
نحو قراءة جديدة لثورة ديسمبر المجيدة:
لجان المقاومة: تجليات استكمال الاستقلال وميلاد المواطن الجديد الأصيل (3-3ج الأخيرة)
دكتور عبد الله الفكي البشير – خبير سياسي وباحث
تسعى هذه الورقة عبر سلسلة مقالات، وهي طرف من كتاب قادم، تقديم رؤية جديدة للتعاطي مع لجان المقاومة، شوكة الثورة وقادتها، وحملة مشعل التحرير والتغيير، وقادة سودان المستقبل. وتأتي الورقة وفاءً لشهيدات وشهداء ثورة ديسمبر السودانية المجيدة، ومؤازرة لكل اللائي تأذين، والذين تأذوا في سبيل الحرية وكرامة الإنسان، من أعداء التغيير؛ من أصحاب الامتيازات والمستبدين والمقيمين في الماضي. وتصب كذلك في الواجب الثقافي والوطني والأخلاقي الذي يستدعي أرواح الشهداء، ويستحضر قيم الثورة. وتسعى إلى الإسهام في الوعي بالراهن، عبر العمل على عقلنة الثورة، من خلال البحث عن النسب الفكري والسياسي للجان المقاومة، ما هي لجان المقاومة؟ وماذا تمثل؟ كما تسعى إلى فكرنة سردية لجان المقاومة وتحريرها من تصورات الإرث السياسي وتأصيل نسبها في الذاتية السودانية، فضلاً عن موضعتها في الخارطة الفكرية والسياسية، باعتبارها فاعلاً جديداً في السياس ية السودانية. وتزعم الورقة بأن هذا الفاعل الجديد «المارد العنيد»، أنتج واقعاً فاق تصورات الأحزاب السودانية، وتجاوز السقف المعرفي للسياسيين السودانيين، وظل مُهمِلاً للمبادرات القادمة من الإرث السياسي البالي، وعصياً على الاحتواء المحلي والإقليمي، ورافضاً للمساومات والتعاطي بالأساليب القديمة. ومع هذا أصبحت حيرة الجميع، من أصحاب المصلحة والمصالح، محلياً وإقليمياً، تتسع وتتفاقم مع صباح كل يوم جديد، أمام مارد صعب المراس، قوي الشَّكيمة، «كأنه الطود الأشم والعيلم المسجور».
تناولنا في الحلقة الماضية، وهي الحلقة (3-ب) من هذه السلسلة، أربعة محاور، هي: 1. ملامح المواطن الجديد الأصيل الذي هو نواة سودان المستقبل (المواطن هو الأصل)، و 2. أفكار قديمة وتاريخ جديد يكتبه ويمليه صانعوه، و 3. مرجعيات ومغذيات المناخ الثوري: استدعاء المبادرات الخلاقة والنماذج الإرشادية في النضال والسلمية واللاعنف، و 4. ثورتا ديسمبر 2019 وأكتوبر 1964 السودانيتين وإلغاء العنف من معادلة التغيير الماركسي، واليوم نستكمل.
الهمس بتأثير بعض الأحزاب في لجان المقاومة والخطر على لجان المقاومة
ظل الكثير من الناس يردد بأن لجان المقاومة التي تقود ثورة ديسمبر، يسيطر عليها الشيوعيون، أو لهم تأثير عليها، وهذا قول فج، ورأي خديج، ويكشف عن جهل بتاريخ الأحزاب، خاصة تاريخ الحزب الشيوعي، كما سيرد الحديث لاحقاً، كما أنه تحليل ضعيف، وحيلة بالية، مثلما أنه قول ساذج لا يجوز إلا على «صغار الأحلام». والحق أن مثل هذه الحيل والأساليب البالية تم تشييعها وممارستها في محطات عديدة في تاريخ السودان. فعندما اندلعت ثورة أكتوبر 1964، وتشكلت الجبهة الوطنية للهيئات (33 هيئة)، بدأت الأحزاب السودانية تشيع بأن الجبهة خاضعة لسيطرة الشيوعيين، الأمر الذي يكشف عن خطر النفوذ الشيوعي على البلاد، فأصدر الأستاذ محمود محمد طه عدة بيانات منها بيان جاء بعنوان: «الحزب الجمهوري يقول رأيه في الموقف الحالي: لا أهداف لقادة الأحزاب إلا كراسي الحكم»، (22 فبراير 1965)، قال فيه: «لم تبدأ الازمة بالموقف الذي اختار رئيس الوزراء ان يقفه حين تقدم بتلك الاستقالة المفاجئة وانما بدأت حين اخذت الهيئات المختلفة تنسحب من الجبهة الوطنية للهيئات بحجة ان الجبهة اصبحت خاضعة لسيطرة الشيوعيين عليها ومن رأينا ان انسحاب الهيئات التي انسحبت خطأ شنيع لانه قوض الجبهة ووضع مفتاح الموقف السياسي في يد الاحزاب وفتح الطريق امام هذا الصراع على الكراسي الذي لا تراعي فيه». وأضاف: «لقد نجحت الأحزاب في تجسيم الخطر الشيوعي على هذه البلاد في أذهان الناس»..
وأوضح في بيان أصدره في 2 مارس 1965، قائلاً: ما هو عذر الأحزاب المتآمرة في كل ذلك؟ إن خطر النفوذ الشيوعي على البلاد- إن هذا قول لا يجوز إلا على صغار الأحلام… والطائفية تشعر بأن الشيوعية تشكل خطراً ماثلاً ولكنه عليها هي وليس على هذه البلاد». وأضاف وهو يتحدث عن ثورة أكتوبر بحديث يخاطب الراهن، وكأنه يتحدث عن ثورة ديسمبر، فقد كتب، قائلاً: «إن ثورة اكتوبر لم تلد زعيما حتى الآن ولا يزال الشعب العملاق يتقدمه الاقزام ونحن لا نظن ان هذه الثورة العظيمة عقيم بل نظن ان قلق الشعب الحاضر وفورة عناصره بمثابة اتعاب الولادة للنظام الجديد والزعيم الجديد وعلى المثقفين في جميع الصفوف حتى في جماهير الاحزاب ان يقوموا بدور القابلة في جعل هذه الولادة سريعة ومأمونة العواقب بدل ان يقفوا وراء زعماء جهلاء أو أن ينعزلوا عن مشاكل الشعب.. طلبة الجامعات واساتذة الجامعات في مقدمة من نعني». (أنتهى). وهنا نجدد الدعوة للالتفاف حول لجان المقاومة، ودعمها وتمهيد السُبل لها لتولي قيادة السودان. وليكن الشعار لجان المقاومة لقيادة المرحلة الانتقالية، والأحزاب لإعداد رؤاها وبرامجها العلمية وتهيئة بيوتها الداخلية استعداداً للانتخابات.
الأمر الآخر الذي يجب توضيحه وهو يتصل بتاريخ الأحزاب السودانية، لا سيما أكبر حزبين، ظل كل منهما منذ أربعينات القرن الماضي، يدعو إلى إشراك الجماهير في العمل النضالي والوطني، وفي مواجهة ورفض للعمل الفوقي الذي ظلت تنتهجه الأحزاب، هما الحزب الجمهوري والحزب الشيوعي السوداني الذي ظل حزباً جماهيرياً وبامتياز. لقد ظل الحزب الجمهوري منذ تأسيسه في أكتوبر 1945 يدعو إلى إشراك الجماهير في النضال ضد الاستعمار، ويدعو إلى الخروج إلى الشوارع. وقد تناولت تفاصيل ذلك في العديد من كتاباتي، منها، على سبيل المثال، لا الحصر: (عبد الله الفكي البشير، صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ 2013؛ محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان، 2021). ويمكن في هذه السانحة الضيقة أن أقدم برهانين على الحرص على إشراك الجماهير في العمل الوطني. كان الأستاذ محمود محمد طه قد كتب في العام 1952، مقالاً بعنوان: «الحركة الوطنية كما أريدها»، قال فيه: «ثلاث فئات من المواطنين يجب أن تشترك في الحركة الوطنية اشتراك العمل المنتج. النساء وسكان القرى (الأقاليم) والأغنياء. ولإشراك هؤلاء اشتراك العمل المنتج يجب أن تكون الحركة الوطنية نفسها حركة عمل منتج لا حركة تهريج وهتاف بسقوط الاستعمار ليس إلا».
كذلك كان الحزب الشيوعي السوداني منذ اربعينات القرن الماضي ومنذ أيام الحلقات الماركسية نواة الجبهة المعادية للاستعمار، والتي أصبحت الحزب الشيوعي السوداني، يدعو إلى إشراك الجماهير في العمل الوطني وفي النضال ضد الاستعمار، وكان رافضاً للعمل الفوقي الذي انتهجته الأحزاب السودانية. هذه حقائق لا مغالطة فيها، ولهذا فإذا كان الحزب الشيوعي حاضراً وداعماً لعمل لجان المقاومة، فهذا نشاط يتسق مع رؤيته، ويجسد أحلامه، وهو يعبر من تاريخية. كان البروفيسور أحمد خوجلي، عضو الحلقات الماركسية، وأستاذ الفيزياء الذي أصبح نائباً لمدير جامعة الخرطوم، فيما بعد، قد شهد، قائلاً: «وقد كنا من الجهة الأخرى على اتصال بالحزب الجمهوري وكان حزباً ثورياً. والجمهوريون هم أول من أصطنع المطبعة السرية لطبع المنشورات ويوزعونها في المقاهي وغيرها. واذكر لما تظاهرنا في الوادي في 1946م، جاؤونا بمنشورات وزعناها وسط الطلاب. فأزعجت المنشورات مفتش مركز أم درمان وتحروا في كيفية وصولها للوادي من أم درمان. ولم ينتهوا إلى شيء». ولهذا، فإن حضور الحزب الشيوعي في النشاط الجماهيري، والعمل الميداني في سبيل الوطن، ليس غريباً، إلا على الأحزاب التي ليس لها رؤية أو تاريخ في الدعوة لإشراك الجماهير في العمل النضالي والوطني.
لجان المقاومة وسودان المستقبل: من القاعدة إلى القمة (مهدوا لهم السُبل لتولي قيادة السودان)
أنني من الداعين لأن تؤول قيادة السودان إلى شباب وشابات لجان المقاومة على جميع مستويات الحكم الانتقالي في الدولة السودانية. واقترح أن تكون النسبة الأكبر للمرأة، إن لم تكن مناصفة على أقل تقدير. الذي يدعونا ويحضنا على ذلك، أمران: الأمر الأول هو إن التضحية والبطولات التي ظللنا نشهدها مع كل صباح كل يوم جديد، وعلى مدى أربع سنوات، تضع القادة والأحزاب والسياسيين في موضع غير لائق وظالم، إن تآمروا على لجان المقاومة، وحالوا بينها وبين قيادة سودان المستقبل. إن شباب لجان المقاومة، هم أصحاب الحق والمصلحة في الراهن والمستقبل، والمرحلة الانتقالية ستحدد ملامح سودان المستقبل وستسفلت مساره، وفي تقديري ليس هناك من هو مؤهل أكثر من لجان المقاومة. والحق أنهم وبما قدموه من تضحية ومعاني جديدة في التعاطي مع شأن الوطن، كما ورد ذكرها آنفاً، أكسبوا متطلبات قيادة الوطن، شروطاً جديدة، وليس هناك من يستوفي تلك الشروط سوى شباب وشابات لجان المقاومة. والأمر الثاني يتصل بالعلل الموروثة في الممارسة السياسية، وهي علل مزمنة ومتمكنة في البيئة السياسية السودانية، ظلت معها الأمور، كما صورها الروائي الطيب صالح (1929- 2009)، قائلاً: «وتمضي الأمور من جهالة إلى جهالة، حتى يغدو الفكاك من ربقتها مستحيلاً، إلا بقفزات هائلة في الخيال، أو بثورات هائلة في الروح». وقد تناولنا تصوير الطيب صالح لهذا الواقع، وأرودنا نصه هذا، في صدر سلسلة مقالات لنا نُشرت في العام 2010 بعنوان: «النخبة السودانية: المزاج الصفوي والصراع العقيم (1-11)»، صحيفة الأحداث، 19 أغسطس 2010.
والحق إننا اليوم وأمام شابات السودان وشبابه نشهد قفزات هائلة في الخيال، وثورات هائلة في الروح. قولاً واحداً إن قيادة الوطن، في ظل الوباء السياسي الذي لازم أداء الأحزاب والممارسة السياسية منذ قبل الاستقلال، يجب أن تؤول إلى الشباب، وقد صدحنا بهذا الرأي منذ العام 2011، بناءً على دراسات، وفحص علمي، وتقصي دقيق في مسار السودان السياسي. وهنا أستميح القراء عذراً بأن أستدعي ما كتبته في فبراير 2011 في خاتمة ورقة علمية صدرت ضمن كتاب: انفصال جنوب السودان: المخاطر والفرص، (2012)، ومن ثم صدرت الورقة لحالها في كتاب بعنوان: الفشل في إدارة التنوع: حالة السودان، (2014)، ضمن سلسلة قراءة من أجل التغيير. كنت قد كتبت في خاتمة الورقة التي أصبحت كتاباً، النص الآتي (أنقل بالنص دون تغيير أو تعديل):
«خاتمة: سودان المستقبل
إن القيادات التي تسير دفة الحكم اليوم، والتي تعارضه، وتلك التي تقود المطالب بالحقوق في أقاليم السودان المختلفة، تحمل كل هذه القيادات تلك العلل الموروثة، مضافاً إليها ضعف حاضناتهم الحزبية، وثارات صراعاتهم السياسية، هذا إلى جانب انخفاض سقوفهم المعرفية، والتي تجلت بوضوح في كيفية تعاطيهم مع مشاكل السودان ومدى استجابتهم لمتطلبات الواقع. ولهذا لا يتوقع من هؤلاء جميعاً أن يخرجوا بالسودان إلى سودان المستقبل المستقر الموحد المتعايش. إن سودان المستقبل في ظل إرث الصراعات، وأزمة القيادات، وتهالك الحضانات الحزبية، وفي ظل تجدد مصالح القوى الدولية وتوسعها، ودخول حقبة ما بعد الحداثة بما لها من آثار، لا سيما، سؤال الإخلال الذي أغفلته حقبة الحداثة، ويعيد طرح نفسه الآن في مستوى جديد، فإن سودان المستقبل يتطلب قيادات ذات عقول جديدة. إن أهم سمات هذه القيادات هو امتلاك الرؤية والقدرة على التحدي والتفاعل مع العصر، والمعرفة بتاريخ السودان، والإدراك لأبعاد آركيوليوجيته الثقافية، والوعي بإرثه الحضاري، والعمل انطلاقاً من الواقع لا من فوقه، والرغبة القوية في البناء الجماعي، والزهد الحقيقي في الثأرات السياسية، والإدراك الذكي لمطامع القوى الدولية. إن القوى الدولية تحرص على تبني القضايا الداخلية كضامن لمصالحها وشرط أساس لاستمرار هيمنتها. لا بد لهذه القيادات أن تكون في تكوينها الفكري والمعرفي عابرة للمدارس الحزبية ونظريات عصر الحداثة، لتستطيع تحقيق الإنجازات الاستراتيجية والانتصارات للشعوب، وليس إنجازات ترقيعية آنية وانتصارات جهوية أو حزبية ضيقة. مثل هذه القيادات لا تتوفر إلا في الأجيال الشبابية القادمة، فهي بأحقيتها في المستقل، وبحكم العصر وتجارب الشعوب المبذولة في الفضاء المعرفي الكوكبي، تمتلك القدرة على التفاعل مع الواقع ومعطياته، وبحكم الفطرة وفرص التعلُم الذاتي، تمتلك الشجاعة العقلية وقوة الحاسة النقدية، وستكون هي الأقدر على القيام بالمراجعة الشاملة، ومن ثم تصحيح مسار السودان». (انتهى).
إن هذا الرأي القائل بأن تؤول قيادة السودان للشباب ليس بالرأي الجديد، فقد قال به بعض المفكرين السودانيين، وكان الأستاذ محمود محمد طه قد كتب في العام 1945، ضمن كتابه: السفر الأول، قائلاً: «يستطيع السودان أن يقوم على سند من شباب قوي الأسر، قوي الأخلاق، قوي العزم على القيام بمناصرة الحق، في ثقة، وثبات، حتى لكأنه الطَود الأشم.. أو لكأنه العيلم المسجور». (أنتهى).
إن الشباب الذي يقود هذه الثورة، لهو أحق بقيادة السودان، كونه جاء من القاعدة، وظل يعيش واقع السودان، وليس لديه سودان آخر من صنعه، كما هو حال قيادات السودان منذ استقلال السودان. وقد خاطب الأستاذ محمود محمد طه هذا الواقع وعن التغيير وإصلاح الوضع، عام 1969 في محاضرة جاءت بعنوان: «الحقوق الأساسية في الدستور الدائم»، تحدث، قائلاً: أنا متأكد أنه هذه المسألة لا تجيء، إلا بثورة من القاعدة.. الشعب لا يصلحه إلا قيادة تنبع منه.. لذلك لا يمكن أن يكون هناك صلاح لهذا الوضع، إلا إذا كانت الثورة من القاعدة نبعت منها القيادات. وأضاف، قائلاً: «القيادات التي تتولى الأمر في الوقت الحاضر ليست قيادات الشعب، ولا تعيش في سودان الشعب.. عندها سودان من صنعها لوحده..»
نحن في حاجة إلى نظر جديد لتأمل وفحص الشؤون السودانية، وفي حاجة لقيادات جديدة، أهم ما يميزها التضحية في سبيل الوطن، والتحرر من المعرفة الاستعمارية والإرث السياسي، والتجاوز للثأرات السياسية، والعمل بقيم البناء الجماعي للوطن، والإيمان بوحدة المصير المشترك، ويقيني بأن هذه الشروط تنطبق على شابات السودان وشبابه، وقد ترجموها عملياً أمام أعيننا، ولهذا يجب علينا الاحتفاء بهم، وتكريمهم، بالانتقال من وضعية القاعدة إلى وضعية القمة، وعلينا كذلك أن نمهد لهم السُبل لتولي قيادة السودان. وتكون خلاصة الرأي لجان المقاومة لقيادة المرحلة الانتقالية، وعلى الأحزاب وقياداتها أن تبدأ العمل في إعادة بناء بيوتها وقواعدها، وإعداد برامجها العلمية استعداداً للانتخابات. أما الحديث عن قلة الخبرة وحداثة السن، فسيأتي الحديث عنه في محور لاحقًا بعنوان: «معلم الشعوب وسجل لجان المقاومة: نحو درس جديد للشعوب في القيادة الشبابية للدولة».
معلم الشعوب وسجل لجان المقاومة: نحو درس جديد للشعوب في القيادة الشبابية للدولة
تعبير الشعب السوداني معلم الشعوب، لم يقل به السودانيون في وصف أنفسهم، وإنما قاله بعض المثقفين اللبنانيين واصفين به الشعب السوداني عندما فجر ثورة أكتوبر 1964. لقد استطاعت الثورة أن تتخلص من حكم عسكري بدأ في 17 نوفمبر 1958، بقيادة الفريق إبراهيم عبود (1897/ 1900- 1983)، في وقت شاعت فيه الانقلابات العسكرية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ولم تسلم منها في أوروبا حتى اليونان، موطن الديمقراطية. فما من حكم عسكري، إذا حدث له تغيير وقتئذ، إلا وتغير بحكم عسكري آخر، مثلما حدث في سوريا والعراق. وقد مثّلت ثورة أكتوبر سنة جديدة في ملاحظات وتقييم بعض المراقبين والمثقفين من غير السودانيين. لقد أورد الأستاذ محمود محمد طه في محاضرة له كانت بعنوان «ثورة التغيير من أجل الحكم الصالح» في 5 نوفمبر 1968، وصف المراقبين والمثقفين اللبنانيين للشعب السوداني، وذكر بأنهم قالوا: «بثورة أكتوبر، الشعب السوداني سن سنة جديدة، ونرجو أن تتابع الشعوب الأخرى في هذه السنة الجديدة… وبعد المراقبين الذين تكلموا عن [الشعب السوداني] في ثورة أكتوبر قالوا إنه معلم للشعوب».
إن أرض معلم الشعوب، هي أرض الثورات، لا جدال في ذلك، كون الوقائع والشواهد عبر التاريخ، تدل على ذلك، وهي كثيرة. واليوم فإن معلم الشعوب يمكنه أن يقدم درساً جديداً للعالم، بأن يتيح الفرصة كاملة للجان المقاومة، شباباً وكنداكات، لتخوض تجربة قيادة الفترة الانتقالية، وتنصرف الأحزاب إلى إعداد نفسها للانتخابات. وإذا ما نجح العناد الثوري، الهادف إلى إحداث التغيير الجذري، إلى الوصول لتقديم هذه التجربة الشبابية الخالصة في الحكم بواسطة لجان المقاومة، يكون السودان، معلم الشعوب، قد أودع درساً جديداً في مجلد الحضارة الإنسانية. فهذا الجيل الجديد الذي قدم تضحيات كبيرة وجديدة على العقل السياسي السوداني، في سبيل الوطن، لهو جدير بأن يدر شأن الوطن. وقد يرى البعض بأن هناك عقبات تحول دون ذلك، منها حداثة السن، وقلة الخبرة، وبعض مظاهر الانقسامات، وعدم وود هيكل واضح للجان المقاومة، وصعوبة اختيار طاقم حكم، في ظل غياب آلية الاختيار، وغيرها.
وهذه العقبات مردود عليها، فحداثة السن ليست عائقاً أبداً، فكثير من الذين قادوا التغيير في العديد من أنحاء العام كانوا شباباً من حديثي السن. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، كان مارتن لوثر كنج (1929- 1968)، القائد العظيم في حركة الحقوق المدنية Civil Rights Movement، ابن الـ (26) عاماً حينما بدأت الحكومة الأمريكية اعتقالاته. ولما بلغ عمره (27) كان أصغر شخص وأول قسيس يحصل على ميدالية «سينجارن» التي تعطى سنوياً للشخص الذي يقدم مساهمات فعالة في مواجهة العلاقات العنصرية. وبعد انتصار حركة الحقوق المدنية، فاز بجائزة نوبل للسلام سنة 1964 تكريماً لجهوده في مكافحة العنصرية والفصل العنصري، وعمره 35 عاماً، ليكون أصغر رجل في التاريخ يفوز بهذه الجائزة. والنماذج العالمية في ذلك كثيرة. وكان الثائر السوداني علي عبد اللطيف (1996-1948) ابن 28 عاماً حينما قاد ثورة 1924. كذلك كان معظم الذين كوَّنوا مؤتمر الخريجين في السودان عام 1938، تترواح أعمارهم ما بين 23- 30 عاماً، وعندما أسسوا الأحزاب السودانية في عامي 1944 و1945 وترأسوا بعضها، كانت أعمارهم تتراوح ما بين 29- 42 عاماً. وترأس السيد الصادق المهدي (1935- 2020)، مجلس الوزراء عام 1966، وكان عمره (29) عاماً. فالسن ليست عائقاً. أما بالنسبة للخبرة فيمكن التغلب عليها بالأخذ باللجان الاستشارية، خاصة وأن هناك جهود تمت خلال هذه الثورة. فيمكن أن يكون مع كل وزير أو رئيس مؤسسة، لجنة استشارية تتكون من (3- 5) أشخاص من المهنيين الداعمين للثورة، والمؤمنين بقيمها ومبادئها وشعاراتها. وبالطبع سيتم وضع معايير لذلك، ومن أهمها المهنية وليس الحزبية. أما مسألة الهيكل التنظيمي للجان المقاومة، ففي تقديري أنهم في تطور مستمر، سواء من حيث الهيكل التنظيمي أو عمليات انتخاب بعضهم البعض. ولا جدال في أن القادمة القادمون من القاعدة الثورية، يمثلون العقل السياسي الجديد الملتصق بالجماهير، والمحمي ضد الانتهازية بما قدمه وشهده من تضحيات. ويعبرون كذلك عن القادة الجدد، سواء في مناهج التفكير أو طرق العمل، أو في القدرة على التعاطي مع معطيات الحياة الرقمية ومظاهر الثورة التكنولوجية. فمن حمل زميله شهيداً أو زميلته شهيدة بين يديه أثناء الحراك الثوري، فهو قادراً على حمل الوطن في حدقات العيون، وقادراً على العمل والقيام بالواجب الوطني والأخلاقي وفاءً لتلك التضحيات.
ختاماً أتقدم بخالص الشكر وفائق التقدير إلى أسرة صحيفة المدائن، وللدكتور محمد بدوي، رئيس التحرير، على جهودهم وتفاعلهم وحسن تعاونهم بروح الحرص على الشراكة والمهنية. والشكر الجزيل لكل الذين عبروا عن احتفائهم بهذه المقالات، أو أبدوا ملاحظاتهم وتعليقاتهم، وهم كثر، وقد استفدت من ملاحظاتهم، وسأتفيد منها بشكل أوسع، خاصة وأنني بصدد الترتيب لإصدار هذه المقالات، مع بعض الإضافات والتفصيل، في كتاب قريباً. وذلك في سبيل الإسهام في إثراء الحوار عبر فكرنة ثورة ديسمبر المجيدة وعقلنة مسارها، بتقديم تفسير وفهم مختلف عن المعطى الجديد والأصيل في الثورة السودانية، وهو لجان المقاومة، باعتبارها حالة بعث للسودان بطاقته الضخمة، ولحظة تحرير عملي من الإرث الاستعماري ومن الرؤى المنحازة التي كانت من أهم أسباب الفشل، وقد صاحبت دولة ما بعد الاستعمار، وليس تنظيماً أو جسماً سياسياً، كما يصورها الكثير من السياسيين والمثقفين والوسطاء الإقليمين والدوليين، ويسعون للتعاطي معها على هذا الأساس. نحن في حاجة لتحرير ثورة ديسمبر السودانية، وتحرير لجان المقاومة، شوكة الثورة، من السقف المعرفي الخفيض، ومن تصورات أصحاب الامتيازات والمصالح المحلية والإقليمية والدولية، ومن خيالات «أنصاف المثقفين من أدعياء السياسة وأدعياء الوطنية»، ومن دعوات أصحاب «الخلاص الفردي»، فجل هؤلاء ضد التغيير، ويعملون، بوعي وبدون وعي، ضد سودان المستقبل، القادم لا محاولة، بقيادة المواطن/ ة الجديد/ ة الأصيل/ة، الذي جسده شباب وشابات لجان المقاومة.