
أبو بكر الصديق على أحمد مهدي
فتح ديكارت نافذته، جاهراً بصوته الجهوري المجلجل من خلالها: «لا شيء مما كنت أحسبه من قبل حقاً الا وأستطيع أن أشك فيه بوجه ما، وليس ذلك من طيش ورعونه وانما يقوم على أدلة قوية جداً، وعلى طول روية وامعان نظر». وبغض النظر عن كل شيء، وعن أي شيء، استمر ديكارت في شكوكه، شاكاً -صادقاً كان في سلوكه أم كان غير ذلك، مدعياً أقصد-في كل شيء، ولم يكن وجوده المادي الجسماني بمنأى عن هذا الشك الديكارتي، وذهب بعيداً أعمق في شكه فاحتوى ذاته، ولكنه استثنى -من هذا الاحتواء-تفكيره العقلي. يقول ديكارت «»أنا أفكر اذاً أنا موجود» كانت من الثبات واليقين بحيث لا يستطيع اللاأدريون زعزعتها بكل ما في فروضهم من شطط بالغ، (ومن ثم).. أستطيع مطمئناً أن أخُذها مبدأ أول للفلسفة التي أتحراها وأنشدها.»»
وإذا كان ديكارت -بطرحه لهذا المبدأ الفلسفي-أكد على ان الفكر يجب أن يبدأ من ذاته، وارسي بذلك اساساً قوياً لمجمل التفكير الغربي، لكننا نجد أن هذا المبدأ، قد طُرح سريرياً، ووضُع تحت رحمة مشرط الدراسة الحاد، وبين فكي النقد اللاذعين. ويتعلق هذا المبدأ في الحقيقة بمحاور أو مكونات أربعة وهي الأنا التي تفكر، والتفكير، والوجود والواقع. فعندما تفكر «الأنا» تستنتج وتصل -من خلال فعل التفكير- لخلاصة مفادها «بأنها موجودة لا وجوداً خالصاً، وانما وجود واقعي». فبأي حق اذاً يحق لنا التحرك والانتقال من التفكير الذي هو فعل عقلي خالص الي اثبات الوجود الواقعي – أو عبر القراءة أو الدراسة المعرفية (الأبستمولوجية) للمبدأ- الي معرفة أنني موجود؟ …
يقول كانط «ليس لدي معرفة عن كيف أكون، بل لدي معرفة عن كيف أظهر لنفسي فحسب.» وشتان بين هذه وتلك، فالاختلاف باين «بين وعي الذات بنفسها ومعرفة الذات لنفسها». وإذا درج ديكارت على ترديد «أن النفس جوهر متميز كل التميز عن البدن… وفكرتنا عن نفسنا أو عن فكرنا سابقة عن فكرتنا عن الجسم… وأكثر يقيناً.» فالواقع يردد عكس ما يردده ديكارت «فنحن لا نملك القدرة على تحديد حدساً حسياً للنفس، وبذلك تفقد المعرفة بالنفس -من المنظور الكانطي- شرطها الأساسي. وهذا لا يعني انكار النفس وانكار وجودها، ولكنه -أي كانط- يعتبرها شيئاً في ذاته لها وجود على مستوى آخر، حيث انها ليست الا «مجرد علاقة بالموضوع».
والحقيقة أن المثالية الديكارتية قد تطرفت ايما تطرف في ايمانها بقدرة الفكر وحده على المعرفة واهمال أو تقليص دور الحواس. ويقول ديكارت في هذا الصدد: «… قد تبين لي الآن أن الأجسام ذاتها لا تعرف الحقيقة بالحواس أو بالقوة الواهمة (المخيلة) بل بالذهن وحده، وأنها لا تُعرف لكونها تُرى وتُلمس بل لكونها تُفهم أو تُدرك بالفكر، ومن ثم كان منطقياً أن يلغي معظم أو بعض الديكارتيين وجود الأشياء الخارجية -أي وجود عالم خارجي من أشياء، وجوداً مستقلاً عن الانسان-، ويجعلوا وجودها رهيناً بالفكر وحده انطلاقاً من تقليص دور الحواس.
ووقف كانط موقفاً رافضاً لهذا الاتجاه الديكارتي تماماً لأنه يجعل الأشياء تبدو وكأنها أحلام مزعجة تأخذ طابع الهلوسات، فيصرح بالقول القائل «أن المثالية التي أفهمها على أنها مثالية مادية هي النظرية التي توضح أن وجود الموضوعات في المكان خارجياً اما أنه موضع شك، ومن ثم لا يمكن البرهنة عليه، وأما أنه كاذب ومحال. المثالية الأولي هي مثالية ديكارت… والثانية هي مثالية باركلي الدوجماطيقية التي تعلن أن المكان وكل الأشياء التي يكون المكان شرطاً لها لا ينفصل عنها هي أمر مستحيل في ذاته، ومن ثم فان الأشياء في المكان تصبح مجرد خيالات»…
وهكذا تحدث باركلي، «الوجود إدراك»، فهو هنا يقر صراحةً وبكل الشفافية المطلوبة «أن وجود الشيء يتطلب أن يكون موضوعاً للإدراك الحسي، وليس بوسع التفكير الإنساني أن يؤسس وجود الشيء.» وهذا ما يؤكده هو عندما يفكر بصوته القوي.. «ان المنازل والجبال والأنهار، وباختصار الكلام، كل الموضوعات الحسية لها وجود طبيعي أو واقعي متميز عن وجودها المدرك بالفهم»، ولكنه أي باركلي يذهب مذهباً لاهوتياُ ميتافيزيقياً حيث يقول: أن العقل الالهي هو وحده الذي يقوم فيه الوجود الحقيقي للأشياء، اذ تفوه معترفاً بالآتي: «اننا نجهل ليس فقط الطبيعة الحقيقية للأشياء، بل اننا لا نعلم إذا كانت الأشياء موجودة أم لا، فنحن ندرك حقاً ما يبدو لنا من الأشياء أو صورها. ولكن هذا لا يدل على أن هذه الأشياء موجودة حقاً وجوداً واقعيا.» ولكنه ينتبه، ثم يستدرك هامساً: «من الواضح أن لهذه الأشياء وجوداً خارج عقلي ما دمت أجدها في التجربة الحسية مستقلة عني تماما، فلابد أن يكون هناك عقل آخر تكون موجودة فيه في الفترات التي أنقطع خلالها من ادراكها … وما دام هذا الأمر ينطبق على جميع العقول المتناهية الأخرى فلابد من وجود عقل آخر أزلي حاضر حضوراً دائماً، ومحيط بكل شيء. وهذا العقل هو الذي يعرف ويدرك جميع الأشياء».
وبعدها، وفي مريود.. خاصةً، زفر الطيب صالح.. زفرة من وجد وشجن، ومن حنين وذكري… «كانت مثل طائر، رفعها محجوب من نعشها فشهق ضوء المصابيح عل حافة القبر، وسمعتُ هبوب أمشير تناديني بلسان مريم)) لا شيء، لا أحد،)). خطا بها نحو القبر، فاعترضت طريقه، ومددت يدي. نظر الي برهة، ورأيت عينيه ترقان وتغرورقان، فتركها لي. كانت خفيفة مثل فرخ طائر وأنا أسير بها في طريق طويل يمتد من بلد الي بلد، ومن سهل الي جبل. لم يكن حلما، أبدا، كانت مريم نائمة على كتفي. سرت بها على ضفة نهر الي وقت الضحى، فأيقظها لفح الشمس على وجهها، انفلتت مني وقفزت في الماء، كانت عارية. أشحت عنها، ولكنني لم أطق صبرا فأدرت لها وجهي. نظرت، فاذا هي في بركة من الضوء، وكأن أشعة الشمس هجرت كل شيء وتعلقت بجسدها. كانت تغطس وتقلع، تختفي هنا وتظهر هناك، وتضحك لي من جهة اليمين، ثم إذا هي تناديني من جهة اليسار.. نعم.. نعم.. نعم… أريد أن أغرق في نبع ذلك الضوء، الذي ليس من أضواء هذا الزمان، ولا هذه الأرض.. ولكنني ترددت، ليس أكثر مما يطرف جفن العين.. في تلك اللحظة، عاد الشعاع الي منبعه، وذهب الطيف، لا أعلم الي أين… ناديت بأعلى صوتي (يا مريوم.. يا مريوم..) فعاد الصدى مجسما بألسنة شتى (يا مريود.. يا مريود..).».. ولا شك في أن هناك من لا يشك في أنها كانت زفرة الوجود واللاوجود.. حيث لا زمان يرمز لأيامها.. ولا مكان يشير لأرضها… انها.. اضغاث أحلام.. ولكنها حق.. وإنها لحقيقة… وهل لنا أو علينا.. أن نشك لنعرف؟!!
وللحكاية بقية.. وكمان نهاية…
المصادر:
• زكريا، ف.، 1991. نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان. مطبعة مصر: دار مصر للطباعة.
• فروم، أي.، 2011. فن الوجود: (ترجمة: ايناس نبيل سليمان). الطبعة الأولي. دار الحوار للنشر والتوزيع.
• كانط، أي، (د. جمال محمد أحمد، اشراف د. أحمد عبد الحليم عطية).، 2009. أنطلوجيا الوجود. دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع.
• محمود، ز.، 2017. نظرية المعرفة. مؤسسة هنداوي سي آي سي. المملكة المتحدة