
تماضر كريم
تمنيتُ كثيرا أن أتزوج رجل دين ، في طفولتي و من بعدها صباي و حتى فيما بعد ، لم تتغير تلك الأمنية ، ولم تزحزحها تأثيرات الزمان والمكان ، و موجات العولمة و الانفتاح ، و كثرة الكتب التي قرأتها ، و تنوعها بين الفلسفة و الأدب و التاريخ ، هي ذاتها أمنيتي تكبر معي ، و للحق فإنها لم يكن سببها أني امرأة متدينة ، فأنا لست متدينة ، لكني كنت عندما اتصور نفسي بين ذراعي رجل الدين ، ذي العمامة الكبيرة و اللحية الضخمة و الملامح _ التي كانت تبدو لي في حينها قدسية_ أشعر أني مهمة جدا ، و أن هذا الرجل المهم ، هو طفل بين يدي ، و إن عمامته سيطرحها جانبا أمامي فقط ، و إنه سيغدو بسيطا جدا ، متجردا من الهالة التي تحيط به معي ، و للحظة شعرت رغما عني أن دينه و عقيدته و أفكاره و أبحاثه و قدراته الخطابية ، كلها ستكون تحت إشرافي ، إنه شيء جسيم ، و أنا كنت أحب الأشياء الجسيمة ، لقد كان القدر كريما معي في السادسة و العشرين ، فقد تزوجت رجل دين ، بلا تخطيط مني ولا محاولات لاجتذاب أحد منهم ، لكنه القدر فقط ، هو ذات القدر الذي صادف فيه أن زوجي رجل الدين ذاك كان جميلا جدا ، يملك وجها يشبه وجوه القديسين و الأولياء ، و عينين برموش طويلة و أجفان لا تنتمي للأرض ، هي ذات اللحية التي حلمت بها ، و ذات العمامة القدسية الكبيرة ، و الكفين اللتين لم تنشغلا بغير تقليب كتب الدين و التاريخ ، و الصوت المخملي الذي يعزف على أوتار الروح فتهتز و تبكي ، كنت أجيب عن سؤال صديقاتي المتكرر (كيف عثرت عليه )؟ لا أعرف أنه القدر فقط قذفه في طريقي، أنا لا أبحث عن الرجال ولا اصطادهم، لكن الصالحين تحصل لهم أمور جيدة، كنّ يضحكن متشككات، يعتقدن أني أكذب، فالأحلام غالبا تظل أحلاما.
كان من الوارد جدا ان تنتهي الأمور عند هذا الحد ، لكن الحياة لا تسير على هذا النحو ، فالأشياء تتغير باستمرار ، كأن من الغريب و الغبي أن يمضي كل شيء هكذا لشأنه حتى النهاية ، كان زوجي رجل الدين يظن أن الصدق هو الفضيلة الأهم ، لذا أخبرني ذات ليلة ، ولازلت أذكر ملامحه حينها و كيف انعكس عليها ضياء الغرفة فازدادت بريقا أكثر مما هي عليه ، أخبرني بصوته العميق ذي النبرة المنخفضة ، و بأسلوبه المحبب لقلبي ، انه تزوج زواجا قصير الأمد ، كان قد استرسل في شرح الأسباب ، دائما هنالك أسباب ، لكني لم افهم شيئا منها ، لقد اشتد دوار الأرض بي ، و شعرت بالغثيان ، لا اتذكر أنه كان إحساسا بالغيرة أو الغضب أو الألم ، كان ثمة إحساس بالخذلان ، و الخجل ، لا أعرف ممّ كنت أخجل ، من نفسي ؟ منه؟ من حلم الطفولة؟ لم يكن بحوزتي الوقت الكافي للنسيان ، فقد تكرّر الصدق ، و تكررت الأسباب ، أحاول أن اتذكر البعض منها ، أحيانا يتزوجهن بدافع الشفقة ، أو الحب ، أو صيانة لهن من الوقوع في المحرّم ، احيانا لأنه يرغب بذلك فقط ، هكذا كان يأخذ كفي ، يقبلها ، و يخبرني ، طباعه لم تتغير ، صوته في القراءة ، أصابعه شديدة الترافة وهو يلمس وجهي ، ابتسامته المحببة ، لكني ما عدت أشعر بتلك الأهمية لكلّ شيء ، عمامته ما عادت تثير شيئا في قلبي ، ملامحه مملة باهتة ، لقد تكسّر شيء ما بداخلي و تناثرت الشظايا بوجه أيامي ، انا هامشية جدا ، كيف أجد نفسي وسط نسائه الكثيرات ، هل يدللنه مثلي ؟ يعاملنه مثلي؟ هل كن يشعرن كما شعرت أنا معه بالرفعة والسمو، و هل يتصورن كيف أشعر الان كما لو كنت شجرةً لم يُبق الخريف عليها ورقة واحدة؟! ما عدت أذكر عددهن، ولم أعد أسأل ولا أرغب في السماع، رغبت فقط في الاختفاء، في ان يتوقف كل شيء مرة واحدة، كان ينصت إليّ وانا اقول له أن حلمي كان ساذجا ولا معنى له، لم يفهمني جيدا، كانت ملامحه بريئة وهو ينظر في عينيّ بإمعان، ربما لم يخطر بباله أني سأحزم امتعتي يوما، كان يردّد متسائلا (لكن ماذا حصل)؟ في الحقيقة لم يحصل شيء، لكنها فقط أحلامي الخرقاء!