ثقافة وفن

مريد البرغوثي … كتابة فلسطين الجديدة

صبري حافظ 

يأتي رحيل مريد البرغوثي (1944 – 2021) بعد ستّ سنوات من رحيل زوجته ورفيقة دربه رضوى عاشور (1946 – 2014) كنوعٍ من التذكير المُستمر برحيل زمن مغاير، يبدو الآن بعيداً ومتنائياً. وهو رحيل يقترب معه الموت بخطوه الدؤوب ممَّنْ بقي من أبناء هذا الجيل، جيلي، الذي كان مترعاً بالحياة، مليئاً بالرغبة في تغيير المُستقبل.

لكن المُستقبل لم يأتِ له بغير الكوارث، التي بدأت مع تفجُّر رغبته في العطاء بنكسة عام 1967 المُروِّعة. وأمضى الشطر الأكبر من حياته يرفض ما جلبته النكسة من هزائم متلاحقة، ويَدُعّ عن نفسه تلاحُق النكسات التي تتابعت عليه على مرِّ العقود، ويقاومها كلّ بطريقته. صحيح أن الطرق قد توزَّعت بأبناء هذا الجيل -ككلّ الأجيال التي سبقته منذ انشقت الحركة الثقافيّة عقب الثورة العرابية، إلى أحفاد عبدالله النديم في ناحية، وأبناء علي مبارك في ناحية أخرى- فكان منهم مَنْ قاوموا وحافظوا على شعلة الثقافة الحرّة المُستقلة حيّة ومضيئة، وكان منهم أيضاً مَنْ آثروا الانخراط في مؤسَّسة الانحطاط والتسلُّط والتدهور والهوان، وأصبح بعضهم مجرَّد مخبرين لها، وعيوناً على مَنْ فضَّلوا انتهاج طريق عبدالله النديم الصعب والمُوحش أحياناً.

وكما هو الحال في كلّ جيل أيضاً، كانت هناك قصّة حبّ جديرة بالاهتمام، هي قصّة حبّ رضوى عاشور ومريد البرغوثي في جيلنا. ومن مفارقات رحيل مريد أنه رحل يوم عيد الحبّ 14 فبراير/شباط وكأنه يذكِّرنا من جديد بأجمل قصص هذا الجيل. وهي القصّة التي جسَّدت الكثير من القيم الإيجابيّة التي حرص مثقَّفو هذا الجيل الأنقياء على الالتفاف حولها: استقلال المُثقَّف في الرأي والاختيار، وحرصه على أفقه العربيّ، وتمسُّكه بالقضية الفلسطينيّة كقضية لا تنفصل بأي حالٍ عن القضية المصريّة أو العربيّة من ورائها. لأن رضوى واجهت من البداية اعتراض أسرتها على قرارها الشخصيّ بالارتباط بفلسطينيّ. وواجهت أسرتها والواقع القديم من ورائها بالتمسُّك بمَنْ قرَّرت الارتباط به، بل وتكريس جزء كبير من حياتها الثقافيّة العامّة للقضية الفلسطينيّة التي كان مريد تجسيداً ناصعاً ومستقلاً أيضاً لمرحلة الشتات فيها. وواصلت النضال من أجل هذه القضية -وهي القضية التي تمسَّك بها أبرز مثقَّفيّ جيل الستينيّات- لدرجة يمكن أن نقول معها إن إسهامها في الحفاظ عليها حيّة ومتقدة لا يقلّ عن إسهامه، وخاصّة عبر ثلاثيتها المُهمَّة (غرناطة) وروايتها (الطنطورية) التي كتبت الممحي، وأقامته حيّاً وناصعاً في وجه المُحتلّ. وكتبت معه بطولة المرأة الفلسطينيّة في جلدها وحفاظها على وطنها وشعبها.

فعلاقة رضوى ومريد، رغم أنها على المُستوى الإنسانيّ علاقة أسرة بسيطة وجميلة في مواجهتها لما تطرحه عليها الحياة من مسرات وأوجاع، تكشف على مستوى آخر، وبسبب التزام رضوى الثقافيّ وقدرتها الفذة على تجسيد هذا الالتزام إبداعيّاً عن علاقة مصر وفلسطين. وفي زمن عانت فيها تلك العلاقة من أبشع أشكال التدهور والتدمير.

لغة شعريّة فريدة لعَالَم مُغاير

لكن إنجاز رضوى في هذا المجال لا يطغى على ما قدَّمه مريد هو الآخر من إبداع وإضافة إلى قضيته، وإلى جدليّة العلاقة المُهمَّة والجوهريّة بين مصر وفلسطين أيضاً. والواقع أن من الصعب في مقالٍ قصير كهذا الحديث عن إنجاز مريد في مجال الشعر الذي كتب فيه أكثر من عشرة دواوين، يستحق كلّ منها دراسة مستقلّة. خاصّة وأنني لازلت أذكر بوضوح يوم أن صحبت مريد إلى مبنى الإذاعة في ماسبيرو -ولماسبيرو ذكريات بهيجة وأخرى موجعة- للحديث عن ديوانه الأول «الطوفان وإعادة التكوين» عقب صدوره. وكيف أنني ركَّزت في حديثي معه عن ديوانه على نجاحه -منذ بدايات مسيرته الشعريّة- في ألّا يسقط تحت ظلّ شعراء المُقاومة في الأرض المُحتلّة، وكانوا قد استأثروا وقتها بالمشهد الشعريّ. وأن يخلق قصيدته المُغايرة، ولغته الشعريّة الفريدة التي كتبت الشتات الفلسطينيّ من ناحية، كما أعادت تأسيس فلسطين الضائعة المُنتهَكة في مفردات حسيّة ملموسة من ناحيةٍ أخرى. وقد استطاع مريد بحقّ أن يحفر لنفسه مساراً متميِّزاً، لا في لوحة الشعر الفلسطينيّ فحسب، وإنما في مسيرة الشعر العربيّ لدى جيل الستينيّات العربيّ كلّه. وكوَّن من خلال هذه الدواوين عالَمه الشعريّ الخاص بزخمه الإنسانيّ، ولغته الشعريّة الفريدة ذات القاموس البسيط الآسر معاً، ومفرداته الخاصّة من الصور والاستعارات والرؤى المُتميِّزة.

لذلك سأكتفي هنا بالتريُّث قليلاً إزاء أحد أعمال مريد النثريّة لتميُّزها، ودلالاتها المُهمَّة على ما انتاب القضية الفلسطينيّة من متغيِّرات. وهو كتابه «رأيت رام الله». وهو نصّ شيّق بحقّ، يوشك أن يكون نوعاً متفرِّداً من الكتابة الشعريّة السرديّة، أو الكتابة السرديّة الشعريّة التي لم يعرفها الأدب العربيّ باستثناء حفنة من النصوص النادرة، أذكر منها (خليها على الله) لكاتبنا الكبير وأستاذنا الذي يذكره جيلنا كلّه بالخير والعرفان يحيى حقي. والواقع أن سرّ سحر هذا النصّ الفريد هو في شعريّته. إنه ليس كتاب ناثر، بل كتاب شاعر يكتب بالصورة، ويفكِّر بها. ثمَّ يحيل الصور في كثيرٍ من الأحيان إلى أسئلة مدبّبة، تخزّ القارئ وتوقظ خياله باستمرار. وهو لذلك كتابٌ سرديّ فريد، لأن السرد فيه ليس من النوع الوصفيّ الذي يهتمُّ برصد التفاصيل واصطحاب القارئ إلى بقاعٍ جديدة، وإنْ كان يفعل ذلك. ولا من نوع السرد التتابعيّ الذي يهتمُّ بتطوُّر الأحداث واللهاث وراء تصاريفها، وإنْ امتلأ النصّ بأحداثٍ شيِّقة ومفاجآتٍ كثيرة مثيرة. ولكنه من النوع التحليليّ والتأمُّليّ الذي يسعى إلى بلورة صورةٍ كاملة ومؤثِّرة لما جرى، ويتحرَّك بحرّيّة في الزمن. يستدعي حدثاً مضت عليه ثلاثون سنة، ثم يرتد لحدث مرَّت عليه عدّة ساعات، وينتقل منه لحدثٍ جرى قبل شهور أو عدّة أعوام. ولكنه يكشف لنا من خلال صياغة الصور فيه مدى تعدُّد الوشائج بين هذه الأحداث جميعاً، ومدى تشابك المصير الفلسطينيّ بالمصائر العربيّة والتصرُّفات العربيّة المُتباينة والعبثيّة في كثيرٍ من الأحيان، ومدى تجلِّي القديم في الجديد بصورةٍ مغايرة، ولكنها تكشف عن الثابت بقدر كشفها عن المُتحوِّل.

رحلة تأسيس الحقّ

ويقدِّم لنا الكِتاب في حقيقة الأمر رحلة الشاعر إلى رام الله بعدما حُرِمَ من دخولها منذ خرج منها للدراسة في جامعة القاهرة، وحدثت أثناء سنوات الطلب واقعة 1967. كما يقدِّم لنا في الوقت نفسه رحلة الفلسطينيّ الصعبة للتشبُّث بوطنه وهو في المنفى، ولتأسيس حقّ ابنه «تميم» في هذا الوطن. فشاغل مريد في هذه الرحلة هو أن يحصل لابنه الذي وُلِدَ في المنفى، من أبٍّ فلسطينيّ وأمٍّ مصرية هي الكاتِبة المصريّة الكبيرة رضوى عاشور، على حقّ العودة لوطنه الذي لم يضع قدماً على ترابه بعد. وعندما قرأت هذه الصفحات التي يَجري فيها «مريد» وراء الأوراق التي تَمنح ابنه حقّ العودة، بعدما ألقت السلطات المصريّة بـ«تميم» خارج الحدود لمُشاركته في المظاهرات العارمة التي اندلعت في القاهرة عشية الحرب الأميركيّة على العراق، قبل شهور من تلك الرحلة التي يكتب عنها مريد، أدركت كمّ كان «مريد» على حقّ في الغوص في متاهة البيروقراطيّة الفلسطينيّة الوليدة ليحصل لابنه على حقِّه في وطنه، الذي لن يظلّ سليباً مادام هناك مَنْ يتشبَّث به، ويضحي من أجله.

رحلة صعبة واستعاراتها

لكن دعنا نبدأ تلك الرحلة الصعبة من أولها، كي نتعرَّف على الآليّات السرديّة والاستراتيجيّات النصّيّة التي استطاعت بها المُعالجة الشعريّة، أن تحيل هذه الرحلة المُحدَّدة، إلى استعارة فنِّيّة لرحلة الفلسطينيّ في الشتات منذ أن ضاع وطنه على مرحلتين. لأن النصّ وإنْ تمركز حول رحلة كاتبه، إلى الحدِّ الذي يمكن اعتباره نوعاً من نصوص السيرة الذاتيّة، إلّا أنه يقدِّم لنا اشتباك مصير هذا الكاتِب الفرد بمصير وطنه فلسطين، وبمصائر العديد من الفلسطينيّين من أبناء جيله. من أخيه الأكبر «منيف» الذي يكبره بثلاث سنوات، وإنْ فرضت عليه التجربة وهو لايزال في شرخ الشباب أن يكون أباً رؤوماً لا لأسرته وحدها، ولكن لكثيرٍ من الفلسطينيّين أيضاً، إلى ناجي العلي الرسَّام الفلسطينيّ الشهيد الذي شارك «مريد» في جنازته في لندن.

أقول دعنا نبدأ هذه الرحلة من أولها، وهل هناك أكثر من الجسر ملاءمةً لهذه البداية؟ فالجسرُ هو عنوان الفصل الأول في هذا الكتاب. «فيروز» تسمِّيه «جسر العودة». الأردنيّون يسمّونه «جسر الملك حسين». السلطة الفلسطينيّة تسمِّيه «معبر الكرامة». عامّة الناس وسائقو الباصات والتاكسي يسمّونه «جسر اللنبي». أمّي وقبلها جدتي وأبي وامرأة عمّي أم طلال يسمّونه ببساطة «الجسر» (ص 15). ويبدأ النصّ «ها أنا أقطع نهر الأردن. أسمع طقطقة الخشب تحت قدمي… أمشي باتِّجاه الغرب مشية عادية، ورائي العَالَم، وأمامي عالَمي. آخر ما أتذكَّره من هذا الجسر أنني عبرته في طريقي من رام الله إلى عمّان قبل ثلاثين سنة، ومنها إلى مصر، لاستئناف دراستي في جامعة القاهرة. إنه العام الدراسيّ الرابع والأخير عام تخرُّجي المُنتظر» (ص 5).. ويا له من تخرُّج كتب سفر خروج هذا الفلسطينيّ الشاب وهو لايزال يسعى إلى امتلاك أدوات المعرفة.

يقول لنا الكاتب بمرارة تهكميّة ستسمُ السرد كلّه «حصلت على ليسانس من قسم اللُّغة الإنجليزيّة وآدابها، وفشلت في العثور على جدار أعلِّق عليه شهادتي» (ص7). لأن غياب «مريد» في القاهرة أثناء وقوع الضفة الغربيّة تحت الاحتلال البغيض، منعه من حقّ العودة، وكتب عليه شتاتاً لا يقلُّ ألماً ومرارة عن شتات الفلسطينيّين. ويجسِّد لنا الشاعر هذا الشتات، «حيث كلّ شيء مؤقَّت إلى أن تتَّضح الأمور» (ص32).

وهذه الغربة المُرّة عن أرضه القريبة البعيدة معاً في مشهدين: مشهد لقاء الأسرة عندما التمَّ شملها في فندق في عمّان في صيف عام 1968 ومشهد شعريّ يستدعيه من ذاكرته قبل أكثر من عشرين عاماً عندما شارك في أواخر عام 1979 في أحد مؤتمرات اتحاد الكُتَّاب العرب في دمشق؛ وأخذه المضيفون لزيارة مدينة القنيطرة، وشاهدوا التدمير الفظيع الذي تعرَّضت له المدينة. ووقف الزائرون بجوار الأسلاك الشائكة التي يرتفع وراءها علم الاحتلال الصهيونيّ الكريه. «مددت يدي من فوق السلك، وأمسكت بالأفرع العلويّة من إحدى الشجيرات البريّة في الجانب المُحتلِّ من الجولان. أخذت أهز الشجيرة المضمومة في يدي، وقلت للدكتور حسين مروة، وكان يقف بجواري مباشرةً: هذه هي الأرض المُحتلَّة يا أبو نزار. إنني أستطيع أن أمسكها باليد… هل ترى كم هي قريبة ملموسة، موجودة بحقّ. إنني أستطيع الإمساك بها باليد كالمنديل. وفي عيني حسين مروة تكوَّن الجواب كلّه، وكان الجواب صامتاً مبلولاً» (ص10).

فالأرضُ المُحتلّة واقعٌ مر يجلب الدموع إلى المآقي. وهي واقعٌ يبلور «الإهانة المُتجسِّدة في انتزاعها مِنّا. فالإهانة تنغِّص حياة المُهانين. نشيدنا ليس للقداسة السابقة، بل لجدارتنا الراهنة. فاستمرارُ الاحتلال يشكِّل تكذيباً يوميّاً لهذه الجدارة» (ص11). والنصّ مشغول بتجسيد فقداننا للجدارة وبتجلِّيات هذا الفقدان التي تتغلغل في نسيج الحياة اليوميّة فتجعل الجميع يحسون بفداحة الهوان، وبفقدانهم للجدارة بطريقةٍ تنخر الروح وتسري في الدم، فتصيب الجميع بشللٍ جمعي مقيت لا هو موت ولا هو حياة.

وسوف أتوقَّف هنا عند هذا الحدّ من قراءتي لكتابِه البديع.. لأقول من جديد وداعاً يا مريد.

(٭الدوحة)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق