سلايدرسياسة

نظرة جديدة لتاريخ الحكم الثنائي: السودان الإنجليزي – المصري بين 1934 و1956 (١)

Gabriel Warburg جبريل واربورج

تقديم وترجمة: بدرالدين حامد الهاشمي

تقديم:

هذه ترجمة مختصرة لما ورد في مقال بقلم البروفيسور (والخبير في الشأن السوداني) جبريل واربورج، نُشر عام 1993م في مجلة مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن في عددها السادس والخمسين.

ولد المؤلف – بحسب سيرته الذاتية المبذولة في الشبكة العنكبوتية – في برلين بألمانيا عام 1927م وهاجر مع عائلته وعمره سبع سنوات إلى فلسطين وبقي بها حتى عام 1946م حين أكمل دراسته بكلية للزراعة، ثم درس تاريخ الدول الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس (بين عامي 1961 و1964م) واللغة العربية وآدابها في جامعة لندن، التي تحصل منها أيضا في عام 1968م على درجة الدكتوراه بأطروحة عن “إدارة الحكم الثنائي بين عامي 1899 – 1916م”. وعمل بعد ذلك أستاذاً في جامعة حيفا حتى تقاعده في عام 1996م. ونشر جبريل واربورج الكثير من المقالات المحكمة والكتب عن السودان ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى، منها كتاب بعنوان ” الإسلام والقومية والشيوعية في مجتمع تقليدي: حالة السودان Islam, Nationalism and Communism in a Traditional Society: The Case of Sudan ، وكتاب “إعادة الشريعة الإسلامية في السودان في عهد النميري The Reinstatement of Islamic Law in Sudan under Numayry” ، وكتاب آخر عن الطوائف الدينية في السودان والسياسة منذ عهد المهدية، ، إضافة لعدة مقالات عن الإخوان المسلمين وأنصار المهدي والحزب الشيوعي السوداني. وسبق لنا أن قمنا بترجمة شذرات من بعض كتب ومقالات الكاتب.

المترجم

اجتذب السودان الإنجليزي – المصري في السنوات الأخيرة اهتمام الكثير من الباحثين. ويرجع الفضل في هذا، جزئيا، لسهولة الرجوع إلى المصادر الأرشيفية في إنجلترا، وفي وادي النيل لدرجة أقل. وبالإضافة لذلك، تزايد الاهتمام البحثي بالعلاقات الثنائية بين السودان ومصر، مدفوعا – بصورة جزئية – بالنظرة السياسية لدى الرئيسين السادات ونميري، وأهم من ذلك، بالتناقص الواضح في مياه النيل، خاصة في سنوات الثمانينات. وسعى الرئيسان السادات ونميري في عام 1974م لعقد ميثاق للتكامل، تم التوقيع عليه بالفعل في عام 1981م، كان هدفه هو إقامة تعاون وثيق في مختلف المجالات، يفضي في النهاية – كما كان مؤملا – لا لاتّحاد القطرين. وأخفقت تلك التوقعات عقب سقوط نظام نميري في عام 1985م، وليس من المتوقع أن يتحقق ذلك في ظل وجود الحكومة السودانية الديكتاتورية الحالية (المقصود بالطبع حكومة البشير. المترجم).

وأوضحت الدراسات الحديثة التي أجريت في وادي النيل وأوروبا لتاريخ السودان في تلك الفترة أخطاءًا سياسة عديدة أقترفها الساسة البريطانيون في القرنين التاسع عشر والعشرين، ساهمت في إحداث المصاعب الحالية التي تمر بها العلاقات بين السودان ومصر. ومن الجانب المصري، أحرز حسين ذو الفقار صبري قَصَبَ السَّبْقِ في تقديم عرض نقدي لتاريخ تلك العلاقات، في كتاب صدر (بالإنجليزية) عام 1982م (1). وكان الرجل يحمل أفكارا واقعية عن احتمالات الوحدة بين مصر والسودان إبان نقاشاته وتفاوضه مع الساسة السودانيين بين عامي 1952 و1955م. وكان هذه مدعاة لعدم شعبيته بين “الضباط الأحرار” المصريين. ثم صدر بعد ذلك كتاب مذكرات للرئيس محمد نجيب (2) وكتب أخرى، إضافة لدراسات تاريخية حديثة. وقام في السودان عدد من الكٌتاب، منهم على سبيل المثال لا الحصر، حسن أحمد إبراهيم ومحمد إبراهيم أبو سليم ومحمد عمر بشير، بإلقاء أضواء جديدة على العهد التركي – المصري بالسودان، والمهدية، والحكم الثنائي، على التتابع. وتم في القاهرة عام 1990م نشر عمل مشترك بين كتاب سودانيين ومصريين من تخصصات مختلفة شملت العسكرية والسياسية، في كتاب من 700 صفحة. ونُشرت أيضا أعمال عديدة لكتاب غربيين عن فترة الحكم الثنائي بأقلام من عملوا سابقا بالقسم السياسي لحكومة السودان مثل جي بيل، مؤلف كتاب (Shadows on the Sand)، وجي توماس مؤلف كتاب (Sudan 1950 – 1985)، ومؤرخين مثل روبرت كولنيز، مؤلف كتاب (Shadows in the Grass, 1918 – 1956)، وودوارد، مؤلف كتاب (Sudan, 1898 – 1989)، ومارتن دالي، مؤلف كتاب (Empire on the Nile). ومكنتنا تلك الكتب وما تحويه من بحوث تحليلية مفصلة لإعادة تقويم تلك الفترة. وتقودنا النتيجة العامة لتلك الدراسات إلى ضرورة إعادة النظر في تاريخ وادي النيل – بصورة نقدية أكثر توازنا، وفي بعض الأحيان مراجعة ذلك التاريخ، خاصة منذ استيلاء القوات التركية – المصرية على السودان عام 1821م

ولا شك بأن الكتاب العمدة والأكثر شمولا وإحاطة بتاريخ الحكم الثنائي هو كتاب من جزئين بقلم مارتن دالي عنوانه “إمبراطوريه على النيل” (2). ويسرد المؤلف في الجزء الأول من كتابه تاريخ الحكم الثنائي منذ عام 1898م إلى نهاية فترة حاكم عام السودان سير جون مافي عام 1934م. ويصف ويحلل الجزء الثاني من الكتاب بقية أحداث السودان مرورا بالحرب العالمية الثانية، حتى استقلال السودان (قبل أوانه، في نظر البريطانيين) في الأول من يناير 1956م.

وأهتم دالي في الجزء الأول من كتابه بالشخصيات التي أدت أدوارا مهمة في تشكيل مصير السودان، مثل ونجت وماكمايكل ومافي. أما أهم الشخصيات التي تناولها الكتاب في الفترة ما بعد 1934م إلى 1956م فشملت نيوبولد وروبرتسون.، وهما من أشهر السكرتيرين الإداريين بحكومة السودان في تلك الفترة، وفرانسيس ريقمان، السكرتير المالي لحكومة السودان بين عامي 1934 – 1944م، حيث كان مسؤولا عن تشكيل مصير السودان الاقتصادي بـ “سياساته التقليدية وغير الخيالية”. وأثبت أولئك الرجال، بحسب دالي أن “استمرار سلطة وقوة الشخصية كانت أهم من السياسة في مجالس حكومة السودان” (صفحة 10). وكان السبب في ذلك واضحا، فقد كان وضع السودان فريدا، إذ أن الحكومة كانت تستبقي الموظفين (البريطانيين) في وظائفهم لسنوات طويلة”.

وكان أبرز الذين شكلوا مصير السودان هم في الأساس الإداريين في القسم السياسي بحكومة السودان، الذين وصفهم كرومر مقرظا بقوله: “إنهم صفوة خريجي مدارسنا وجامعاتنا” (صفحة 13). غير أن دالي لام موظفي القسم السياسي لخلقهم من الإدارة في ذلك القسم “صنما يُعبد … بينما تم تجاهل الجانب الإنساني للاستعمار في التعامل (صفحة 396)”. وكان معظم العاملين في القسم السياسي من خريجي خيرة المدارس العامة الراقية، ومنحتهم صفوية تشكيل ذلك القسم شعورا بالتفوق وبأنهم ضحايا. وكانوا يعدون أنفسهم من موظفي الإمبراطورية المنسيين في مواقعها النائية، رغم تفانيهم في خدمة وحماية “الأهالي” من رعاياهم. ودفع ذلك الولاء المزعوم للسودانيين بعض كبار رجال القسم السياسي لإدانة السياسة البريطانية في وادي النيل، خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعدوا تلك السياسة بمثابة “خيانة” للسودانيين. وكان دالي يعتبر القسم السياسي بحكومة السودان مجموعة معزولة من الأفراد الذين تنقصهم سعة الخبرة التي اكتسبها الإداريون البريطانيون الاستعماريون في أماكن أخرى من العالم. وهذا هو سبب إصرارهم على إبقاء الأوضاع كما هي عليه، ومعارضتهم للإصلاحات بدعوى أنها “ستفسد، دون داعٍ، الدور المحدود للحكم القبلي غير المباشر الذي منحته الإمبراطورية للأهالي”. ويمكن القول بأن إخلاص رجال القسم السياسي الاستحواذي كان لـ “سودانهم” الخاص، وليس لشخص أو جهة أخرى. وعندما كان عليهم الرحيل عن السودان ضد رغبتهم بين عامي 1953 و1955م، و”رغبوا في أخذ “سودانهم” معهم. إلا أن الساسة المصريين وأفندية أم درمان لم يرضوا بذلك” (صفحة 399).

وبذا يتضح لنا أن دالي كان يسعى لتحطيم خُزَعْبِلَةً رائجة وأسطورة شائعة (ومقبولة حتى الآن) مفادها أن القسم السياسي بحكومة السودان كان فيلقا صفويا متميزا بَزَّ الأقسام الاستعمارية الأخرى في عصره. ورغم أن دالي كان قد أفلح في تقديم حجج مقنعة تعضد زعمه، إلا أنه تحاشى في خلاصة قوله السؤال المهم عما إذا كان القسم السياسي بحكومة السودان إدارة جيدة بدرجة معقولة إن تم تقويمه بحسب مزاياه هو، وليس بالمقارنة مع الأقسام الاستعمارية في الدول الأخرى، التي كانت تعمل تحت ظروف مختلفة. لقد كان ذلك القسم السياسي يعد نفسه حاملا لراية استقلال السودان بسبب الطبيعة الثنائية الخاصة بحكم السودان، وكان يسعى لحماية السودانيين من مخططات المصريين التوسعية، التي كانت تؤيدها في بعض الأوقات وزارة الخارجية البريطانية “الجاهلة”، والسفارة البريطانية بالقاهرة بمخططاتها المُرَاوِغة. وبما أن القسم السياسي بحكومة السودان لم يكن جزءًا من وزارة المستعمرات (كما هو الحال في كينيا وأوغندا) فينبغي تقويم ما قام (أو لم يقم) به ذلك القسم باعتباره جسما معزولا لم يجد الفرصة للاستفادة من خبرات المخضرمين في إدارة المستعمرات. ولكن ينبغي أخذ انتقاد دالي للقسم السياسي بحكومة السودان في الاعتبار في كل الدراسات المقبلة عن ذلك القسم، إذ أن انتقاده هذا يناقض كل التقويمات السابقة لذلك القسم الصفوي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق