
اشهد يا عالم علينا وعليهم … أمريكا تشتري الشركة المنتجة لـ«بيغاسوس»
عبد العزيز كوكاس
«لا تغشنك دموع التماسيح، فالتمساح يذرف الدموع بعد أن يلتهم فريسته»
هنري جيمس
نشرت ثلاث صحف دولية كبرى هي الواشنطن بوست الأمريكية The Washington Post والغارديان البريطانية The Guardian وهاريتس الإسرائيليةHaaretz ، أن الشركة الأمريكية العملاقة المبتكرة في مجال الطيران والدفاع وأنظمة المعلومات L3Harris Technologies تعتزم الاستحواذ على شركة NSO Group الإسرائيلية المنتجة لبرنامج بيغاسوس للتجسس المثير للجدل.
الخبر لم يلتفت إليه الكثيرون، حتى داخل المغرب الذي اتهم من طرف بعض الجرائد بامتلاك هذا البرنامج وباستعماله في التجسس على زعماء دول أوربية، في الوقت الذي نفى فيه المغرب ومعه الشركة المنتجة لبرنامج التجسس امتلاكه لهذه التقنية الاستخباراتية المتطورة.. ما المثير في هذا الخبر؟
لنعد ترتيب الوقائع كما حدثت لنفهم كيف تتحرك الدول العملاقة وأساليب الخداع والمكر التي تلجأ إليها لحماية مصالحها بغض النظر عن القيم والمبادئ الأخلاقية والشعارات التي تغلف بها سلوكاتها الحربائية لامتلاك كل أدوات السيطرة على العالم بما فيها تلك التي تجرمها قانونيا اليوم وقبل أن تغيب الشمس ترتد عليها وتبيح لنفسها ما شنت بسببه حربا على غيرها باسم الحرية والقوانين و…
صفقة استحواذ الشركة الأمريكية العملاقة على الشركة الإسرائيليةNSO لم يتم الانتهاء منها بعد وتحتاج إلى الموافقة وجواز التأشير من قبل إسرائيل والولايات المتحدة ومجلس إدارة L3Harris وفقا للتقرير المشترك لصحيفة هآرتس وواشنطن بوست والغارديان، وهو ما سيمر بلا ضجيج رغم الإشارة إلى أن البيت الأبيض يشعر بالقلق من أن أي صفقة لشراء NSO ستثير مخاوف جدية بشأن مكافحة التجسس والأمن.
كيف أن الشركة الإسرائيلية بلغت إيراداتها السنوية حوالي 40 مليون دولار في عام 2013 وتضاعفت أرباحها ما يقارب أربع مرات إلى 150 مليون دولار بحلول عام 2015. في يونيو من عام 2017 تمّ طرحُ الشركة للبيع بمبلغ مليار دولار من قبل مالكتها شركة فرانسيسكو بارتنرز مانجمنت، وتمّت الصفقة في عام 2019. التي رفعت أرباح NSO إلى معدلات خيالية بفضل برنامج بيغاسوس للتجسس، وبحسب التحقيق الذي سبق أن قامت به صحيفة هآرتس، فقد بلغ إجمالي قيمة العقود التي وقعتها «NSO» مع السعودية والبحرين وعُمان وأبوظبي مئات الملايين من الدولارات، فاقت 250 مليون دولار في عام 2021، شركة قفزت إلى كل هذه المداخيل، كيف أصبحت فجأة مفلسة ولا تجد ما تؤدي به أجور موظفيها؟ ما اللغز المحير هنا؟
إنها القوى المالية الكبرى والشركات العملاقة المتحكمة في القرار السياسي في الدول الكبرى، فجأة أصبحت شركة المراقبة، التي تصنع برنامج بيغاسوس، في دائرة الضوء والهجوم الإعلامي والحقوقي والسياسي باسم حماية الحرية وصيانة حقوق الإنسان من التجسس، حيث تم الكشف الانتقائي والاحتيالي بكون بعض الدول الصغيرة وبعض الوكالات المنافسة استخدمت أدوات بيغاسوس للتجسس على الهواتف المحمولة للأشخاص والمسؤولين.. واستخدمت في هذه المعركة الاقتصادية والسياسية الكبرى منظمات حقوقية لها مصداقيتها ومؤسسات إعلامية وازنة، والشص الذي ابتلعته سهل جدا، دول صغرى يمكن المنازعة في لا ديمقراطيتها ويصعب عليها الدفاع على نفسها حتى في حالة براءتها، وولدت سرديات جاهزة تتمحور حول حقوق المعارضين وحماية الحياة الخاصة للناس وحرية التعبير، بل وتم خلق تشابكات وصراعات بين دول بعينها من الشمال ودول من الجنوب لصالح من حرك القضية في الأصل.. لم يقف الأمر عند هذا الحد.
ففي إطار صراع الكبار تم تسريب معطيات سرية للصحف حول العديد من الدول خاصة في الخليج التي عرفت علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية توترات بعد صعود بايدن إلى البيت الأبيض وزادت حدتها مع الهجوم الروسي على أوكرانيا، وفي مقدمتها الإمارات والسعودية وتم تأثيث اللائحة بدول أخرى مثل باكستان وسلطنة عمان ومملكة البحرين وأخرى للتعويم، ولم تتم الإشارة إلى دول كبرى من مثل بريطانيا التي اشترت هذه البرمجيات من شركة «NSO»، ومن ضمن هذه المعطيات أن هناك طاقما متخصصا في دول الخليج العربي، يحمل أعضاؤه جنسيات أجنبية، يعمل على التفاوض مع دول خليحية وإمارات عديدة لشراء بيغاسوس، وكيف أن الشركة تستخدم في وثائقها رموزا سرية مكونة من الحرف الأول المشترك بين اسم الدولة ونوع سيارة، فالسعودية تُسمى «Subaru»، والبحرين «BMW، وكيف أن المنتوج الاستخباراتي الذي تبيعه شركة «NSO» بعشرة ملايين دولار في أوروبا، تبيعه بعشرات الأضعاف إلى دول الخليج.
وفي نوفمبر الماضي، قررت الولايات المتحدة سلسلة من العقوبات ضد الشركة التي لديها رخصة تصدير إسرائيلية لبرامجها، يحظر على الشركات الأمريكية شراء أو بيع المنتجات أو الخدمات لمجموعة NSO، بل تم دفع متضررين مفترضين لرفع دعوى ضد آبل و»إن إس أو» باعتبار أن الشركة الإسرائيلية انتهكت قوانين الولايات المتحدة من خلال اختراق البرنامج المثبت على أجهزة أيفون. والغريب إذا كانت الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية من خلال التحقيقات التي أجرتها، قد أظهرت أن الدبلوماسيين الأمريكيين، الذين استخدموا الهواتف من الدولة التي يعملون فيها، قد تم التجسس على هواتفهم المحلية ببرنامج بيغاسوس، كيف اكتفت بحضر التعامل مع الشركة الإسرائيلية الوسيطة فقط؟
الخطة إذن واضحة، دفع الشركات العملاقة المتحكمة في الحكومات والمؤسسات الإعلامية الكبرى وحتى بعض المنظمات الحقوقية ذات المصداقية، لشن حملة شرسة ضد برمجيات الشركة الإسرائيلية وفرض العقوبات الأمريكية والأوربية على مجموعة NSO التي وجدت نفسها بعد يسر وخير عميم في وضع اقتصادي صعب للغاية. يهدد الشركة بعدم قدرتها على سداد ديونها المقدرة بنحو 450 مليون يورو، بل وجدت المجموعة نفسها تواجه صعوبة دفع رواتب عامليها. مما جعل مالكي مجموعةNSO ، بما في ذلك صندوق Novalpina Capital ، يسعون لبيع الشركة، لا سيما من خلال تقييم فرعها المتخصص في الطائرات بدون طيار. ويذكر أنه في 13 يونيو كشف موقع «إنتليجنس» المتخصص على الإنترنت أن شركة الدفاع الأمريكيةL3Harris ، التي تنتج أنظمة اتصالات للجيش الأمريكي كانت تفاوض للاستحواذ على مجموعة NSO وامتنعت الشركة عن التعليق على المعلومات قائلة إنها «تكهنات»، اليوم لم يعد الامر مجرد تكهنات بل حقيقة واقعة.
من المفترض أن تمرير صفقة الاستحواذ على مجموعة NSO تحت العلم الأمريكي يتعارض بشكل مباشر مع السياسة التي تنتهجها إدارة بايدن بشأن موضوع برامج التجسس. ومع قرارات مجلس الأمن القومي الأمريكي الذي فرض حظرا شاملا على شراء وبيع برامج التجسس التي «تشكل خطرًا على الأمن القومي أو أسيء استخدامها في الخارج».
لكن هل شركة L3Harris التي لا تعمل إلا مع الولايات المتحدة وحلفائها، يمكن أن تقدم على مغامرة شراء شركة موضوع جدل ومحظورة في أمريكا بقرار سياسي وأمني بدون ضمانات؟ هل يمكن لشركة ضخمة لها عقود كبرى مع البانتاغون والوكات الاستخباراتية الأمريكية أن تقامر بشراء شركة مفلسة وبدون سوق مربحة؟ يلزمنا الكثير من البلادة -التي لحسن الحظ لا نتوفر عليها- لنؤمن بهكذا استنتاج.
إن الأمر لا يخرج عن أحد أمرين:
فإما أن جون بايدن وباقي السياسيين هم واجهة فقط للنافذين العمالقة من الشركات الاقتصادية والأمنية الكبرى، لذلك حاول البيت الأبيض بشكل محتشم في 14 يونيو الماضي أن يصرح بأنه يشعر «بقلق عميق» بشأن خطة الاستحواذ على شركة NSO Group الإسرائيلية من قبل مجموعة أمريكية؟
وإما أن إدارة بايدن نفسها جزء من هذه التوجهات البراغماتية غير النبيلة، التي تسعى إلى الدفاع عن مصالحها والتفوق في صراعها مع روسيا والصين من أجل امتلاك وسائل القوة والنفوذ.. وفي مقدمتها الحصول على المعلومة، وليس هناك أقوى من برنامج التجسس «بيغاسوس»، وكان بايدن قد عبر عن نفور بيّن من ولي العهد السعودي بن سلمان بعد قضية مقتل خاشقاجي، ثم ها هو اليوم يضع السعودية في مرماه في زيارة تاريخية للرياض، لكن في كلتا الحالتين يشير الأمر إلى توغل السياسة في وحل المصالح المالية الكبرى، وأن كل شعارات حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات و»بلا.. بلا.. بلا» مجرد فيترينة للتزيين الخارجي والاستهلاك المحلي والإلهاء ليس إلا. إذ تشير كل التقارير الأمريكية أنه بعد الموافقة على الصفقة، ستتم إزالة مجموعة NSO من القائمة المحظورة مباشرة بعد شراء أصولها.