
ساعة ونصف مع عاشق الحقيبة
إبر اهيم الحسن شمو
في حي العباسية العامر العريق بأم درمان وبالقرب من محطة سنادة وعلى بعد منزلين من المحطة وفي بيت صغير يجمع بين التحضر والتراث لبيوت أام درمان يسكن عاشق الحقيبة بادي محمد الطيب في هدوء فني تام، في داخل المنزل شجرة نخل وشجرة دوم شهدتا عصورا طويلة حافلة بالحياة بكل معانيها، وهناك جدران جزء منها من الاسفلت والغالب الأعظم من «الجالوص» هكذا كان المنزل، وإن كان هناك شكر بعد الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) فيرجع إلى الصديق المهذب محمد عمر وهو ذو صلة قرابة بالأستاذ بادي الذي ساعدنا أيما مساعدة في تنظيم هذه الزيارة، زيارة اشبه بزيارة الكاشف التي قال فيها «افكاري حيارة ضاعت باختياره… قلبي تاه في يوم الزيارة».
بدأت الحديث مع عاشق الحقيبة بعد الانتهاء من اداء صلاة المغرب إذ كان يصلى وهو يرتل في القرآن بتأنٍ وسلاسة، حدثه أحد افراد المنزل الذي يسكن فيه أن هؤلاء هم الضيوف الذين أخبرك عنهم محمد عمر عن الزيارة التي يودون أن يستمتعون بها معك، فرحب أيما ترحيب، بدأت اسأله عن فن الحقيبة وعن ذلك العهد الذي غمرته عصور وأزمنة بكل ما تحول من خير وشر ورغم ذلك ظلت ذكراه تهيج في النفوس الى الآن!
تحدث العم بادي بذاكرة قوية وهو الآن وصل الثمانين من العمر وقال إن الحقيبة تأثرت بلغة القرآن الكريم أي إن النطق في غنائها يحتكم الى معرفة تجويد القرآن الكريم لأنه يساعد كثير في النطق السليم لها مثل أحكام النون الساكنة والإدغام والغنة وال الشمسية وال القمرية والمد والوقوف والسكون والخ… وإن هذا مهم في معرفة اداء الأغنية بصورة واضحة وان أي تجاوز فيه لا يعطي الكلمة حقها ومستحقها الامر الذي يضعف القصيد.
ضرب مثلاً مستشهداً بقراءة سورة الفاتحة التي تحتكم في قراءتها الى المد المتواصل. وان المد استخدم في كثير من كلمات شعر الحقيبة على سبيل المثال لا الحصر فيه.
ذكرت له إننا نحن اليوم سعداء جداً بزيارة أم درمان في وقت الأصيل «عند الأصيل لازم نعود» وقد استمتعنا بمنظر النيل عند الغروب والتقاء «الازرق بالأبيض» في المقرن وكان جوابه ممزوجا بكلمات الشاعر عمر البنا والحان وأداء كرومة في أغنية «أم در وأعوده» «إمتى أرجع لي أم در وأعوده» واشوف نعيم دنيتي وسعوده… في الهجر روحي راح مجهودة»… أشواق كثيرة والدموع شهوده.. إمتي يا رب تهون لي تاني عوده» وبدأ يسرد في شرح المعاني التي كانت سبب زيارة الشاعر عمر البنا وكرومة للبنان وهبوطهما عند مصر سبب قوي في صياغة هذه الألحان والكلمات هذا ما يقودنا عند الحديث في «عبقرية المكان» وسر انجذاب الإنسان به الأمر الذي أحدث حيرة عند علماء الأنثروبولوجي» ولا أخفي أن اتذكر بأن لعبد الله الطيب حديثاً وكتابة عن هذا السر المحير.
قاطعته الحديث متأسفاً بسؤال عن كيفية تعلقه بالفن اصلاً اذ يقول ان اصله لم يلق من التعليم إلا دراسة الخلوة وحفظ القرآن الكريم، وكان ينشد و الأغاني التي وفرتها له البيئة التي عاش فيها وهي «حلة عباس» الحلاوين في ولاية الجزيرة وهي مسقط رأسه وأهله، وإنه كان يتسلل عند الليل للحفلات في القرى المجاورة لها وبدأ اصلاً كشيال أي كورس مع الفنانين وقتها ومن هنا كانت البداية الفنية ولا ينكر ان أخاه الاكبر كان فناناً وهو ما مهد له الطريق الفني الطويل، ولما اشتد ساعده وفد الى الخرطوم كشاب فنان يعشق فن الغناء الحقيبي وفي مسمى آخر الغناء الشعبي لأن وقتها بدأت حركة التجديد تظهر في الفن الحديث الذي هو أقرب الى فن اليوم الاوركسترالي.
لا يخفي العم بادي فضل عميد فن الغناء السوداني الحاج محمد أحمد سرور عليه ويقول لي أن عظمة سرور في الغنا لا تقل بشيء عن عظمة فن دافنشي عند الاوربيين وان اول بداية فنية رسمية له اعتمد على اغاني سرور وبعدها الى أغاني كروان السودان كرومة حيث طلب الناس أن يغني أغانيه ولبادي عشق عظيم لسرور مسكون بأغنياته «الفي دلالاه» «قائد الاسطول» ولا ينسى فضل الراحل «خضر حمد» على سرور في تسوير قبره وتمييزه له وكلمات عبد القادر كرف التي وضعها على القبر.. سبحت أول ما صدحت مغرداً
وكنت في الديار أبرح من شدا
«تغشى ثراك وتستهل غمامه
تحمى وتسقى بالدموع المرقدا»
ما بين هذا الحديث عن سرور شعرت بعظمة سرور الذي توفي منذ العام 1946م تاركاً تاريخا عظيما وراءه ومن حسن الحظ ان سخر الله له أمثال بادي الذين مازالوا يبصرونه واقفا امامهم مردداً لأعظم الألحان..
الاذاعة أثيرة جداً عند بادي وللإذاعة السودانية دور عظيم في حفظ التراث الفني وهي بمثابة القاسم المشترك العظيم في ربط الوجدان الفني السوداني في آن واحد وهذا ما يقودنا بالشكر للأستاذ الاذاعي المخضرم صاحب ومنفذ برنامج حقيبة الفن الاستاذ صلاح أحمد محمد صالح ومن حسن الحظ ان برنامج الحقيبة عمره الآن حوالي 52 عاما… عازة في هواك… الليلة كيف امسيتوا يا ملوك أم در… جلسن شوف يا حلاتن.. والشكر موصول الى صلاح أحمد، وعلي شمو، والمبارك ابراهيم – وعلي المك والفكي عبدالرحمن وعبد المطلب الفحل وحالياً عوض بابكر وكل من أسهم وفاتني استذكاره لهم العتبة، يعتبرهم بادي اصدقاء اعزاء له ومن حسن الحظ قبل زيارتي له في المنزل كانت الحلقة السابقة من حقيبة الفن قدم فيها رائعة ابو صلاح «يا سمير بي نظرتك أوفي المعاد» بصوت كرومة «العيون الشافتك ما أسعده»
ولكن بمجرد السيرة عن هذه الاغنية انغمس بادي في موجة عارمة من الصراخ وبدأ يغني الاغنية بنغمة أقرب إلى كرومة.
بعد الخروج من عصر الحقيبة بدأ بادي في استذكار أسماء الجيل الذين جاءوا بعد الحقيبة مستفيدين منها أيما استفادة وهو جيل حسن عطية، أحمد المصطفى، عثمان حسين حيث بدأ مشوارهم في أواخر الاربعينات.. عصر الحقيبة والعصر الحديث لم يبعد بادي عن مواكبة الفن والنقد الفني، ويذكر ان هناك كثيرين من الشباب الفنانين يخطؤون اخطاء فاضحة في الغناء بمعنى انه لا يميز بين الوقوف والطلوع في الغناء، لا يعطي الكلمة واللحن الحق المستحق وهذه جملة مترامية على سبيل المثال لا الحصر.
يعتبر بادي أن الفن الغنائي موهبة من الله عليه وانه لم يحصر همه في جمع المادة ولو كان همه المادة لشيد القصور منها ولكن بمثابة محبة اشبه بالقدسية عنده وإنه وصل الى الناس من خلال الاذاعة والتلفزيون والحفلات الشعبية والمنتديات «ياخوي انحنا بنغني ساعة مجاني» هذه عبارة تجرد ونكران ذات متواضعة.
اقتربت الساعة من التاسعة مساء ويهمس أحد الموجودين في المنزل بأن بادي بعد التاسعة يتفرغ الى سماع الاذاعة والاخبار وبعدها الى العشاء والاسترخاء على السرير يسهم ويحلق في السماء متأملاً فيها حتى يخلد الى النوم وأشرنا إليه اننا سعيدون بهذه الاستضافة الفنية فأبدى ارتياحه الشديد وكانت هدية الوداع اغنية «عروس الروض» للشاعر إلياس فرحات وهو من شعراء المهجر وأرض لبنان الثقافة والتي غناها الراحل فضل المولي زنقار، واضاف بادي إن من أفضل ألحان هذه الاغنية هو اللحن السوداني دون اللحن العربي لها وهو أكسبها حقها ورونقها دون بقية الالحان..
يا عروس الروض يا ذات الجناح يا حمامة
سافري عند الصبح مصحوبة بالسلامة…
وتغني بها ايضا الفنان أبو داؤود…