ثقافة وفن

تقديم عبدالله الفكي البشير لكتاب:(1)

مُفاكراتٍ حول منهج التحليل الثقافي ... الثقافة، الدَّولة، الدِّيموقراطيَّة، الاستقلاليَّة، الأيديولوجيا، والآفروعمومية، لمؤلفه الدكتور محمد جلال هاشم

د. عبد الله الفكي البشير

غداة استقلال السودان، تحدَّث المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه عن واجب الأحرار تجاه ما تستحقه الشعوب، فكتب في صحيفة أنباء السودان، العدد رقم (162)، بتاريخ 4 أكتوبر 1958، قائلاً:

“هناك رأيٌ فيه كثير من الصحة وهو مع ذلك لا يستهويني ولا يروقني .. وذلك الرأي يقول: إن كل شعب يستحق حكومته.. وهو لا يروقني لأنه يجعل البشر كالسوائم بمعيار المثل الذي يقول كل شاة معلقة من عصبتها.. فلو أن الناس لا يتناصرون ولا يتعاونون ولا يهتم بأمور أذلائهم أعزاؤهم لما سمت حياة الأحياء في هذا الكوكب سمتاً فوق سمت. أنا لا أقول كل شعب يستحق حكومته، ولكني أقول إن كل شعب يستحق أفضل، وسيكون من واجب الأحرار في كل مكان التعاون في إنجاز ذلك عاجلاً أو آجلاً”. 

يقيني أن مؤلف هذا الكتاب: مُفاكراتٍ حول منهج التحليل الثقافي: الثقافة، الدَّولة، الدِّيموقراطيَّة، الاستقلاليَّة، الأيديولوجيا، والآفروعمومية، هو من أولئك الأحرار الذين عناهم محمود محمد طه. فالمؤلف هو الدكتور محمد جلال أحمد هاشم، رجلٌ أنفق حياته كلها ـــــ منذ دخوله كلية التربية بجامعة الخرطوم عام 1980 ــــ ولايزال، في خدمة السودان والإنسان والثقافة، عملاً وإنتاجاً، لا مجازاً أو أحلاماً أو تمنيات. تسوقك سيرته الفكرية والثقافية، وأنت تتفحص في إنتاجه الفكري والثقافي المتنوع والغزير والأصيل، إلى أنه مفكرٌ حرٌّ وثوريٌّ، وصاحب مشروع ثقافي ووطني، ظل في إطاره ملتزماً بواجب الثقافة والفكر والسودان والإنسان. إذ يكشف سجله الوطني عن أنه باحث جاد وشامل في تشخيص شؤون الوطن، ومناضل جسور وحاضر في كل المواسم الوطنية، يسد مسد المتقاعسين عن تشخيص قضايا الوطن في مجالات تخصصهم، ويفدي الكُسالى، وبناة الوطن عبر الأحلام والتمني. فلقد ظل ينتج المعرفة بجد وعمقٍ وإتقان واستمرار، ويقود في سبيل الوطن وشعوبه المواجهات، وهو ينشد التغيير الجذري والشامل، رافضاً الحلول الترقيعية، وأطروحات “أنصاف المثقفين من أدعياء السياسة وأدعياء الوطنية”. كان قد أعلن منذ صباه انحيازه إلى المهمشين، والمستضعفين، والمقموعين، والمبعدين، والمقصيين، والمغيبين، والذين هم خارج السجلات الوطنية. واتبع إعلانه بالعمل عبر أدوات المثقف الحر المنتج للمعرفة، ومنها: الكتاب والمقال والبيان والمحاضرة وإقامة الحوارات والمفاكرات، كما يدل على ذلك كتابه هذا. وجعل من ذلك الانحياز فضاءً لتأملاته وميداناً لدراساته عن السودان ومكوناته ومساره منذ آلاف السِّنين وحتى اليوم. فقدم أطروحاتٍ أصيلةً، كشفت عن ضعف السقوف المعرفية، وخطل السائد والمألوف بشأن السُّودان وشعوبه وثقافاته. مثَّلت تلك الأطروحات أهم مرتكزات مشروعه الثقافي، الذي أضحى من مغذيات تنمية الوعي وخدمة التنوير، ومرتكزاً أساسياً في جهود تحرير العقول، وتصحيح التصورات.

تعود معرفتي بالدكتور محمد جلال هاشم إلى بداية تسعينيَّات القرن الماضي، عندما التحقت طالباً بكلية الآداب، جامعة الخرطوم. وبرفقة بعض الزملاء، قادنا الظمأُ والشغفُ بالفكر والعلم والثقافة، إلى التنقيب خارج قاعات الدرس، فوردنا مكتباتِ ومنابرَ الجامعة الحوارية، فكانت قاعة الشارقة بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، إحدى أهم منابر التنوير والحوار العلمي، وكان محمد جلال هاشم ــــ وهو وقتها يعمل بالمعهد ــــ أحد فرسان السجالات والمُصاهلات الفكرية فيها. وكان مثيراً للجدل في نقده وأطروحاته الجديدة الغريبة، آنئذٍ، داخل القاعة، والمرفوضة من قبل الكثير من الأساتذة. فهي أطروحات كانت، ولا تزال، خارجة عن التشابه، وتُناقض المألوف، وتدعو للثورة على السائد والموروث الأكاديمي ومُسلَّماته. ولم يمض وقتٌ حتى أصبحنا نرتاد مكتبه، فكان لنا بمثابة الواحة الفكرية والثقافية. كان المكتب مكتظاً بالكتب، واللوحات التشكيلية والأثرية، والمجسَّمات والعديد من تعابير الفن والثقافة. كما رأينا، في مكتبه ــــ ولأول مرة ــــ عناوين كتب الأطروحات الجديدة، والرؤى النقدية، وسمعنا منه أسماء الكبار من الكُتاب والمفكرين والشعراء والتشكيليين في السودان والعالم؛ كذلك أتاح لنا مكتبُه الفرصةَ للقاء الكُتَّابِ والشعراءِ، فضلاً عن المتابعة للإصدارات الجديدة من الكتب السودانية والعالمية. وكان يكرمنا بالصبر على أسئلتنا، وبالمراجعة لبدايات كتاباتنا، بلطفٍ وسعة صدرٍ ومحبة، وكأنه يراهن علينا في بناء السودان والمستقبل. ولهذا فإنني سعيدٌ غاية السعادة بكتابة هذا التقديم الذي شرفني محمد بكتابته، كونه أتاح لي الفرصة للتعبير عن شكره وفضله، ولتقديم شهادةٍ صدق في حق رجلٍ، هو أهلٌ للشهادة والتكريم والاحتفاء. ولهذا جاء التقديم عابراً لهذا الكتاب فتناول طرفاً من مشروعه، واليسير من دوره في تنمية الوعي، وبناء الوطن، وذلك من بابِ الاعترافِ له بالفضل، والاحتفاء بالعطاء الوطني والإنساني، وإحقاقاً للحق.

صدر الكتاب في طبعته الأولى عام 2018، وكان ثمرة لمفاكرات ونقاشات نشبت حول منهج التَّحليل الثَّقافي، وهو منهج تبلور بوصفه رؤية فكرية عند المؤلف ولفيفٍ قليل العدد من زملاء الدراسة عام 1983؛ وقد ظهرت أولى كتاباته عنه عام 1986م، ثم أخذ المؤلف يطوِّر ويفصِّل فيه، ويشخص به القضايا، وهو كما وسمه المؤلف “منهج جديد ومختلف”، وسيرد الحديث عنه لاحقاً.

وصف المؤلف تلك المفاكرات، بأنها: “جرَت في سياق نقاشاتٍ عفويَّةٍ تبودلت في وسائط التّواصل، الاجتماعي”، فكان لها الدور الأساسي في تشكيل الكتاب. ويقول المؤلف في مقدمة الطبعة الثانية: “لعبت محاوراتُ ومناقشاتُ الوسائط الاجتماعيّة الحديثة (مثل الفيسبوك Facebook والواتساب WhatsApp وغيره) الدَّور الأساسي في تشكيل هذا الكتاب”. وانطلاقاً من إيمانه بالحوار عبَّر المؤلف عن سعادته بمختلف الآراء التي وردت عليه، وتقديره لجميع الذين تداخلوا، سلباً أو إيجاباً، وعزا الفضل في صدور هذا الكتاب لتفاعلهم ومراجعاتهم. واحتفاءً منه بالفكر، كتب ناصحاً، فقال: “إن كان لي أن أنصحَ، فذلك بأن نتَّفق مع الفكر أو نختلف معه بدرجاتٍ، تزيد أو تنقص، لا أن نؤمن أو نكفر به.  فالفكرُ، طالما كان فكراً، لا يُدحض بل يُناقش؛ وإن لم يكن فكراً، فلا يستحقُّ أن يُناقَش”. واستصحب المؤلف كل تلك المناقشات والآراء، وها هو يصدر الطَّبعة الثَّانية من الكتاب، منقحة ومزيدة، في هذا العام 2021م، التي تتكوَّن من مقدِّمة وسبعة فصول وخاتمة، وقائمة بثبت المراجع والمصادر، وجاءت في (266) صفحة من القطع المتوسط.

سعَى المؤلف في هذا الكتاب، ومن خلال أهم مرتكزات مشروعه وهو منهج التحليل الثقافي، إلى معالجة “العديد من القضايا ذات الطَّبيعة النَّظريَّة والعمليَّة”، فأعاد تعريف كثير من المفاهيم والمصطلحات في حقول الثَّقافة والسياسة والاقتصاد والفكر. فمنهج التحليل الثقافي أضاف معاني جديدة لمفهوم الثقافة، وقد فصل المؤلف في ذلك، وأشار إلى أهم ما أضافه للثقافة، وهو “نسبيّتُها، كونها تتراوح ما بين الفروقات الشخصية من فرد إلى آخر في جانب، ثم النزوع نحو التماهي والحتمية من قبل الجماعة في الجانب الآخر”. هذا مع تأمين المنهج، كما يقول المؤلف: “على جدلية الثقافة، من حيث خلوصه إلى تعددية الأقطاب الجدلية دون انحباسها في أبعادها الثلاثية الأحادية التقليدية (أطروحة Thesis، أنقوضة Antithesis، وأُجموعة Synthesis). فما يكون أطروحة في جانب، قد يكون أنقوضة في جانب آخر؛ والأجموعة التي تتشكل الآن، قد تصبح لتوها أطروحة أو أنقوضة في مواجهة أقطاب أخرى .. وهكذا دواليك”. ويُحمَد للمؤلف أنه قدم إلى القراء معالجاته وتعريفاته بتوظيف منهج التحليل الثقافي، بأسلوبٍ اتَّسم بالبساطة والوضوح والسهولة والإيجاز والمباشرة. وقد اكتسب الأسلوب تلك السمات من صيغةِ الاستفهام التي اتخذها المؤلف مدخلاً للتناول، وكذلك من المباشرة، فجعل لمعالجة كل مصطلح أو مفهوم أو قضية عنوانًا فرعيًّا، ومن ذلك: ما هي الثّقافة؟ ما هو الوعي الثقافي؟ ما هي الدولة الوطنية؟ ما هو الشعب؟ وما علاقة المصطلح بمؤسسة الدولة؟ الدولة الوطنية وسؤال الهوية، الدولة الوطنية ومفهوم الأمة، الطبيعة الجدلية لمؤسسة الدولة الوطنية، الحرب الأهلية ظاهرة ارتبطت بالدَّولة الوطنية، ضبابية مفهوم العِرق، ولكن من العرب؟ كيف نواجه العنصرية الصادرة من الأفراد والجماعات والبلدان؟ ماذا يبقى لدينا بعد هذا؟ وما المخرج؟ من أين تأتي الموضة؟ مرة أخرى؟ كيف نواجه العنصرية عملياً؟ وهكذا.

وفي سعي المؤلف إلى معالجة العديد من القضايا بمنهج التَّحليل الثَّقافي، كأنه أراد أن يجعل من هذا الكتاب كتاباً تأسيسيَّاً لمشروعه، وتعليمياً عنه كذلك بقدر ما هو تلخيص لمشروعه. فقد تناول موقف منهج التَّحليل الثقافي من حركة الآفروعمومية، فقدم رؤية تجاه المشروع الآفروعمومي السوداني، والدَّور المناط بمدرسة منهج التحليل الثقافي إزاء حركة الآفروعمومية. وتناول كذلك موقف منهج التَّحليل الثَّقافي من الاقتصاد. وتكاد صيغةُ الاستفهام أن تكون حاضرةً في كل فصول ومحاور الكتاب. فعندما خصَّص محوراً بعنوان: “منهج التَّحليل الثَّقافي وصراع الهامش والمركز”، جعل المدخل لمعالجته صيغة الاستفهام: ما هو المركز؟ وما هو الهامش؟ فالتّهميش، عنده، لا يتصل بالجغرافيا أو العرق وإنما “تنموي وثقافي”. والتهميش، كما جاء في كتاباته، يجري على نوعين: “تهميش بسيط وتهميش مركّب. التهميش البسيط ذلك الذي ينحصر في الحرمان التنموي والاقتصادي. في هذا يتساوى جميع السودانيين بمختلف ثقافاتهم وأقاليمهم باستثناء صفوةٍ منهم يشكلون المركز وينتمون إليه. أمّا التهميش المركّب، فهو الذي يجمع بين الحرمان التنموي والحرمان الثقافي ممثّلاً في توجّهات الدولة الأيديولوجية لمحق الهويات غير العربية وقتل لغاتها”  أما المركز، كما يرى محمد جلال، “ليس إلا مجموعة من الصفوة المعاد إنتاجها ثقافياً ــــ ومن ثم أيديولوجياً ــــ داخل حقل الثقافة العربية الإسلامية عبر عملية من الأدلجة والتشكيل، الأمر الذي يُفضي في النهاية إلى شيء لا علاقة له بإنسانية هذه الثقافة نفسها وبذلك ينسفها”. فالمركز، عنده، أيضاً، لا يرتبط بعرق ما، أو جهة ما، “فالمركز مركز صفوي يحتكر السلطة والثروة، وفي سبيل تأمين مصالحه يسخّر الثقافة والعرق والدين والجغرافيا”.

عالج محمد جلال في كتابه هذا، وبمنهج التَّحليل الثقافي، قضايا الديموقراطية، وما بعد الحداثة، وعلاقات النَّوع، وأجناس الموسيقى الأدائيَّة في السُّودان، والإبداع بوصفه آليَّةً لإحداث التَّغيير، وظاهرة الحرب الأهليَّة. كما خصَّص الفصول الثلاثة الأخيرة من كتابه لقضايا الأيديولوجيا الإسلاموعروبيَّة، فتناول في الفصل الرابع مصادرها التَّاريخيَّة، وأصولها ومصادرها في السُّودان، كما اتخذ من دولة سنار نموذجاً، فهي عنده سلطنة إفريقية سوداء ذات أيديولوجيا إسلاموعروبية! وعالج التَّمفصُل الأيديولوجي للقوى السِّياسة السُّودانيَّة، قوى اليمين واليسار والوسط السوداني. ودرس الفصل الخامس مؤسسات الأيديولوجيا الإسلاموعروبيَّة في السُّودان، فوقف عند الجلَّابة! من هم وكيف تشكَّلوا؟  والتصوف وأيديولوجيا الطَّائفيَّة.

( يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق