سياسة

التنمية العمرانية … آفاق الحضارة السودانية

بدر الدين العتَّاق

أوردت صحيفة الوطن السودانية بصفحتها الإلكترونية على الفيس بوك بتاريخ ١٦ / ٩ / ٢٠٢٢ خبراً  مفاده : التعاون المشترك بين الجيش الوطني وولاية الخرطوم لمنح منسوبي القوات المسلحة السودانية قطع أرض سكنية بشرق النيل عبر خطة اسكانية توقفت زهاء العشر سنوات بتدشين والي الخرطوم المكلف بداية الاقتراع بحضور ممثل القوات المسلحة السودانية من هيئة الأركان. انتهت فائدة الخبر

التعليق على فائدة الخبر

من الخطأ بمكان مواصلة واستمرار توزيع الأراضي بذات التجارب القديمة المكررة والسالبة (الخطط السكنية عبر مصلحة الأراضي مثالاً) وإعطاء قطعة أرض سكنية لأي مواطن سواء عسكري أو مدني فذلك يخصم جداً من رصيد المواطن في حق التمتع بتوفير الخدمات لأسباب موضوعية وجوهرية والأغلبية تعرف ذلك؛ وبالتالي الأفضل للدولة وللمواطن أن يتجها للبناء الرأسي بدلاً عن البناء الأفقي بذات حق الملكية للأرض يكون حق التملك للبيوت الجاهزة بزيادة محفزات أكثر ترغيباً (شقق سكنية حديثة) وإلا فإن الحال لن ينصلح وستظل إشكالية عدم توفير الخدمات باستمرار قابعة بين ظهرانيهم مما يمثل العبء الأكبر على المواطن وتثقل كاهله بالرسوم دون مقابل وتخلق إشكالاً جديداً بين الطرفين (أيَّاً كان طرفا المصلحة) لسبب مباشر هو أن السودان بصفة عامة والخرطوم بصفة خاصة تنعدم فيهما أبسط مقومات البنى التحتية لعاصمة حضارية ودولة قوية في القرن الواحد والعشرين تنافس وتضاهي بها بقية دول العالم عمرانياً (بالتحديد موضوع المقال) والأهم من ذلك هو حق المواطن في حياة كريمة ودولة تراعي حقوق مواطنيها؛ مع العلم بأن العلاقة بين الدولة الممثلة في المؤسسات ذات الصلة وبين المواطن هي خلق منفعة ومصلحة بينهما ولهما وطبيعتها تبادلية مشتركة في الحقوق والواجبات والالتزامات؛ والقانون هو الفيصل في تنظيم هذه العلاقة بلا شك.

قبل الشروع في أي مشروع قومي جديد وبالذات موضع البناء الرأسي العمراني يجب أن تستصحب الدولة بالتعاون مع المواطن ودوره الفعَّال في قبوله فكرة البديل السكني الجديد؛ فكرة التخلي والتمسك بالملكية العضوضة وأن يكون الخيار الأفضل لهما هو حق الحياة بأفضل صورها وهذه إحداها وعلى الدولة تقوم وتكون المسؤولية الكاملة تجاه المواطن بكل تأكيد.

من أهم هذه المقوِّمات للبنى التحتية إزاء كل المشاريع الاستراتيجية للدولة  عمل دراسات جدوى فنية علمية متخصصة وبيوت خبرة من ذات طبيعة العلاقة من القطاع الخاص والحكومي تراعي البعد المجتمعي والكثافة السكانية والحوجا الضرورية للمخططات السكنية المستقبلية على أن تهتم الدولة والمواطن بالبنى التحتية لكل مخطط رأسي سكني والاستفادة من المساحات الشاسعة التي تضيع سدى ولا تصلها الخدمات (العائق الأكبر) وفي ذات الوقت تضيق الفرصة على التجار والسماسرة بعدم التلاعب في البيوع غير القانونية والاحتيالات وما إلى ذلك وخفض أو إرتفاع العقارات والأراضي السكنية مما يوفر لهما مورداً اقتصادياً مهماً بجانب الحيلولة دون وقوع للجريمة وتقليصها ومنحهم الحياة الكريمة بلا إهدار للزمن والجهد والمال .

مثال بسيط أسوقه هنا؛ تجربة جمهورية مصر العربية في بناء التجمعات السكنية الجديدة التي راعت أول ما راعته هو حقوق الإنسان المصري بأحقيته في «حياة كريمة» بإنشاء مدن سكنية ضخمة بصورة علمية حديثة مصاحبة للتغيرات والتجارب العالمية المتسارعة إذ قامت بتوفير أعداد هائلة من الشقق المفروشة وغير المفروشة مثل مدينة أسمرات بالمقطم (هناك ثلاثة مدن بذات الإسم أسمرات ١؛٢؛٣ فتأمل) والمتكونة من وحدات متعددة بمساحات مختلفة تبدأ من ٦٥ متراً للشقة الواحدة فما فوق بها خدمات حيوية مثل : شرطة، وإطفاء، وبريد ومبنى تضامن اجتماعي ومدارس وحضانات ومراكز وملاعب رياضية ومساحات خضراء وحديقة أطفال ومراكز طبية ووحدات صحية ودور عبادة وساحات إنتظار سيارات ومحلات تجارية ومجمع للمخابز ومراكز تدريب ومسارح وخلافه؛ بتكلفة بلغت أربعة مليار جنية (٤ مليار جنيه مصري) لعدد ١٨٤٢٠ شقة يستفيد منها عدد أسر بلغت ١٥٠٠٠ ألف أسرة؛ بمتوسط الأسرة الواحدة خمسة أفراد مما يعني ٧٥٠٠٠ مواطن.

كذلك مدينة بشائر (١؛٢؛٣) عبر وزارة الإسكان والجهات ذات الصلة بتمويل صندوق « تحيا مصر « / دعم وطني بنسبة كبيرة جداً /؛ زيادة عليها بناء مدن سكنية متعددة الطوابق وغير متعددة الطوابق مثل مدينة الرحاب وبدر ومدينتي و٦ أكتوبر والشيخ زايد والسادات التي ما زال العمل فيها مستمراً بجوار مدينة ٦ أكتوبر؛ والشاليهات كمدينة القونا والعين السخنة وهاي أيسلندا والساحل الشمالي والاسكندرية ناهيك عن تشغيل وبناء قناة السويس وإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة خارج العاصمة القاهرة والتي بموجبها أطلق المصريون اسم «الجمهورية الجديدة «  على بلدهم وغيرهم الكثير.

استصحاب تجربة مماثلة كمصر في بلد كالسودان مهم للغاية وهي في أشد الحوجا إليها؛ ومن الأشياء المهمة التي روعيت في قيام تلك المدن هي جودة التخطيط العالية وتوزيع واستمرار الخدمات بكل المسميات والمستويات من كهرباء ومياه وطرق داخلية معبدة وصرف صحي وإنشاء خطوط المواصلات الداخلية والخارجية الرابطة بين المدينة الجديدة والعاصمة وأقسام الشرطة وهلم جرا.

الأهم من ذلك مهَّدت الحكومة المصرية لمواطنيها بضرورة تغيير الأفهام من سكن عشوائي (ماسبيرو؛ وسط البلد؛ نموذجاً ثانياً) إلى آخر حضاري (تغيير العقل الجمعي المصري القديم لعقل جمعي مصري قادم) عبر وسائل الإعلام المختلفة إذ كان لها الأثر المباشر في نهوض الدولة ومواطنيها ووظفته خير توظيف (هذه الكلمة في هذه الصحيفة أحد أذرع الإعلام السوداني المحلي بلا شك)؛ فأزالت العشوائيات تماماً مع تعويض المتضررين وتوفيق أوضاعهم بإتاحة المزيد من فرص العمل والبدائل كما وفرت فرص عمل للحرفيين والمهنيين السكان وأماكن للتسوق ومحطات المواصلات والمترو وبقية الخدمات الضرورية لهم.

إذا كان لي أن أقترح لنقل التجربة المصرية الدولة الأقرب للشعب السوداني فأول ما أقوله باختصار شديد:

١ / إيجاد بديل للمواد ومعدات البناء من الناتج المحلي والموارد الطبيعية الذاتية؛ وأقرب الجهات المختصة لاتخاذ هذه الإجراءات اللازمة هي الهيئة العامة للمواصفات والمقاييس لإيجاد حلول وبدائل محلية الصنع.

٢ / تتولى الإدارة الهندسية بالقوات المسلحة السودانية بالتعاون مع الجهات المختصة (وزارة الداخلية والاستثمار والطرق والجسور والنقل والمواصلات والشؤون الهندسية والرعاية الاجتماعية والصحة وخلافهم) مسؤولية قيام المدن الجديدة وخصوصاً تلك الواقعة بالقرب من مناطق الأنهار والمتعرضة للسيول والفيضانات في كل ولايات السودان.

٣ / التمويل العقاري للبناء الرأسي عبر البنوك المختصة وعمل صناديق قومية لأجل نجاح المشروع القومي.

٤ / التوعية والتثقيف للمواطن عبر الأجهزة الإعلامية المختلفة وتبصيره بحقوقه التي يجب أن ينالها بحكم التطور العالمي للمدن السكنية والاستثمارية.

٥ / عمل دراسات جدوى فنية تراعي البعد المجتمعي والكثافة السكانية والحوجا الضرورية للمخططات السكنية المستقبلية على أن تهتم الدولة والمواطن بالبنى التحتية لكل مخطط رأسي سكني والاستفادة من المساحات التي تضيع سدى ولا تصلها الخدمات.

٦ / قضية التعويضات المناسبة والتي تقدرها الدولة السودانية بالتنسيق والتعاون مع المواطن عبر آليات وممثلين لهم؛ وهناك فرق كبير بين التعويض «المناسب» والتعويض « الكامل « كما يعلم الجميع للأهمية.

٧ / يعتبر المشروع مشروعاً قومياً استراتيجياً لا علاق له بالسياسة ولا السياسيين وفي ذات الوقت يصب في مصلحة الجميع بلا تحيز أو ضرر.

٨ / إنشاء قوانين تحفظ سلامة هذا المشروع القومي العملاق مع مصاحبة القوانين الموجودة أصلاً وذات صلة.

٩ / توفير فرص عمل للعمالة المهرة والمختصة بكل المسميات والمستويات لتحقيق معدل نمو اقتصادي وتحسين الدخول للأفراد والأسر صاحبة الشأن والمستهدفة مع خلق مشاريع صغيرة مصاحبة وداعمة ومربحة للطرفين تعمل على زيادة التمويل الأساس.

١٠ / تحويل أو إضافة دور صندوق الإسكان والتعمير الحكومي في مجال البناء لعمل هذا المشروع لما له من دراية وخبرة كاملتين بالتفاصيل وتجربته الطويلة في هذا المجال.

حبذا لو انتبه المسؤولون لرعاية وتنفيذ تلك الحقوق والواجبات والالتزامات المشروعة والملحة وتركوا الصراع نحو السلطة والقتال والحروب وتوجه الجميع لبناء دولة الإنسان السوداني أولاً لما فيه الخير للجميع.

أُحي من هنا الإدارة الهندسية للقوات المسلحة السودانية لدورها الكبير والمشهود في جهدها المبذول بقيام مشاريع مشابهة في الفترة السابقة وأحثهم على تبني فكرة البناء الرأسي بصورة علمية حديثة بصورة عاجلة غير آجلة فهم أهلاً لذلك قبل الشروع في تكملة اقتراع ومنح الخطط السكنية لمنسوبيها وكذلك والي الخرطوم وبقية الولاة الكرام بتغيير العقلية القديمة لعقلية جديدة مواكبة تجنباً للخسائر المالية وتحسين توظيفها بما يخدم ذات الغرض بصورة حضارية تليق بحقوق الإنسان السوداني وتحقق طموحاته بالتنمية المستدامة وتعمل على إحلال السلام الأخلاقي ثانياً ثم السلام على أرض الواقع الحادث وبالله التوفيق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق