ثقافة وفن

صنّاع المعجزات

قصة للفائز بجائزة الطيب صالح للقصة القصيرة:

سعيد بودبوز

وفي غفلة من الحفّارين، دسوا ثعباناً في قبره، واستنفروا جميع الهواتف النقالة حولهم لكي يصوّر الناسُ، ويشهدوا، وتشهد هواتفهم يوم لا ينفع مال ولا بنون..وهل يجرؤ أحد على قتل الثعبان؟..كلا.. ليس لأن من يرتادون المقبرة يخافون من اللسع، فأغلبهم يلسعون غيرهم بألسنتهم أكثر من الثعابين وأوجع، ولكنهم يحترمون الثعبان لأنه جاء من عالم الغيب- على حد اعتقادهم- كي يعتقل صاحب القبر ويأخذه إلى الجحيم جزاء ما اقترفته يداه في الدنيا.. يعتقدون بأنه جاء ليبشّرهم بأنّ الشجاع الأقرع موجود حقاً لا ريب فيه، وهو بالمرصاد لكل من يحارب الدين ورجاله.

ذُهل حمّالو الموتى. وضعوا النعشَ أرضاً، وكانوا يوزّعون نظراتهم بالتساوي بين الثعبان الذي احقوقف حول الرفش داخل الحفرة، وعبد الباقي الذي كان في حكم الموتى على كل حال، وقد أذن لهم خطياً بدفنه قائلاً: «احملوني إلى المقبرة وادفنوني دون تردّد، فأنا أفضّل أن أشرف على جنازتي بنفسي، ولعلّ ذلك سيكون آخر حسناتي..خذوني ولا تأخذنّكم بي رحمة ولا شفقة».

أما صُناع المعجزات الذين دسّوا الثعبان في القبر، فقد كانوا يعتقدون بأنّ الميّت لم يكن حياً، وعند ذلك اصطدمت الأراء بينهم وبين حملة النعش، فقال الناطق الرسمي باسم الحمّالين: «يجب أن نؤجّل دفنه حتى وإن وقّع لنا على ذلك.. يجب أن نعيده إلى بيته حتى نحفر له حفرةً تليق بمن فضّل أن يزور الموتَ قبل أن يزوره المو تُ».

غضب صُنّاع المعجزات، وقالوا لهم بصوت رجل واحد: «إنكم تعارضون قدر الله وقضاءه! فعن أيّ توقيع تتحدثون؟ وما شأنكم أنتم بمصير ذلك السكير؟ كل ما عليكم فعله هو أن تواروه الثرى..أم تريدون تحنيطه كآل فرعون؟ !».

ردّ عليهم الناطق الرسمي باسم حمّالي الموتى: «ولكن هذا الميت لم يمُت بعد، وعلينا أن نستشيره فيما إذا كان يقبل أن يُدفن مع الثعبان أم لا…أقول هذا لأنني أعرف بأنكم لن تقبلوا بدفن الثعبان وحده في تلك الحفرة لاعتبارات دينية، مع أنني شخصياً أتمنى لو تأذنوا بهيل التراب عليه، ثم نحفر قبراً آخر لميتنا الذي هو في الواقع مازال حياً، وإن كان في حكم الأموات كما صرّح بنفسه».

حدّق فيه صُناع المعجزات، وقالوا له ساخطين:

«هل تسخر منا؟…ماذا تعني بقولك أن ذاك الميت لم يمُت بعد؟».

ردّ عليهم حمّال النعش: «لقد حصلنا على تفويض منه يأذن لنا بدفنه، ولكن مادام في القبر ثعبان، فيجب أن نستشيره مرة أخرى لنعرف ما إذا كان سيوافق على دفنه رغم وجود الثعبان في قبره أم يفضّل تأجيل موته إلى وقت آخر».

عند ذلك فتحوا النعش، فقال لهم عبد الباقي من داخله غاضباً متذمّراً: «ماذا هناك..؟».

أجابه حملة نعشه: «عفواً، لقد سبقك ثعبان إلى قبرك ونريد أن نعرف ما إذا كنتَ مازلت مصراً على إتمام دفنك أم لا؟».

قال لهم دون تردد: «طبعاً مازلت مصراً على دفني، بل يسعدني أن يُدفن معي ذلك الثعبان أيضاً، وأتمنى أن يكون آخر ثعبان يجرؤ على تهديد الموتى الأصليين بعدي».

تضاربت الأقوال، وتطايرت الشائعات، وعلم «المقدم»، فجاءَ على صهوة دراجته النارية مباشرة إلى المقبرة ليرى ما يجري هناك. فلما وصل إلى باحة المقبرة ترجّل عن دراجته، وصاح في وجوه الحاضرين: «ماذا أرى، وماذا أسمع؟.. من هذا الذي قضى نحبه؟».

وقبل أن يجيبه كلّ من الحفارين والحمالين وصناع المعجزات، وصلت سيارة «المخزن» ونزل من بطنها خليط من الشرطة والقوات المساعدة، وبعدهم نزل سعادة الباشا ليصحّح مراسم الجنازة..بدا منتفخ الأوداج كالضفدع وهو يمشط الجمهور بنظراته الفاحصة. كل ما يهمه ألا يكون بينهم أحد من الأجانب. كان يبصق بخفوت ساخطاً ويهمهم في نفسه؛ «ترى، ما الذي ارتكبته رعيتنا هذه المرة؟». تقدّم نحو النعش وهو يدفع بطنه الضخم كما لو كان يدفع كرسياً متحركاً بأحد معاقي المنطقة.

أخرج ورقة كلينيكس، ومسح العرق المتصبب عن جبهته. وقف على شفير القبر واضعاً يده على خاصرته. ثم تراجع مذعوراً حين رأى الثعبان وقد كاد يتعثّر، فقال ساخطاً للسيد المقدم:

«ماذا يجري هنا؟». أجابه المقدم: «يبدو أن ثمة شيئاً غير طبيعي وغير قانوني معاً في جنازة اليوم يا سعادة الباشا».

حملق فيه الباشا ثم نظر إلى حملة النعش، وبعد ذلك اقترب من النعش وألقى نظرةً على جثمان عبد الباقي الذي كان قد ارتشف بعض رشفات الحشيش من غليونه المغربي الأصيل (السبسي) وهو يقول لحملة نعشه: «لتكن هذه آخر «تبويقة» لي في الحياة الدنيا». حملق فيه الباشا وقد رآه يرمش فذهل وعيناه متذبذبتان بين وجوه الحاضرين، ثم صاح في وجه عبد الباقي: «من أنت؟ ! وماذا جرى لك ولهؤلا !؟».

ردّ عليه حملة النعش قائلين بأن عبد الباقي قد كتب وصيته، وكتب لهم تفويضاً يسمح لهم بدفنه. عند ذلك اشتدّ غضب الباشا، وزمجر في وجه عبد الباقي الممدّد في نعشه: «أخرج فوراً عليك اللعنة، واعطيني شهادة الحياة أولاً، وسيكون لي معك شأن عظيم فيما بعد».

ردّ عليه عبد الباقي بهدوء: «يا سعادة الباشا، وهل طلبتُ منك أن تبارك في عمري أو ترقّيني فيه حتى تطلب مني شهادة حياة؟».

تلعثم الباشا وقد بدأ وجهه يتورّد: «اعطيني شهادة الحياة وكفاك ثرثرة !». ثم التفت إلى باقي المشيعين، وقال لهم متوعّداً: «أما أنتم يا سلالة الزّومبي، فستذهبون معي كلكم إلى مكتبي لنبدأ معكم التحقيق، ثم بعد ذلك نقرّر من منكم سيذهب إلى السجن، ومن سيذهب إلى مستشفى المجانين، ومن سيتكفّل به الطبيب البيطري».

همس أحد أفراد الجمهور الذي نخره الفضول: «وهل ستأخذون الثعبان أيضا إلى المخفر لتحقّقوا معه؟».

وقبل أن يكمل الباشا الذي رماه بنظرة نارية قوله: «اخرس عليك وعلى أمك اللعنة»، انقضّ عليه أحد أفراد القوات المساعدة وصفعه صفعةً سُمعت لعلعتها من وسط شارع المدينة، فتساءل أحد المارّة ما إذا كانت صفعة محلية أم وطنية أم دولية. ردّ عبد الباقي على الباشا: «يا أخي الباشا المحتـــ….».

قاطعه الباشا ساخطاً: «ماذا؟ !.. آنا أخوك؟ !.. ما هذا الأدب الذي تفوح رائحته الزكية من فمك الذي اجتاحه الحشيش؟».

ابتسم عبد الباقي، وقال له وهو مازال مسجّى داخل النعش: «يا سيادة الباشا، أليس حرياً بك أن تطلب مني شهادة الموت بدل شهادة الحياة؟.. اعذرني، ولكن يبدو واضحاً أن الارتباك قد نال منك، واختلطت في ذهنك الوثائق الإدارية بأوراق اللعب وأوراق القنّب الهندي».

كاد يقول له: «وأوراق الحمّام»، لكنه تراجع كي لا يستعجل سعار الباشا الذي تجاهل ردّه و التفت إلى المشيعين، وقال لهم بملامح جادة: «لقد رأيت ما لا يعد ولا يحصى من المجانين في هذا البلد، ولكن ما أراكم فيه اليوم لم يسبق لي أن رأيته قط». ثم استطرد موجهاً خطابه إلى عبد الباقي: «حسناً، اعطيني أي شيء، سواء كان شهادة حياة أو موت، هيا أسرع».  فقال له عبد الباقي وقد شعر بالقرف: «يا سيادة الباشا، بأيّ حق تمنعون الناس من الموت؟.. لقد كتبتُ ووقّعتُ تفويضاً بكامل قواي العقلية لحملة النعش، فهل أنا مدين لك ببعض أيام حياتي حتى تأتي إليّ في أوّل أيام مماتي لتزعجني وتنغّص عليّ موتي؟».

تبادل رجال «المخزن» نظرات التعجب. مسح الباشا جبهته المتصببة عرقاً. التفت إلى هيئة الحفارين، وقال لهم: « وأنتم أيها السنافر الملاعين، لقد أعماكم الطمع في المال، وقبلتم منه عرضاً جنونياً كهذا».

ردّ عليه كبير الحفارين: «والله يا سعادة الباشا المحترم، إننـــ…».

قاطعه الباشا: «اخرس عليك اللعنة !.. طبعاً قبلتم عرضه لكي تحصلوا على أجرة الحفر أيتها القوارض الآدمية البغيضة». ثم التفت إلى إمام المسجد الملقّب بالفقيه، وقال له في ابتسامة صفراء تفيض تحقيراً: «وأنت أيها الإمام الوضيع؟..ماذا تفعل هنا؟.. هل تريد أن تبيع ما تيسّر من الذكر الحكيم أنت الآخر؟.. تريد أن تقرأ على هذا المجنون سورة ياسين وتحصل على ثمنها في الدنيا ثم تنصرف إلى مسجدك وكأن شيئاً لم يكن، أليس كذلك؟.. أي شعب أنتم؟.. حقاً أي شعب أنتم؟.. أبلغت بكم الوضاعة والنذالة والخسة حداً تحملون الناس أحياءً إلى قبورهم من أجل أن تحركوا عجلة العمل الوضيع فيحفر منكم من يحفر، ويحمل النعش من يحمل، ويقرأ القرآن على الجثمان من يقرأ، ثم تأخذون مكافآتكم وتنصرفون إلى جحوركم !؟  ألا تتغيرون؟ ألا تتقدمون؟».

حدق يمنة ويسرة في وجوه مساعديه وهو يردد: «أي شعب هذا؟..هل أنا في الواقع أم في المنام؟..كيف نحاكم هؤلاء؟.. وهل ثمة قانون ينطبق عليهم أم لا؟.. وهل نقدمهم إلى المحكمة أم نحاكمهم ميدانياً بالرفس حتى الموت؟…أي شعب هذا الذي يدفن أبناءه أحياء؟».

صاح عبد الباقي من داخل النعش قائلاً: «هذه إرادتي يا سيادة الباشا.. أنا في حكم الموتى، وعند ربي أُرزق الآن، فدعنا وشأننا، واترك الحفارين يهيلون عليّ التراب رجاءً.. ماذا تريدون منا؟ هل تريدون ألا نموت ولا نحيى؟.. أليس من حقي أن أموت قبل الآوان؟.. ما شأن الدولة في هذا؟».

اقترب منه الباشا وهو يقول: «اخرس أيها الفضيحة، اخرس !» ثم أشار إلى أعوانه من القوات المساعدة بأن يخرجوه من نعشه ويبرحوه ضرباً، فانقضوا عليه وكسروا عليه النعش بحيث خرج عبد الباقي من تحته قبل أن يخرجوه من المخرج الطبيعي. أخذوا يرفسونه، ثم أعطى الباشا أوامره للآخرين بأن يخرجوا الثعبان من القبر، فأغمض الإمام عينيه ورفع يديه نحو السماء وهو يقول: «اشهد يا رب أن الشعب بريء مما يريد الباشا ارتكابه في حق شجاعك الأقرع…اللهمّ لا تواخذنا بما فعل السفـ…» وأكملها بغمغمة مهموسة وممضوغة إذ انتبه إلى أنه قد أوقع نفسه في ورطة وكان الباشا يحدق فيه بعينين يتطاير منهما شرر السخط فقال له:

«ماذا تقول أيها الفُقَيقِه الوضيع؟.. أكمل ما قلت بصوت مرتفع يا فُقَيقِهة الزبال، هيا !». وفي تلك اللحظة أومأ لأحد رجال القوات المساعدة فانقضّ على فقيه المسجد وأخذ يطحنه بالهراوة والإمام يقرأ سورة ياسين ويئنّ إلى أن لم يعد لسانه يقوى على التلاوة. أخرج الآخرون الثعبان من القبر، وسألوا الباشا ما إذا كانت أوامره تقضي بالقضاء على الثعبان، فأكّد لهم ذلك وهو يقول: «اقتلوه على مسؤوليتي الخاصة، وإن كنت على يقين من أنه لا علاقة له بالملائكة كما يتوهّم هؤلاء الخراف».

حزن صُناع المعجزات حزناً شديداً وهم يرون مشروعهم ينهار في المقبرة. وفي تلك اللحظة أعطي الباشا أوامره بالانقضاض عليهم وعلى الحفارين والحمالين جميعاً، فأعمل رجال المخزن فيهم الهراوات وقد فرّ من استطاع الفرار من أسوياء المدينة وأبريائها. بعدما أشبعوهم ضرباً، اقتادهم رجال الشرطة إلى المخفر.

وفي غمرة التحقيقات، جاء البرگاگ بالخبر اليقين؛ أن صُناع المعجزات قد تعاقدوا مع العيساوة فوضع هؤلاء العيساوة بعض الثعابين تحت تصرفهم. وكانوا يحملونها في صناديق، أو محفظات، أو أكياس بلاستيكية، ويجوبون المقابر بحثاً عن الضحايا، وفي أغلب الأحيان يتعاقدون مع حفّار القبور أيضا كي يسهّل عليهم دسّ الثعبان في القبر من أجل إرهاب الناس وتذكيرهم بحقيقة الشجاع الأقرع، وبالتالي فلا علاقة بين صناع المعجزات وحملة النعش، وإنما تقاطعت مصالحهم حول وفاة عبد الباقي دون أن يعلم حملة النعش بحيلة الثعبان، ولا علم أصحاب الثعبان بأن عبد الباقي جاء في النعش حياً وقد كتب ثلث تركته لحلمة نعشه مقابل أن يدفنوه حياً !.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق