ثقافة وفن

عندما بكى كافكا

محمد الباسط

«إنه يبكي في الليل، لقد سمعته بأذني لكنه يحافظ على مظهر الصلابة والقسوة ولقد أفقده الضعف صوابه» فيودور دوستويفسكي.

هل كان بمقدورنا حقا اكتشاف عبقرية فرانز كافكا لو أن صديقه ماكس برود نفذ الوصية وأحرق جميع الكتب؟ هل كان الكاتب ألبير كامو ليكتب رواية «الغريب» بعد احتساء قهوته المعتادة لولا تأثره بكاتب «المسخ»؟

مما لا شك فيه أن نخبة كبيرة من الأدباء تأثرت أيما تأثر بأسلوب كافكا في الكتابة، كتابة تبدو للوهلة الأولى في متناول الجميع إلا أن محاولة تأويلها يجعل القارئ في حيرة من أمره بل ويجد نفسه أمام سد منيع لاستيعاب فحواها.

لعل أهم الأدباء الذين انبهروا بأسلوبه (أسلوب كافكا) ألبير كامو الذي أسس فلسفة العبث انطلاقا من تأثره الكبير والملحوظ بفلسفة كافكا في الحياة. إضافة إلى كاتب رواية «الطاعون» هناك أدباء آخرون شكلت الكتابة العجائبية لكافكا مصدر إلهام بالنسبة إليهم ولعل أبرزهم النمساوي ايشينغر والبرازيلي غابرييل ماركيز غارسيا، فحسب المتخصص في أدب كافكا الأستاذ جيريمي ادلر لم يكن اهتمام هؤلاء الأدباء بطريقة كافكا في الكتابة مجرد صدفة وإنما كان وليد تقارب إن لم نقل تطابق الرؤى بينهم وبين هذا الأسلوب الغريب الفذ في تجسيد عبثية الوجود والبحث الدائم عن معنى للامعنى. بعد قراءته لرواية «التحول»، صرح الكاتب غارسيا بأن هذه الأخيرة كانت بمثابة النبراس الذي أرشده إلى الكتابة بطريقة مختلفة ومغايرة.

شكل كافكا منذ نعومة أظافره استثناء في الوسط المحيط به، فكان كبركان لم ينفجر إلا بعد وفاة والده المتسلط والمستبد. لم يكن هذا الكاتب إنسانا عاديا كباقي الناس وإنما نموذجا للأديب الذي لعن وجوده قبل تصوير عبثية الوجود الإنساني، فهو كان يسخر من نفسه قبل السخرية من شخوص رواياته.

حياة كابوسية

لا يمكن فهم أدب كافكا إلا بالرجوع إلى نشأته وطفولته التي شكلت منعطفا حاسما في نزوعه إلى هذا الأسلوب العجائبي في الكتابة الأدبية. هذا النوع من الكتابة المتسم بالسهل الممتنع يعكس إلى حد كبير ترسبات الكثير من المشاكل النفسية التي ولدت لدى كافكا إحساسا بالدونية واللاشيئية والتهميش. لطالما كان هذا الأخير يشعر بأنه كائن منبوذ وتافه لا أهمية له في المنزل، حاله حال الفيلسوف المتشائم شوبنهاور والشاعر الأمريكي ذو النزعة التشاؤمية إدغار ألان بو. كان كافكا وإدغار ألان بو منبوذين ومحتقرين من طرف والديهما رمزا التسلط والعنف، في حين كان أبو الفلسفة التشاؤمية منبوذا من طرف أمه. ولا عجب أن يكون هذا الإقصاء وقود أدب كافكا وحجر أساس شاعرية ألان بو ومصدر إلهام فلسفة شوبنهاور. لم تنته معاناة كافكا النفسية بوفاة والده، وإنما بقيت صورة ذلك الأب المتسلط تطارده كل يوم، فقبل أن يغادر كافكا هذا العالم بسنوات قليلة كتب رسالة إلى أبيه هيرمان في عام 1919 بعنوان «أبي الأعز». في هذه الرسالة، يحاول كافكا أن يوفر تقريرا كاملا عن الكيفية التي أصبح بها هكذا، فإن غطرسة أبيه وخشونته هي التي أحبطت تقدمه في كل منعطف في حياته.

«أنا شخص لا مبال تماما ومثير للشفقة، بئر عميق والماء فيه على عمق يستحيل الوصول إليه ولا شيء يؤكد ما إذا كان هناك ماء في الأصل، لا شيء، لا شيء. ما الذي هناك ليربطني بالماضي أو بالمستقبل؟ الحاضر شبح يعبر عني، فانا لا اجلس إلى الطاولة بل أحوم حولها، لا شيء خواء، ملل، لا ليس مجرد خواء بل ضعف بلا أي معنى.»

هكذا عبر كافكا عن ذاته معتبرا وجوده بلا معنى وبلا قيمة. إن حياته تجسيد لمأساة الوجود الإنساني في هذا العالم الذي لا رحمة فيه ولا شفقة، فرغم أنه كان يسخر من كتاباته ويضحك حتى تدمع عيناه عندما يقرأ مسوداته على مسمع أصدقاءه، إلا أن القارئ كان يراها (كتاباته) تصويرا للحياة الكابوسية التي تخضع الإنسان لقوانينها بالقوة. إن كافكا مثال للضاحك الباكي في الأدب الألماني كما قال الروائي توماس مان. اعتزل كافكا – وهو في ريعان شبابه – العالم المليء بالنفاق والكذب فلم تكن في نظره الحياة إلا حربا : حرب مع النفس وحرب مع الظروف وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف.

لم يكن المحيط الأسري وحده فقط من أدى إلى ميلاد فلسفة العبث التي جسدتها كتابات كافكا وإنما كان للنازية الألمانية النصيب الأوفر في هذا التحول الذي طرأ في حياته، فقد كان النازيون ينظرون إلى كافكا على أنه كائن منحط ويوصون بعدم قراءة أعماله بل ويحرقونها أمام الملأ. وهكذا صور أتباع النازية كافكا على أنه مسخ وجب سجنه في قلعة بعيدة عن المجتمع ومحاكمته رغم غياب الأدلة. لم تتوقف معاناة كافكا عند العنصرية النازية أو العنصرية الأبوية التي تركت في كيانه وصمة لا تمحى، وإنما كانت حياته العاطفية أيضا سببا في ألمه، فعلاقته المستحيلة مع حبيبته «ميلينا» التي ترجمت روايته الأولى «الوقاد» لم تكن ذلك الترياق أو البلسم الكافي لشفاء جروحه الأبدية، بل كانت في ظاهرها حلما جميلا وفي باطنها كابوسا قاتلا. لقاء أو بالأحرى لقاءان كانا كافيين بالنسبة إلى كافكا كي يتخذ من «ميلينا» وثنا يبجله ليل نهار. بالرغم من حبه بل عشقه الكبير لها، كان كافكا مقتنعا تماما أنه لن يكون ذلك الفارس الذي سيجلب لها السعادة، ففي إحدى رسائله لها أعلن بكل جرأة عن هذا الحب المستحيل قائلا :

تتوهمين، فلن تستطيعي البقاء إلى جانبي مدة يومين…أنا رخو، أزحف على الأرض، أنا صامت طوال الوقت، انطوائي كئيب، متذمر، أناني وسوداوي. هل ستتحملين حياة الرهبنة، كما أعيشها؟ أقضي معظم الوقت محتجزا في غرفتي أو أطوي الأزقة وحدي.»

إن هذا المقطع الوجيز من الرسالة كاف لتبيان التعاسة التي كان يعيشها كافكا في حياته العاطفية. هل كان يا ترى حبا من طرف واحد؟ بالطبع لا، فبالرغم من أنها كانت متزوجة من رجل أخر إلا أن ميلينا كانت تبادل كافكا نفس الشعور، بل كانت على أتم استعداد للتضحية بكل شيء في سبيل العيش معه، غير أن انطواء  ونفور هذا الأخير من المجتمع حال دون ذلك. لم تنحصر معاناة كافكا في مشاكله النفسية والعاطفية فقط وإنما كان التعايش مع داء السل أحد الأسباب التي أثرت سلبا على نفسيته ليموت بعدها مخلفا وراءه عددا من المؤلفات التي ألح في وصيته لصديقه ماكس برود بعدم نشرها إلا أن هذا الأخير أخلف الوعد وأخرج للعلن هذه الكتابة الفذة التي غيرت نظرة الإنسان للوجود.

كتابة كابوسية

لعل الكتابة الكابوسية التي عرف بها فرانز كافكا كانت كافية لتصوير الحياة وهي تسحق الإنسان حتى تفقده إيمانه. لا تكاد هذه الكتابات تخلو من تلك الرؤية التبخيسية لقيمة الإنسان في هذا العالم الذي يئن تحت وطأة نظام البيروقراطية المعقد بحيث يصعب بل يستحيل تواصل الأشخاص العاديين مع الأشخاص المهمين. إن أول رواية تجسد لنا جليا دونية الإنسان في المجتمع وهيمنة الفردانية هي رواية «التحول أو المسخ». إن اختيار كافكا لشخصية مثل غريغور سامسا لم يكن اعتباطيا أو مجانيا وإنما كان انعكاسا للتهميش الذي عاشه في صباه. كما أن قارئ هذه الرواية سيلاحظ بوضوح التشابه الحاصل بين حياة بطل الرواية وبين الكاتب، وكذلك التقارب الحاصل على مستوى اسميهما الخاضعين لنفس الوزن «كافكا» //»سامسا». إن مفتتح الرواية في حد ذاته يجعل القارئ متحمسا لمعرفة بقية الأحداث :

«أفاق غريغور سامسا ذات صباح ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة كبيرة (ضخمة) كريهة.»

إن ذلك العامل البسيط التابع لشركة المبيعات والذي يعمل ويكد جاهدا حبا في توفير حاجيات أسرته الصغيرة سيجد نفسه بين ليلة وضحاها قد فقد كل خصائصه الإنسانية وصار مختزلا في جسد حشرة حقيرة.

بعدما كان المعيل الوحيد لأسرته، أصبح فجأة حبيس غرفة صغيرة غير قادر على الحركة أو الكلام. إن هذا التصوير الذي قام به فرانز كافكا لحياة الإنسان المسحوق والمقهور يبرهن على تسلط البيروقراطية التي تستعبد الفرد وتحوله إلى نكرة مجردة من كل قيمة إنسانية، فضغوط العمل التي كان يتعرض لها سامسا من رؤسائه جعلته يتحول إلى آلة بشرية هدفها تحقيق الأرباح لا إلا، آلة يتم التخلي والاستغناء عنها بمجرد تعرضها لعطب أو خلل تقني. هذا التسلط لا يقتصر على السياسة التي ينهجها النظام البيروقراطي فقط وإنما يشمل أيضا الفردانية التي تطغى على المجتمع ككل. إن تحول سامسا إلى حشرة كشف الغطاء عن حقيقة الغير إذ لم يعره أبواه أدنى اهتمام كما أنهم لم يشفقوا على حاله بل تركوه حبيسا في تلك الغرفة اللعينة دون طعام أو شراب، اللهم بعض الفتات الذي كانت تقذف به أخته «غرته» من تحت الباب. حياة تحولت فجأة إلى مأساة، إلا أن هذه المعاناة لم تدم طويلا، فبمجرد موت سامسا استعادت الأسرة بهجتها وسعادتها وكأنها تخلصت من وصمة عار كانت تنكد عليها حياتها.

إن هذه النظرة الاقصائية الحاضرة في هذه الرواية المعبرة عن انحطاط الذات الإنسانية، ستجد صداها في الفن السابع وخصوصا في الفيلم الأمريكي «الجوكر» الذي أعده المخرج الأمريكي «تود فيليبس». خلق هذا المخرج السينمائي شخصية شبه مطابقة لغريغور سامسا وهي شخصية «آرثر فليك» التي خلقت ضجة في العالم نظرا لتجسيدها عبثية الوجود وتفاهة الحياة. كغيره من المعذبين في الأرض، يتعرض آرثر فليك والذي يشتغل مهرجا في إحدى شركات الإعلانات لاعتداء من طرف بعض المنحرفين نتج عنه كسر اليافطة التي تعد إحدى وسائل عمله الضرورية. تصرف كهذا سيدفع مدير العمل إلى طرد آرثر من الخدمة ليجد نفسه عاطلا عن العمل وهذا ما سيفاقم من مشاكله المادية نظرا لالتزامه باقتناء الأدوية لأمه المريضة. هذه الحياة البئيسة في هذا المحيط البئيس، ستدفع بطل الفيلم الذي يعاني من مرض «الضحك اللاإرادي» إلى البحث عن طريقة للخلاص من هذه الحياة. أول شيء فكر فيه آرثر فليك هو قتل بعض المتطفلين الذين يعكرون صفاء الحياة بدم بارد ومن ثمة إعلان التمرد على التسلط والاستبداد. لا يعدو الجوكر أن يكون جزءا من ذواتنا، ففي كيان كل فرد منا ذلك الوحش الذي نسعى جاهدين لكبحه وإلجامه لأن تحريره من قفصه ينذر بكارثة لا تحمد عقباها. إن الجرائم التي اقترفها الجوكر كانت نتيجة تراكم مشاكل نفسية عديدة، فهو كان يرى دوما حياته خالية من أي معنى وهذا يتضح من خلال العبارة المدونة في إحدى مذكراته الشخصية التي يحملها معه أينما حل وارتحل : «يا ليت موتي يكون منطقيا أكثر من حياتي».

إن هذه النظرة السوداوية للوجود المتسم بالعبثية هي التي سيعبر عنها الكاتب ذو الحس الفلسفي ألبير كامو في رواية «الغريب» وذلك من خلال شخصية «مورسو» الذي يتعامل مع أحداث الحياة بكل برودة دم غير مكترث لأي شيء، فالحياة في نظره لا تستحق أن نحملها على محمل الجد بل لا تستحق أن تعاش من الأصل. إن تصور مورسو عن الحياة ينعكس في ردة فعله بعد علمه بوفاة والدته وكذا تصرفه اللامبالي الذي أبان عنه أثناء جنازتها. علاوة على هذا، يبقى قتل مورسو للعربي هو التصرف الأكثر إثارة إذ ينم عن ردة فعل تفتقد للمنطق، فهو يبرر فعله الجرمي بتأثير أشعة الشمس على رؤيته، إذ لم يشعر بالرصاصة إلا وهي تنطلق من فوهة المسدس عن غير قصد. فرضا أن الرصاصة الأولى أصابت جسد العربي عن طريق الخطأ، فماذا سيكون مبرر الطلقات الأربع الأخرى التي استقرت في جسد الضحية؟ هل كانت هي أيضا ناتجة عن مؤثر خارجي آخر؟

إن تمرد مورسو على القوانين سيظهر بوضوح في جلسة محاكمته التي بخسها أيما تبخيس مضفيا عليها طابع التفاهة إذ أن القضاة في نظره تافهون فعوض استجوابه حول حيثيات قتله لذلك العربي شرعوا في عتابه عن عدم تأثره بوفاة والدته.

في روايته بعنوان «المحاكمة» عمل فرانز كافكا على تجسيد عالم يعيش تحت هيمنة البيروقراطية، وهذا يتضح من خلال سعي بطل الرواية جوزيف k لتبرئة نفسه من جرم لم يقترفه بل لا وجود له من الأساس باحثا عن من قد يكون مفتاح حريته. إن بداية القصة تلخص للقارئ العبثية واللامعنى الذي يطغى على الحياة :

«لا بد أن يكون احد ما قد لفق الأكاذيب ضد جوزيف k، فقد أوقف ذات صباح مشمس مع انه لم يقترف أي جريمة».

إن التحقيق الذي تعرض له بطل الرواية لا يرتكز على أي دليل من الأدلة التي قد تجعل من هذا الأخير محط شبهات. والغريب في الأمر أن المحققين أنفسهم لا يتوفرون على سبب مقنع ومنطقي لإيقاف جوزيف k. ومن هنا تبدأ قصة جوزيف الذي سيجد نفسه تائها لا يعرف من أين يبدأ وإلى أين ينتهي. إن الطريقة التي صور بها كافكا جهاز القضاء تعكس الانحلال الأخلاقي وتفشي الانتهازية والنظرة الدونية التي يتعرض لها الناس العاديون في مواجهة قوى البيروقراطية التي تدوس على الذوات البشرية الضعيفة بكل برودة دم. في خضم هذا التوتر الذي طبع حياته، لن يجد جوزيف خلاصه إلا في الموت، ففي نهاية الرواية سيعود الرجلان أنفسهما إلى بيت جوزيف ليأخذاه إلى مكان مهجور (كهف خارج المدينة)  ويزيلان ملابسه ويضعان رقبته بجوار صخرة ويتبادلان مهام تنفيذ الجريمة لينتهي المطاف بغرس السكين في قلب جوزيف الذي وصف حالة احتضاره بحالة كلب حقير.

إن الصورة التي رسمها كافكا عن الوجود الإنساني في أعماله الأدبية كلها كانت كافية و وافية لرفع الغشاوة عن حقيقة الحياة المزيفة. واهم من يظن أن فكر كافكا انتهى بمجرد وفاته، وإنما أفكاره غدت كالجينات التي لا تكاد تخلو منها ذات بشرية. شئنا أم أبينا، فروح كافكا تسكن كيان كل فرد منا، ففي كل بقعة من هذه البسيطة يوجد توأم لكافكا تارة منزو في ركن ما يبكي على حاله وحال أبناء جلدته، وتارة يمشي أثناء الليل وحيدا تائها فاقدا للبوصلة بدون هدف محدد. هكذا بكى كافكا وهكذا سيبكي كل من حلت به لعنة كافكا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق