
أحمد يوسف
ذاك البُرعُم الغجري، لا أدري مَنْشأه، ولا أعرف كيف قاوم قانون الطبيعة، فقد اهتاجت أنفاسي وتسابقت لتعشقه، تلك هي أوركيدا الملوك، ذات الجاذبية المطلقة، تحمل الألوان كلها وأطيافها. تزهو بذكائها، وتنشر عبيرها. أدرجتني الأقدار في رحم وردة، وأفلتتني في طوق يمامة تعشق التحليق من فوق الثرى، فما كان عليّ إلا أن أعشق الكبرياء. ففي أفنية الثقة تزدهر بِتِلّات شدوي الحزين. كان فكري أخصب من جسدي، حتى صرتُ بَتلاء في أمري بعزيمة لا تُرد. عشقتُ الشّذا فأضرم الفكر نار الأشواق. وذكريات فلقتين في أوصال تربة سوداء وخصبة، تعبر من منافذ الشم، تعشقها الأنفاس، فروحي لا تستسلم للمَرْمَرِيس*. تلك قصة أخرى لفتاة صلبة العواطف، تختزن تعاطفها في جوف صدفات لا تعرف الضياء، ولكنها غنية (بأُوميغا) الفكر ذو الذكاء الحاد، تختزن طاقة صبر في لفافات لوزة القطن الأبيض، تغزلها في دوران عقلي، وبنية الأنامل عندها نواقيس كعصافير الخريف الرواحل.
لقد حملني جمالي إلى حيث من لا يُقَدِّره، وفاق عجزي كل ظن، وتلطختْ ملامحي بانكسارة الأسير، ولم يبقى لي شيء يَسترَشِدُ به المارة على شخصي إلا حُسن أخلاقي وبعض ملامح جمالي الذابلة. ما أقسى تلك الأحلام، حين تموت تحت نبيذ التوت والأقدام الساقطة تدهس هذا التوت. وبائعة الخبز تتأهب عند بزوق الشمس تنشد الحرية ولكن يلاحقها الساقطون. هبّتْ في داخلي صلابة العواصف، وأشرق الجسد بنور صبري، لن أنسى حين سقتني أمي من عبق الأمطار، وحين تَلتْ جداتى آيات القُرآن على هسيس الأعشاب، وحَملْتُها حِرزاً على جيدي الممدود. وذاك الرجل الطائش يحمل بين يديه إناء نبيذ، يصنع كل مساء من حبات الأرض الخصبة مشروب للأنس. أستوطن في كل الأرض الخصبة بعقل غائب، واستوطن في جسدي ليزرع ويرعى أطياف الأشواك. وحين يفيق أغدقه بماء الحب فيضحك ثم يمارس عليّ الإستعلاء، أصرخ من ضجري: ما هذا الأبله؟! ذاك الأحمق يخلف كل وعود وعهود.
أقْسَمتُ على نفسي ألا أخون عهودي معه، وما ذاك رِباط العُرف الواهي؟ عشبات تربطها خيوط القطن المتسخة، بحثتُ عن بذور روحي بين شقوق الأرض القاحلة، وبذرتها بجسارة في مسام المَرْمَرِيس. فنَمَتْ في الحال بُرعُمات في ظلام دامس، ما خشيتُ عليها من الموت، قِصّتها تشبهني وتشبه كل نطفة تنمو ثم تغدو طفلا لا يعيش إلا في الظلام، يحميه هُلام الظُلُمات، وتُغَذّيه أوداج الدم، ورغم معاناة الأيام يخرج ويمنح هذا الكون صرخة ميلاد.
*المرمريس: الأرضُ لا تُنْبِتُ شيئًا لصلابتها
ذاك الأُمّي الجاهل لا يعرف ما معنى الميلاد، تَخطّى شوقي كل العقبات، وكنتُ قد لمحتُ بِتِلّات خضراء. كنت دائما أبحث عن الأماكن الخفية في روحي وفي نفسي وفي خيال البشر. وذاك الرجل الذي يستعذب شم البارود هو قدري، بيمينه البندقية، وفي يساره قوارير وأصناف المزاج. يشبه حذاؤه تلك الأرض التي عبطها الموت، يطأ عليها حتى اندرست معالمها، فأصبحا صِنْوان. وكنتُ دائماً أحمل مِعْوَلي وبيدي بِذْرات شتى، حين أحفر التربة يتصبب عرقي كالمِسك، كنتُ أحلم بالخضرة حتى غدت ذاكرتي خضراء، ورياح البارود تهاجمني ليلاً ونهاراً، وكان يهمس لي بصوت الجندي المفترس في أذني أن هذه الأرض المرمريس لا مُخّلص لها غير أحذية الجندي. وحاولتُ أن أقتل أحلامه العجفاء بنعومة أنثى طاغية العطف عَكَفتْ بجواره تُذّكِره ولكن غالبها الذبول من فِطْرِه المزمن.
وكنت أتعهده كل ليلة بأنامل أنثوية كالحرير وهو يكسر شغفها، أدعوه أن يسكب ذاك الماء الطامي كي تزدهر وتنمو الأرض. يُعَلّقُ كل أحلامه على تمائم الحياة، وخزعبلات الأرض، وأنا بجواره أقول له: «هيت لك، خَلّص ضجرك من تلك النكسات»، أحرثني كيف تشاء، وحَرِّك مُومِيا العواطف، أنتظرك أن تعبث بخصلاتي التَوّاقة لهفيف نسيمك. لن يجدي هذا الصمت معي، سأحاول في رحلتي المُضْنِية أن أصل إلى ما أشتهي، وأنا أحمل قدري ومعه لُفَافَات الأمل المشْرِق في رحمي. ما عاد اليأس طريقي، وذاك الفيروز الأخضر يوقظني عند الغفوات. أنا تلك امرأة من سهل كانت تعشق السُندُس الأخضر. حتى أطلق عليّ سكان الحي اسم الفتاة السُندسية.
وعلى تلك الوسادة الناعمة الجميلة يرقد خدي، لا أحفل بالديباج، ولا أحب شموع المآدب الضخمة تلك التي تُكَرِّس للإستغلال، أحب تلك الشموع المتواضعة التي تحتفل وتضىء ليالي العُشّاق. أما هو فلا يهتم بحاسة الشم والتمييز عنده، تثيره روائح الطعام في ثيابي، ويتعمد أن يصرف أنفه عن عطور النساء الفاتنة. كل حين أتذكر وصايا أمي فيقوى عندي الصبر. أرسم له إبتسامة الفتاة التي تغوي صنو روحها بعفاف شَكِس. ما هذا القلب القاسي الذي أزرع فيه الخير فلا يعود بشىء؟
وعاهدتُ نَفْسِي أن أتَجمّل له بكل ضروب التمويه، وأرتدي له ثياب بلون الفصول وطقوسها. فلقد نَصّبْتُ نفسي أميرة على تلال جرداء، أزرع فيها نفسي كبرعمة الحياة اللطيفة بماء الحب. وهل يدري هذا الرجل أن الحب كالماء يذهب به ظمأ العشاق؟ ورغم أن الموسم الماطر لا يأتي إلا مرة واحدة في العام إلّا أن الأشجار والنبتات تحتفظ بخضرتها طويلا. لقد ذَكَرتْ لي جدتي أن في الزمان الماضي كانت الأرض طيّبة وتعطي ثمارا طيبة، ولكن النفوس قد تبدلت فأصبحت الأرض صلبة قاسية وما عاد هنالك تعاطف معها، لذلك سوف أرعى نفسي بالطِيبة والحب حتى تنمو من جديد هذه التربة القاسية. كان الناس بسطاء يغمرهم الزُهْد وغِناهم بالقِيَم، لذا كانت الحياة هادئة يغمرها الحنان.
كانت جدّتي لا تؤمن بالخرافة، طموحة توّاقة، تكد وتجتهد، فتعاطفها السحري مع الأرض جعل جدي يحترمها ويقدرها، وهذا الإحترام حُبٌّ يتخبأ في أنفاس التعامل والاحترام، في زمن كان فيه الحب قيمة متكاملة. لذا أنا هنا أصارع كل خرافات الحاضر المادية، أمد أيادي الشوق الفائق، كي أقتفي أثر جدتي وأمي، ما عادت خِزانتي تتكدس فيها الأوراق النقدية ولا يُمثّلُ لي ذلك هوس يضني ليلي، فالعبور إلى الشاطىء الآخر يلزمه عزم قوي.
وفي ذات ليلة شتوية يحتاج فيها الجسد إلى حاضنة دفيئة، إنقلبتْ فيها الموازين بعد مرور سنوات عِجاف، فكان أن إستجابت تلك الأرض المرمريس، وأشرقت فيها شمس الأماني الجميلة، وانبثقت منها عيون عذبة، تداعت لها كل أطياف الموجودات، وحلّقت سابحات النفوس عالياً بكل كبرياء وفخر. وغادر القحط المقيم دهورا، فكانت قناديل المحبة تضىء ليالي العُشّاق، تحكي للناس صبرا في غمار المعارك، فقيمة البرعمة أن تهب الحياة للأشواك كي تعيش في سلام، وتذكرة للآمال أن تصحو من غفوتها. وكانت بذرة التحدي قد نشأت وعزمت على النمو بداخلها رغم قساوة الظروف، حينما سألها أحد الموظفين: «لماذا تصنعين الشاي في هذا الصرح وأنت بكل هذا الجمال والنعومة؟»
فكان ردها وهي تخفض رأسها بمرارة وغنج غير مُفتعل:»الظروف»
وكانت تقول في نفسها أنا أنثى أحب وأعشق وأربي ولكنني مُهْمَلة، حيث الأرض التي تسندني تغالط معالمي، ومن هنا بدأت الحكاية الساحرة.