بشأن كل أشيائي كما أوضحت سابقا. وأتخيل أن الإنسان في حقيقته هو باحث عن اكتشاف ذاته وتعريفها لكن الإجابات صعبة، التصورات الكلية عسيرة، الإنسان ليس بهذا الكمال المنشود، فهو منشطر حتى في تصوراته لحقيقته، ويحدث التطابق عند عوام الناس الذين في الأساس هم لا يشغلون أنفسهم بمثل هذه الأمور، لا تعبر بأذهانهم ولا تشكل لهم أي هاجس، قد يكون في ذلك راحة وخير، لسنا ندري!

< حدثنا عن عملك في سلطنة عمان وما هي مهماتك العملية وعلاقتها بنشاطك الثقافي؟

> أنا أعمل في مجال الصحافة، وهو عمل روتيني إلى حد بعيد، قد يأخذ جزءا من مشروعي وحضوري الكلي الممكن، لدي أفكار ومشاريع أسعى لأنجزها تتأخر بسبب أنني يجب أن أشتغل لكي أسيّر حياتي العادية وروتين العالم البراني، الذي من خلال أدواتي المعرفية وكتاباتي أحاول أن أعيد تشكيله أو تهشيم صورته القديمة لبناء عالم جديد يكون فيه للإنسان حقيقة معنى، ويصبح بالنسبة له الفكر هو الجوهر الكبير الذي من خلال تتحقق الإنسانية المطلقة. لا أرغب في الخوض في تفاصيل العمل لأنها قد لا تكون مهمة، غير أني أشير إلى أن عالمي الحقيقي لا ينضبط بالتوقعات الخارجية، فأنا قد أكون في حيز جغرافي أو مكاني أو زماني معين، لكني أتحرك داخل مجال آخر بفكري وتأملي، لهذا لدي قدرة شخصية اكتسبتها مع الزمن في الفصل بين الحقول الحاضرة والغائبة عندي، بين روتين الحياة وحقيقتها الافتراضية لي، دائما ما أتحدث عمّا اسميه بالواقع “البديل” الذي نحن نعيش فيه سعداء لو عثرنا عليه، وهو ليس واقعا ماديا أو له الأبعاد الزمكانية المعروفة، بل هو واقع يتشكل كما في الأحلام، لكنه حقيقي تماما، وإذا ما قبضنا عليه كان لي أن نقول بأننا سعداء بحق.

بالنسبة لي رغم روتينية الصحافة إلا أن فهم علاقتي معها وعلاقتها بمجالي الثقافي، يتطلب الرجوع إلى كيفية تشكل هذه العلاقة من الأساس، لماذا اخترت ذات لحظة أن أسلك هذا الطريق؟!

هي قصة طويلة، لكن مخلصها أنه يجب أن تمضي في هذا الدرب لكي تكون أنت هنا على الأقل إن لم تصل لأي توقع ممكن مستقبلي. بهذا أنا استفيد من جملة تجاربي سواء في تشكيل وعي أفضل لواقعي وتفكيري، ومن ثم صياغة تصوراتي المعرفية والفلسفية عن الوجود والحياة، في شكل مشاريع روائية أو كتب أو مقالات الخ.. من أشكال المعرفة الممكنة. لقد تعلمت من الصحافة أن أسرع في الإنجاز فهي عمل يومي لا يمكن تأجيله لليوم الثاني، كما اكسبتني دقة الاختيار وجرأته في التحرير والتحرر من النسق الجمعي السائد، في أنك من تشكّل في واقع الأمر الرأي العام ولو بطريقة غير مباشرة، فخيارات الصحفي في أخبار الصفحة الأولى مثلا، هي التي تصوغ رؤية الجمهور، بطريقة ما، هذا موضوع كبير أتمنى لو وجدت الفرصة لكي أكتب عن تجربتي وعلاقته به، ولكن كثيرا من الأفكار والموضوعات للأسف تضيع وسط زحمة الوقت ومشاغل الفكر والبحث عن الجديد دوما. “هذا ربي.. هذا أكبر”.

< أحسب أن طبيعة عملك قد سخرت لك سبلا متعددة للبحث عن الحقيقة أو المعرفة إن جاز التعبير. من جهة أخرى تتطلب مادة الابداع الأدبي من الطلاب أن يكتبوا أي شئ وفي أي وقت وبكثافة حتى تنمو هذه الملكة. فماذا أضافت لك مهنتك كصحفي وكاتب أقصد التمرين المستمر على الكتابة؟

> أشرت لذلك أن الصحافة لها دور في صقل العديد من الملكات عندي، لو أني اخترت الكتابة كهواية فقط ومارست عملي كمهندس معماري على الجانب الآخر، كنت سأكتب روايات مثلا أو قصص أو مقالات، لكن ذهني سوف يكون أيضا معلقا بشكل كبير بالجانب الحرفي أو المهني للهندسة، بهذا فإن خياري المبكر في أن اتجه لعالم الصحافة قد أدخلني في معركة مستمرة مع فكرة أن تكتب وبشتى الصور، أن تعيش كذلك مع زخم يومي ومتسارع من الأخبار والأفكار والتطورات على صعيد العالم، فأنت تقرأ عن مستجدات السياسة والاقتصاد والرياضة والعلوم والموضة الخ.. كل ذلك يختمر في ذهنك ويتحرك بطريقة غير مفهومة وليست مرئية، ليصاغ في شكل مشاريع فكرية أو معرفية أو كتابية من نوع ما، لهذا فإن هذا جعل انشغالاتي متنوعة وهو ما حررني من النظرة الخطية للمنتج الفكري أو المعرفي أو الأدبي، حتى في تجاربي الروائية كنت أحاول استكشاف مناطق جديدة في كل مرة، تعلمت هذا من تنويعات العمل الصحفي وطبيعته الاستكشافية. دائما ما أضع بجواري اثناء العمل مفكرة أو ورقة بيضاء أدوّن فيها على اليمين الأشياء المتعلقة بالعمل الروتيني، ما الذي يجب أن يكون في الصفحة رقم كذا من مادة، شرح هذه الصورة “الكابشن” يجب أن يتغير الخ.. فيما الجانب الثاني الأيسر من الورقة أكتب فيه مقترحات وأفكار ليست لها علاقة بما أقوم به مباشرة من عمل في تلك اللحظة، مثلا قد أتوقف مع خبر عن اعتزال ميسي للعب في ناديه برشلونة، لأكتب على الجانب الأيسر، القصة الخفية وراء ذلك.. هل يصلح ذلك لرواية، كيف يفكر العقل الاقتصادي الكروي؟.. اقتصاد كرة القدم.. كورونا هل ذات ارتباط بما جرى؟.. هكذا أفتح الزمن لأسئلة تُشكّل لي معارف جديدة من خلال البحث فيها لاحقا في خلوتي وساعتي خارج العمل الرسمي. أنا أتفاعل مع مهنتي بهذا الشكل اليومي، ومع الزمن تعلمت أن أكسر الضجر الذي تخلقه الصحافة في بدايات التعلق بها. كما قلت لك أن قصة الصحافة والكتابة والإبداع يجب أن تروى بطريقة جديدة، خاصة في زمن الانترنت والفضاءات المتعددة، حيث صار الأمر أكثر إثارة، فنحن لسنا في عصر الصحافة التقليدية، صحافة المخبرين كما عاشها أرنست همنغواي أو ماركيز.

في جانب ثانٍ فإن مهارة الكتابة تصقل مع الصحافة، وهناك من يرى العكس أن الكتابة الصحفية تفسد الأدب أو الأديب، ليصبح كاتب تقارير، غير أن هذا الرأي يجب أن يؤخذ بحذر وهو لا يعمم، فالأديب الصحفي الحاذق سيكون له القدرة على التمييز والفصل بين الأمور، كما سيضع لكل موضوع قدره الحقيقي ونصابه الذي يمضي فيه، فأنت عندما تكتب رواية يختلف عن كتابتك لتقرير أو خبر في الجريدة، برغم أنه يمكن الاستفادة من الأدوات الصحفية الآن كما في السابق في أساليب الرواية والقصص. الصحافة لها القدرة على حشد المعلومات، ربما البناء التحليلي وصناعة العقل التفكيكي للأمور، وهو لاشك يفيد الأديب والمفكر الذي يرغب في رؤية جديدة للعوالم الكلاسيكية التي تتمثل أمامه، إن عملية التحرير الصحفي أو صياغة الأخبار في نهاية الأمر هي شكل من أشكال السرديات التي نحاول من خلالها أن نسيطر على العالم والأشياء من حولنا، بحيث تتخلخل في السياسة والاقتصاد والمجتمع بكافة أطيافه ومسارات من ثقافي لرياضي الخ.. بهذا فهناك علاقات وتشابكات تنعكس على الأداء الكتابي، هي مهمة ومعقدة في ذات الآن.

< إن مجال البحث في حقل الرواية والأدب مجال عميق وأنت لك باع هام فيه وإضافات ثرّة دون أدنى شك، ياحبذا أن تحدث القارئ عن أهم ابحاثك العلمية والأكاديمية في هذا المجال؟

> كتبت عشرات المقالات حول فن الرواية، وفي الأدب عموما لي مئات المقالات التي نشرتها على مدى سنوات ممتدة في صحف ومجلات ومواقع إلكترونية، حيث بدأت النشر وأنا في الثامنة عشر من عمري، ومن ثم سرت في هذا المسار، وقد كانت أول دراسة لي مطولة نشرتها في حياتي في مجلة الخرطوم التي كان يرأس تحريرها الأستاذ عيسى الحلو الذي رحل مؤخرا، له الرحمة، وكان قد شجعني على النشر ورأى فيّ عقلا مفكرا، والدراسة كانت بعنوان “إعادة تفكير في مشروع الحداثة العربية.. الرواية العربية أنموذجا”، واعتقد أن هذه الأسئلة المبكرة لا زالت محمولة معي وأنا أفكر في هذه العوالم إلى اليوم، فهي تلك البذور التي استظل بشجرتها الآن.

لكن بداياتي سبقت النشر الصحفي أو في المجلات، حيث تعلقت بالكتابة والبحث منذ أن كنت أعدُّ صحفا حائطية في المدرسة الأولية، كذلك مساهمتي في إعداد برامج إذاعية ثقافية في الإذاعة المحلية، كل ذلك طوّر من علاقتي بالكتابة ومهارات البحث والتقصي. وأتذكر وأنا في السنوات الأولى بالمدرسة كنت أكتب كلمة صباحية أقدمها في الطابور، كان ذلك في السنة الخامسة الابتدائية، وفي كل يوم يكون أمامي البحث عن موضوع جديد أسطره في صفحة وأقوم بقراءته أمام زملائي من الفصول والمعلمين في الساحة الصباحية. أعتقد أن كل ذلك ساعدني وساهم في تكويني بشكل أو بآخر.

في الرواية أصدرت كتاب “الرواية العربية رحلة البحث عن المعنى”، الصادر عن وزارة الثقافة في قطر عام 2008 وهو محاولة من منظور ذاتي لفهم النسق الذي قامت عليه الرواية العربية في رحلتها من البواكير إلى اللحظة، هذا بالإضافة إلى دراسات كثيرة حول الرواية والعولمة والأنساق الجديدة في كتابة الرواية، آمل أن أجمعها في كتب مستقبلية، وهذه السلسلة من الحوارات التي نجريها معا هي جزء من مشروع مهم بنظري في النظر إلى الفكر الروائي المعاصر وأبعاده على حياتنا الإنسانية بشكل عام، حيث نعيد تأمل قضايا لا يمكن التفكير فيها بالكتابة من طرف واحد، وهذه هي ميزة الحواريات. أيضا لدي مجموعة من الفيديوهات المسجلة على موقع اليوتيوب التي تتحدث عن فن الرواية وكتابة الرواية وتاريخها وغيرها من الإضاءات في هذا الجانب.

بالنسبة للمقالات الأدبية المتعددة، فأني أتمنى أن أجد لها ناشرا يؤمن بهذا المشروع لكي أنشرها في سلسلة كتب مصنفة حسب الموضوعات التي تعالجها، من فن الرواية للقصة إلى الخواطر، إلى كتابات حول الإبداع والذاكرة والعقل والكتابة الخ.. من موضوعات عديدة. وهنا أشير إلى سلسلة أسبوعية ثقافية بحتة كتبتها في صحفية الوطن القطرية على مدار ثلاثة أعوام باسم “عكازة الريح” كنت أعالج فيها موضوعات وقضايا أدبية وفنية وثقافية عامة، بأسلوب أدبي. كذلك كتبت زاوية باسم عصف كانت يومية لحوالي عامين بذات الصحيفة، وهي تعالج الأنساق السياسية وشتى صور الحياة المتداخلة بمدخل أدبي وثقافي وليس رؤية سياسية فجة.

< تدرّس بعض أبحاثك في بعض المؤسسات العلمية والأكاديمية العليا. كيف حدث ذلك، وكيف عرفت أن بعض الجامعات جعلت منها مقررات إلزامية لطلاب الدراسات العليا؟

> صحيح. مثلا كتاب “الرواية العربية رحلة البحث عن معنى” يدرس بجامعات في الجزائر، مثل كلية الآداب واللغات بجامعة حمه لخضر الوادي في الجزائر، وعرفت الأمر صدفة، وفيما بعد تواصلت مع الرجل الذي كان سبباً في هذا الاختيار لتدرس الكتاب لطلبة الماستر وعددهم كان حوالي 130 في عام 2016، وهو الدكتور يوسف بديدة الذي أشاد بالكتاب واعتبر أن اختياره جاء لما يتميز به من جدية وجديد في الطرح، وأنه كتاب نقدي يؤرخ لمسيرة الرواية العربية المعاصرة في شكل مبسط يمكن أن يفهمه عامة القراء، ويفيد المنهج الأكاديمي.  وقد نتج عن هذا المشروع اهتمام لدى الطلبة بمؤلفاتي الأخرى فتم التواصل معي لمشاريع أخرى أنجزت مثل دراسة ماجستير حول “المكان في رواية ماما ميركل”.

كذلك كان هناك اهتمام في مؤسسات أكاديمية تركية بروايتي “شاورما” ربما لأن جزءا منها يحكي عن التجربة التركية في تقاطع مع الواقع السوداني، ففي الرواية رجل تركي يعيش في السودان يتبنى صبيا سودانيا ويساعده في تغيير واقعه للأفضل، ليصبح أبا بديلا برغم أن أباه الحقيقي موجود لكن الابن ضحية عائلة مفككة، والمهم أن طالبات تركيات اهتممن بالرواية وعملت حولها مناقشات أكاديمية وعروض في حلقات عمل، وثمة مشروع ترجمة يجري الآن بواسطة طالبة تركية. أيضا يجري تدريس فصول من رواية “القط المقدس” في جامعات أمريكية وتقرأ “ماما ميركل” بالفرنسية على لاجئين في معسكرات الانتظار، وغيرها من مسارات انفتاح التجربة والنص على الآخر. برغم إيماني بأن الاستجابة تتطلب وقتاً وينبغي الصبر في إطار المشاريع الفكرية والأدبية عموما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق