
د. محمد بدوي مصطفى
توطئة وتعليق:
بعد نشر المقال الأول «احزنوا على الملكة إليزابيث ولا تحزنوا على إمبراطوريتها!»؛ جاءني من السيد نصر الدين البخاري الجعلي هذا التعليق: «ولماذا نحزن عليها؟! ماذا عن الشعوب التي نهبتها أو ذبحتها أو شردتها، هذه الامبراطورية التي كانت عزيزة علي قلب الملكة التي تطالبنا بالحزن عليها؟ هل تفوهت الفقيدة بكلمة واحدة عبر سنين حياتها كلها، توحي بالاعتذار، ولو عن بعض جرائم امبراطوريتها التي تعتز بها؟! هل سمعنا منها كلمة واحدة عن» وعد بلفور» أو مجزرة» امريستار» الهندية؟ أو هل نطقت بجملة عن غزوها للسودان وابادتها لأكثر من 20 ألف سوداني خلال أقل من ثلاث ساعات في «معركة كرري» وذاكراها مرت علينا قبل أيام قليلة؟ الغريب في الأمر أن العديد من الالوف التي اصطفت لساعات طوال لوداع نعشها، كانوا من الافارقة والاسيويين، الذين طأطأوا رؤوسهم أمام نعشها! ويا للبؤس! الذي يدعو للسخرية أكثر رؤية جوهرة «كولينان» فوق تاج الملكة، هذه الجوهرة المسروقة من جنوب أفريقيا! أخيرا ماذا عن ثراء الملكة الفاحش ورفضها المستمر لدفع الضرائب للدولة؟ لماذا نحزن؟!!
الملكة وإخفاء التاريخ الدموي لإنهاء الاستعمار:
كما ذكرت في مقالي الأول، لكن لا ينبغي علينا إضفاء الطابع الرومانسي على عصر إليزابيث الثانية، فهي دون أدنى شك تمثل أمّة بأسرها، شهدت هي وأمتها، خلال فترة ملكها تفكك الإمبراطورية البريطانية بأكملها تقريبا إلى حوالي خمسين دولة مستقلة متناثرة في كل بقاع العالم، وبطبيعة الحال وبسبب هذا التقلص انحسر تأثير مملكتها على الصعيد العالمي ببيان وكثافة لم تعهدها أو تشهدها المملكة من قبل، وغطت هي بملكها على آثار الحروب الدامية في أفريقيا، الهند، الجزر، لخمد الثورات التي نادت بالاستقلال، فضلًا عن موت أهل هذه البلدان في حروب لا تخصهم من قريب أو بعيد. على كل تمكنت بسياستها السوفت (الناعمة) أن تضع غطاءً جامدًا على عقود الخزي، العنف والخزلان التي عاشتها شعوب الدول المستعمرة ولا زالت تلك الآثار تثقل كاهل هذه الدول لا سيما بلدان القارة الأفريقية.
وقد استذكر في هذا السياق حقوقيون التاريخ الدموي للإمبراطورية البريطانية تزامنا مع وفاة الملكة. ومن جهة أخرى انتقد بعض الناشطين والحقوقيين أيضا ذاك التاريخ الدموي للإمبراطورية البريطانية بالتزامن مع وفاة الملكة إليزابيث الثانية. وقد استذكر أيضًا العديد من الباحثين والمؤرخين المختصين بعهد الاستعمار البريطاني الذي وصل إلى العديد من دول آسيا وإفريقيا وجزر المحيط الكاريبي هذا التاريخ وضرورة التصدي له بالبحث والفحص والتمحيص. وقد ارتفعت بعض الأصوات لناشطين أمريكيين ودبلوماسيين سابقين عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى إلغاء النظام الملكي باعتباره امتدادًا حيًّا لعهد الاستعمار والتاريخ الدموي للإمبراطورية البريطانية. وعلى الرغم من أن الملايين في العالم قد جاشت أعينهم بالدعم معبرين عن حزنهم على وفاة الملكة، لكن العديد أشاروا إلى أن وفاة الملكة أثارت ذكرى سنوات الاستغلال والعنف الذي مارسته الإمبراطورية البريطانية على البلدان والشعوب الأخرى، التي واجهت الموت والفشل الاقتصادي والاجتماعي، وسط دعوات لدفع تعويض لهذه الشعوب. ولهذه الأسباب ترتفع الكثير من الأصوات مجددًا بالإدانة التامة لعهد الإمبراطورية الدموي ويطالبون الملك الجديد وأسرته بتعويضات عن آثار الاستعباد والاستعمار والاستغلال المكثف لدولهم.
أستاذة التاريخ يضعون المملكة أمام وثائق تدينهم:
وقد أشارت أستاذة التاريخ في جامعة هارفارد، مايا جاسانوف، التي تطرقنا لمقالة من مقالاتها الأسبوع الماضي، في تحقيق مع صحيفة نيويورك تايمز مشيرة إلى أن الحكم المستقر للملكة إليزابيث أخفى عقودًا من الاضطرابات العنيفة في جبهات مختلفة بالعالم. كما واستطردت مشيرة في نفس المقابلة إلى أن بعد وفاة الملك جورج الثاني والد الملكة إليزابيث، قمعت السلطات الاستعمارية البريطانية تمردًا ضد نظام الانتداب في كينيا الذي عرف حينها باسم ماو ماو، وقد أقام نظام الانتداب البريطاني في كينيا معسكرات للاعتقال والتعذيب والاغتصاب وجرى إخصاء وقتل الآلاف من المتمردين، وقد دفعت الحكومة البريطانية تعويضًا ب 20 مليون باوند بعد رفع دعوى قضائية ضدها من قبل ناجين كينيين.
وشجب أحد أستاذة جامعة كونيل موكوما وا نغوجي “الإشادات الكاذبة” بعهد الملكة إليزابيث. كما ونشرت الأستاذة في جامعة كارنيجي ميلون، أجو أنيا، تغريدة على تويتر تدين فيها الملكة إليزابيث الثانية والتي وصفتها بملكة إمبراطورية السرقة والاغتصاب والإبادة الجماعية، وما كان من سلطات تويتر الموالية للملكة إلا أن تحذف التغريدة لانتهاكها القواعد – على حسب تقريرهم. وقد صرح بريامفادا جوبال الأستاذ في دراسات ما بعد الاستعمار بجامعة كامبريدج: ”إن النظام الملكي البريطاني وصل إلى مرحلة متقدمة من عدم المساواة والظلم”. ربما يكون هناك تشبيه حتمي ومدروس، شهد عصر إليزابيث الأولى ذلك في النصف الثاني من القرن السادس عشر، وقد كانت إنجلترا قد تبدّت كدولة أوروبية من الدرجة الثانية لكنها تحولت من بعد إلى قوة طموحة خارج حدودها، فأسست إليزابيث الأولى قواها البحرية، وشجعت القرصنة ومنحت المواثيق للشركات التجارية التي أرست الأسس لإمبراطورية عابرة للقارات.
إليزابيث الثانية … الحياة النشأة والملك:
لقد نشأت إليزابيث الثانية في عائلة ملكية تضخمت أهميتها في الامبراطورية البريطانية حتى مع تقلص سلطتها السياسية في الداخل. ويجب أن نذكر أن النظام الملكي استطاع استعمار وحكم قائمة مطولة باستمرار من مستعمرات التاج، بما في ذلك هونغ كونغ (1842) والهند (1858) وجامايكا (1866). ولقد ترأست الملكة فيكتوريا، التي أعلنت إمبراطورة الهند في عام 1876، الاحتفالات المبهرجة بالوطنية الإمبراطورية، وقد تم الاحتفال بعيد ميلادها وقتئذ في عام 1902 باعتباره يوم الإمبراطورية التي لا تغرب بها الشمس بلا جدل. وكانت العادة تجري أن يقوم أفراد العائلة المالكة بجولات احتفالية فخيمة داخل المستعمرات، وقد خلعوا على الحكام الآسيويين والأفارقة الأصليين مزيجا من الألقاب، ويذكر التاريخ أنه في عام 1947، احتفلت الأميرة إليزابيث آنذاك بعيد ميلادها الحادي والعشرين في جولة ملكية في جنوب إفريقيا، وألقت خطابا تم الاستشهاد به كثيرا، ووعدت فيه بأن «حياتي كلها، سواء كانت طويلة أو قصيرة، ستكون مكرسة لخدمتكم وخدمة عائلتنا الإمبريالية العظيمة التي ننتمي إليها جميعا». وكانت في جولة ملكية أخرى، في كينيا، عندما علمت بوفاة والدها.
وبيوم تتوجيها كملكة، ذلك في عام 1953، قامت صحيفة « التايمز» بنشر مقال يحمل في طياته نبأ أول صعود ناجح إلى قمة جبل إيفرست من قبل شيربا تينزينغ نورغاي والنيوزيلندي إدموند هيلاري، واصفة إياه بأنه «بشير سعيد وقوي لعصر إليزابيثي آخر». على الرغم من المغزى الإمبريالي للأخبار، فإن الملكة إليزابيث الثانية لن تكون إمبراطورة بالاسم أبدا – فاستقلال الهند وباكستان في عام 1947 جردها من هذا اللقب – بيد أنها ورثت الملكية الإمبراطورية واستمرت فيها من خلال توليها رئاسة الكومنولث. ولقد أصرّت في رسالتها يوم عيد الميلاد عام 1953 على أن «الكومنولث لا يشبه إمبراطوريات الماضي». وهذا القول يشبه المثل: الذي بقلبه حرقص، لوحده يرقص.
الكومنولث والإمبراطورية البريطانية
في عهد إليزابيث الثانية:
عند توليد المصطلح تم ربطه معناه السيميائي بالتصور التالي: أن الكومنولث هو اتحاد من مستعمرات المستوطنين «البيض» (التي دافع عنها رئيس الوزراء الجنوب إفريقي يان سموتس)، كانت أصول الكومنولث في مفهوم عنصري وأبوي للحكم البريطاني كشكل من أشكال الوصاية، وتثقيف المستعمرات في المسؤوليات الناضجة لـ الحكم الذاتي. أعيد تشكيل الكومنولث في عام 1949 لاستيعاب الجمهوريات الآسيوية المستقلة حديثا، وكان الكومنولث تكملة للإمبراطورية وأداة للحفاظ على النفوذ الدولي لبريطانيا.
في صور من مؤتمرات قادة الكومنولث، تجلس الملكة البيضاء في المقدمة وفي المنتصف بين العشرات من رؤساء الوزراء ومعظمهم من غير البيض، مثل الأم التي يحيط بها نسلها. أخذت دورها على محمل الجد، وأحيانا اصطدمت مع وزرائها لدعم مصالح الكومنولث على ضرورات سياسية أضيق، مثلما دعت إلى صلوات يوم الكومنولث متعدد الأديان في الستينيات وشجعت على اتخاذ موقف أكثر صرامة بشأن الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
ارتفاع أصوات المستعمرات بالتعويض:
ومع مجيء أو لنقل تردد كل هذه المرافعات الدولية الدواية، ارتفعت بنفس القدر تلك الأصوات المطالبة بدفع تعويض للشعوب التي استعمرتها الإمبراطورية البريطانية. وفي هذا السياق انتقد ريتشارد ستنجل الذي شغل منصب وكيل وزارة الخارجية وفي عهد الرئيس باراك أوباما، التغطية الإعلامية لوفاة الملكة قائلًا على قناة MSNBC :” إن على الرغم من الإشادة بالخدمات التي قدمتها الملكة لشعبها، إلا أنه كان لابد من الإشارة لاستمرار حكم الملكة كرئيسة لثلاثين دولة احتلتها المملكة المتحدة منذ زمن الاستعمار، وقد خلفت الإمبراطورية العديد من الضحايا في الحروب التي شنتها”. وقد واجهت الملكة إليزابيث في السنوات الأخيرة اتهامات بالعنصرية وندد البعض بأنها وريثة للاستعمار بعد مشاكل حصلت داخل الأسرة المالكة. ومن جهة أخرى غردت أستاذة القانون في جامعة نيويورك ميليسا موراي على تويتر:” إن وفاة الملكة ستعيد طرح المزيد من الأسئلة حول تعويض الشعوب التي استعمرت سابقًا، بالإضافة إلى مستقبل دول الكومنولث. وعلى هذا النحو ومن كل تلك التعليقات والإشارات السالفة الذكر نجد أن الملكة قد ساعدت بصورة بيّنة في إخفاء التاريخ الدموي لإنهاء الاستعمار الذي لم يتم الاعتراف بنسبه وموروثاته بشكل كافٍ. خصوصا، في السنوات الأخيرة، ظل الضغط الشعبي يتزايد على الدولة والمؤسسات البريطانية للاعتراف بإرث الإمبراطورية والعبودية والعنف الاستعماري وتعديله. وفي عام 2013، ردا على دعوى رفعها ضحايا التعذيب في كينيا المستعمرة، وافقت الحكومة البريطانية على دفع ما يقرب من 20 مليون جنيه إسترليني كتعويض للناجين؛ وتم دفع تعويضات أخرى في عام 2019 للناجين في قبرص. ولا تزال الجهود جارية لإصلاح المناهج المدرسية، لإزالة الآثار العامة التي تمجد الإمبراطورية وتغيير عرض المواقع التاريخية المرتبطة بالإمبريالية.
القمع في سنوات حكم الإمبراطورية البريطانية:
ما لن تعرفه أبدا من صور الأرشيف الكثيرة والتي لا تحصى، – وهذا جزئيا الهدف منها – هو العنف الذي يكمن وراءها. ففي عام 1948، أعلن الحاكم الاستعماري لمالايا حالة الطوارئ لمحاربة المقاتلين الشيوعيين، وفي تلك الحقبة قامت القوات البريطانية باستخدام تقنيات متعارف عليها في سياق مكافحة وردع التمرد بأعنف السبل والوسائل والتي كان الأمريكيون يقلدونها في فيتنام. وفي المستعمرة البريطانية كينيا فرض حاكمها البريطاني إذذاك حالة الطوارئ لقمع الحركة المناهضة للاستعمار المعروفة باسم ماو ماو، والتي قام البريطانيون بموجبها باعتقال عشرات الآلاف من الكينيين في معسكرات الاعتقال وعرضهم للتعذيب الوحشي والمنهجي. ولم يختلف الأمر كثيرا عن مستعمرتهم القبرصية، وقد قاموا بنفس الأفعال في عام 1955 كما قاموا أيضا بذلك في عدن باليمن عام 1963، حيث أعلن الحكام البريطانيون في تلك البلاد حالة الطوارئ لمواجهة الهجمات المعادية للاستعمار، ولم يكتفوا بتعذيب المدنيين فحسب بل مارسوا معهم أبشع أنواع القمع والقتل والإزلال.
الحقيقة يا سادتي قد لن نصل أبدًا إلى الحقيقة مع موت الملكة إليزابيث الثانية إذ لا يعلم أحدنا حتى الآن ما الذي عرفته الملكة أو لم تعرفه عن الجرائم المرتكبة باسمها، والحال من بعضه في بلادنا وفي أساليب القمع، ودونكم البرهان وحميدتي والإنكار بأحداث القمع التي حدثت عند عملية فض الاعتصام، وذلك فقط للمقارنة عن معرفة الحكام بما يدور في بلادهم من ظلم أو عدل إن وجد. وبطبيعة الحال إن ما يثار ويطرق في الاجتماعات الأسبوعية للملكة مع رئيس الوزراء يظل صندوقا أسود في قلب الدولة البريطانية، ولن يحصل فلان أو فلتكان بما يدور فيها أو ما يدور من سياسات حول العالم كان لبريطانيا في نصيب الأسد، على سبيل المثال حرب الخليج، والامتداد الاستعماري لها مع القوات الأمريكية في بلاد الرافدين. لقد قام المسؤولون الاستعماريون بتدمير وحرق العديد من السجلات التي، وفقا لرسالة من وزير الخارجية للمستعمرات، «قد تحرج حكومة جلالة الملكة» وتعمد إخفاء أخرى في أرشيف سري لم يتم الكشف عن وجوده إلا في عام 2011، رغم أن بعض النشطاء انتقدوا ذلك مثل عضوة البرلمان عن حزب العمال باربرا كاسل التي أعلنت عن الفظائع البريطانية واستنكرتها، لكنها لم تستطع إحداث تقدم يذكر في الشأن.