سياسة

خيارات مقتدى بعد تحولات الحائري الايرانية

علي شندب

قبل بيان إستقالته، التي أعقبها إعلان مقتدى الصدر اعتزاله، لم يكن اسم المرجع كاظم الحائري معروفاً خارج الإطار الحوزوي. لكن بيان استقالته الذي تضمّن خارطة طريق تفصيلية لمقلّديه، سرعان ما تحوّل الى هزّة أمنية سياسية أصابت العراق وخصوصاً المنطقة الخضراء التي اقتحم فيها أنصار التيار الصدري القصر الجمهوري الذي يتخذه مصطفى الكاظمي مقراً لحكومته.

ما نحن بصدده، ليس تسليط الضوء على تطورات المنطقة الخضراء، التي ورغم أعداد القتلى والجرحى يمكن القول أن مقتدى الصدر قد أحكم لمدة 24 ساعة سيطرته بالناس والسلاح على كل بغداد وليس فقط المنطقة الخضراء، ولينهي عصفه السياسي بزجر أتباعه لمغادرتها خلال 60 دقيقة، ومنعهم حتى من المظاهرات السلمية، لأنّ «القاتل والمقتول في النار».

ما نحن بصدده، هو تسليط بعض الضوء على الحائري الذي وللمناسبة كان محلّ تشريح عدة مقالات ومقابلات متلفزة لعارفي الرجل ومعاصريه. فاستقالة الحائري هي الفعل، واعتزال مقتدى هو ردّة الفعل. فمن هو هذا الحائري الذي كان لبيان استقالته غير المسبوقة في تاريخ المرجعية تداعيات لم تضع كامل أوزارها بعد، وكيف لمرجع الصدريين النجفي، أن يختم حياته بمطالبتهم تقليد مرجع الإيرانيين القمّي؟.

لأنّ حزب الدعوة الذي أسّسه محمد باقر الصدر (الصدر الأول) ، قد اتخذ مساراً سياسياً بخلاف الطريق الدعوي الذي تأسّس لأجله، خرج منه الصدر الأول وطلب من كل المعمّمين ورجال الدين أن يحذو حذوه. ففعلوا، باستثناء الحائري ومجموعة صغيرة. ما دفع الصدر الأول الى طردهم والحائري من «البراني خاصته» أي مقره في النجف، ليغادر المطرود الحائري منتصف السبعينات الى مسقط رأسه في قمّ.

بعد انتصار الخميني على الشاه، واندلاع الحرب الإيرانية العراقية، التقى الخميني برؤساء الأحزاب الإسلامية الشيعية العراقية، وطلب منهم تطويع كوادرهم العراقية المتدربة على السلاح في قوات الباسيج للدفاع عن الجمهورية الاسلامية، ومحاربة الجيش العراقي. فاستجاب المجلس الأعلى برئاسة محمد باقر الحكيم، واعترض حزب الدعوة وآخرين بينهم «منظمة العمل الإسلامية» برئاسة الشيرازي. وكانت حجّة حزب الدعوة أنّه «يأخذ فتواه من فقيه من الدعوة، وليس من فقيه للدعوة». فرشّحوا كاظم الحائري الذي أصدر كتابه «دليل المجاهد» المتضمّن «فتاويه الجهادية» التي لشدة تطرفها وقسوتها كانت سبباً في إطلاق توصيف «ابن تيمية الشيعة» على الحائري الذي اشتهر بعد فتاويه المتشدّدة بأمواله المستجدة.

وينقل الإعلامي العراقي محمد السيد محسن عن مسؤول المكتب السياسي لحزب الدعوة وقتذاك الشيخ العاصفي قوله «اكتشفنا أن الحائري كان لديه أموال، واشترى «فلل» في تجريش بشمال طهران، وكان لديه سفينة تعمل، فعرفنا أن هذه الأموال هي أموال حزب الدعوة التي يتبرع بها أناس للحزب، وكان يفترض أن تصل الى التنظيم. ولذلك قرّرنا أن نُخرج الحائري من الحزب خلال اجتماع سُمّي باجتماع «الحوراء زينب» الذي ألغوا فيه فكرة أن يكون الفقيه من الدعوة، لصالح فكرة فقيه للدعوة، وأعلنوا التزامهم بما تقرّه المرجعية في النجف». رغم هذا فقد أصدر الحائري «المشكوك بأمانته» وباسم مستعار كتاب «قرار الحذف» الذي يدافع فيه عن نفسه، ليستمر كفقيه للدعوة، لكن مكتب الدعوة السياسي رفض طلبه.

وفي مقابلة متلفزة يقول «ضياء الشكرجي» وهو من الرعيل الأول لحزب الدعوة «أنّ الحائري طُرد من الحزب ليس بسبب فتاويه، بل بسبب أموال حزب الدعوة. وكان الحزب أوّل من اتهم الحائري بشبهة الفساد المالي التي تتضمنها مناقشات محاضر مؤتمر الحوراء زينب. وتعليقاً على أحداث المنطقة الخضراء الأخيرة يقول الشكرجي «إشعال نار الفتنة جاء من قم».. فالدولة العراقية ليست شرعية بحسب الحائري، الذي سبق وأصدر فتوى صريحة بسرقة الدولة. ما يعني أن الفساد الذي نخر دولة العراق الجديد، محمي ومحصّن بفتوى، وهذا ما ينبغي عطفه على طلب الحائري من مقلّديه الإلتحاق بمرجعية ومرشد الجمهورية الاسلامية علي خامنئي وتقليده.

تقليد رفضه مقتدى الصدر وجمهوره الذي لا يرى سقفاً أعلى من سقف زعيم التيار الصدري، بدليل الخطوة المثيرة للاهتمام التي أقدم عليها وكيل الحائري في بغداد السيد علي الموسوي، الذي جمع رسائل الحائري وكتبه، وحرقها قائلاً «بعد أن قال السيد الحائري بأن نرجع الى السيد الخامنئي، فلا يشرفني أن أقلّد هذا الرجل الذي باع العراق وانهزم..».

كثيرة هي الأوراق التي استجمعتها ايران عبر الزمن لتحرقها بعد صبر استراتيجي مدروس في التوقيت المناسب. لكن النيران اليوم أخذت تلتهم ثوب مرجعية النجف، بتواطىء أحد المراجع المحسوبين عليها والذي لم تكن استقالته المفاجأة الوحيدة غير المسبوقة. فالمفاجأة الأكثر إثارة للفتن قبل الجدل، كانت في طلبه من مقلّديه، تقليد مرجعية قم بدلاً من مرجعية النجف. ويبدو الحائري في قراره هذا، كمن ينتقم وبمفعول رجعي من مؤتمر الحوراء زينب الذي أوصى باتباع مرجعية النجف.

ترى ألهذا الحدّ الخطير بلغ اختراق إيران لمرجعية النجف التي لم تزل تلوذ بالصمت حيال التجاوز عليها، فلم تنطق إلّا ببعض عبارات التأسّف على ضحايا مواجهات المنطقة الخضراء واشتباكات البصرة التي دفعت قيس الخزعلي لإغلاق مكاتب عصائبه في عموم العراق وحتى إشعار آخر؟.

بالنسبة لمقتدى الصدر، فاعتزاله الأخير، هو الخامس وليس الأول. فهو لطالما اعتذر ثم تراجع، ولطالما أطلق جيش المهدي ثم حلّه، ولطالما فعل الشيء ونقيضه في توقيت واحد أو متقارب. لكنّ ضربة ايران الأخيرة لمقتى بيد الحائري، شكّلت إغتيالاً معنوياً له، وربّما حررته. ضربة ليست كسابقاتها بكل حال، فكيف سيتصرف المعزول – المعتزل والمعتذر. بل وكيف سيواجه تغوّل ايران وتوغلها في العراق وصولاً الى حوزاته الساكتة منها والناطقة؟.

ممّا لا شك فيه، أن مقتدى الصدر نفّذ نصف آخر أوامر مرجعه المستقيل، بالاعتزال دون التقليد. ولأنّ تقليد الميّت جائز ومشروع، فلربما عاد مقتدى الى تقليد والده بوصفه «المرجع الأعلم». لكنّ سمات شخصية مقتدى القائمة على التردّد والتمرد والرفض، ستدفعه لاعتماد خيار أوضح بهدف الردّ على الواقفين وراء إهانة الحائري له، ما يرجح توجّه زعيم التيار الصدري لتقليد المرجع العربي الوحيد في النجف الشيخ فاضل البديري. إنّه التقليد الذي اذا ما حدث، فسيعيد لمرجعية النجف الكثير من وهجها، كما سيعيد لمقتدى بعض التوازن مع أوراق قوة إضافية، سبقه «ثوار تشرين» لامتلاكها وإشهارها إنطلاقاً من «ساحة النسور» في بغداد تحت شعار كتب بالخط الأحمر العريض «ايران لن تحكم العراق».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق