بدويات

السودان … من لائحة الإرهاب إلى قائمة التَّطبيع

إعلان الرئيس الأمريكي عن الاتفاق والحصانة

السلام العادل لفلسطين وللأمة العربية هو الحلّ الأوحد

د. محمد بدوي مصطفى

توطئة:

جاء في صحيفة الشرق الأوسط اليوم ما يلي: “طوى السودان حقبة مريرة من العقوبات والتوترات مع الولايات المتحدة، بإعلان الرئيس الأميركي دونالد تــرمــب، أمـــس، إخــــراج هـــذا الــبــلــد الأفــريــقــي الــعــربــي من لائــحــة الــــدول الــداعــمــة لـــلإرهـــاب، الــتــي أدرج فيها عــام ١٩٩٨. وبالتزامن مــع هــذه الخطوة دخــل الــســودان في دائـــــرة الــتــطــبــيــع مـــع إســـرائـــيـــل، بــاتــفــاق الــطــرفــين على البدء في خطوات للتعاون التجاري والاقتصادي، في احــتــفــال افــتــراضــي فـــي الــبــيــت الأبـــيـــض جــمــع الــرئــيــس تـــرمـــب، والــرئــيــس الانــتــقــالــي الـــســـودانـــي، عــبــد الــفــتــاح البرهان، ورئيسي الــوزراء السوداني عبد الله حمدوك والإسرائيلي بنيامين نتنياهو. (…) وأبــلــغ البيت الأبــيــض الكونغرس رسمياً بالقرار، فيما بــدأت مساع حميمة بين الكونغرس والخارجية لإقرار إعادة الحصانة إلى السودان، التي فقدها العام ١٩٩٨، بعد ادراجه في لائحة الارهاب، وهي فترة قد تمتد لـ٤٥ يوم”.

قد تلخص هذه المقدمة لبّ القضية، ويمكن لنا أن نسوق المضمون على نهج بعض الأمثال الشعبية (أو الفصحى ومنها أيضا الغربية) التي ربما تعكس حال السودان الذي هو فيه الآن والذي ساقته إليه العزلة الدولية قرابة الثلاثة عقود من زمن الإنقاذ البائد.

مجبر أخاك لا بطل:

١) مجبر أخاك لا بطل: نرى الحكومة السودانية مجبرة دون أدنى شك في الخوض في قضية التطبيع، هذا يعني: مجبر أخاك لا بطل؛ وهذه هي الحقيقة المرّة يا سادتي في بوكر السياسة العالمية الذي يقسم الدول بين آمر ومأمور! كنت أود أن تأتي أمنية التطبيع – إن كانت – دون أدنى ضغوط أو إجباريّة من أيّة جهة كانت، لكن الله غالب، فالسودان بلد على قدر حاله وأمريكا كما إسرائيل هما من الدول القيادية الأولى في العالم وهذا بيت القصيد. صرح الجنرال حميدتي قبل عدّة أسابيع استعداد السودان التام على ارجاع العلاقات مع دولة إسرائيل، ولم ينطق أبدًا بكلمة “تطبيع”، وأردف قائلاً إن الرئيس البشير كان ينوي إرجاع العلاقات مع إسرائيل، بيد أنَّ العبرة بالعقلاء، والبشير ليس منهم، إذ عُرف عنه تخبط البلهاء والمصلحجيّة، لأنه عمل دائما وأبدًا بمبدأ في شأن مصلحتي الشخصية عليّ وعلى أعدائي. المدهش في الأمر أن الحيز الزمني الذي ساق الثلاثي إلى طاولة الاتفاق كان مدوزنًا سلفا على “علامة اللا”، هذا يعني، على سبيل الافتراض وحتى ولو أتت الفكرة أساسا من الحكومة الانتقالية بالسودان، فكان لابد لها أن تتماشى والجداول الزمنية لحكومة ترامب، فقضية الانتخابات الأمريكية تجبره على ذلك، من جهة هي هامة بالنسبة لحصد الأصوات وتلميع الوجه، ومن جهة أخرى، تجد حكومة السودان أنها مضطرة لقبول ما تمليه عليها الحكومة الأمريكية من حيز زمني، إذ أن الأمر يتعلق بمسألة مصيرية ألا وهي حذف اسم السودان أخيرًا من القائمة السوداء اللعينة وهذا الشرط هو الأمر الوحيد الذي ينتظره السودانيون بفارق الصبر، يتجلدون قرابة السنة ونيف دون امتعاض على هشاشة الوضع المذري وتردي الحال المعيشية، لذلك فالأمر الأمريكيّ بالقبول في الزمان والمكان المناسب يحتم عليها الخوض في خضم اللعبة السياسية دون أن يكون لها أولوية في أخذ القرار، فمجبر أخاك لا بطل!

من المثل في رقم ١) يترتب المثل في رقم ٢).

٢) خادم الفكي مجبورة على الصلاة: وهذا المثل يعني أنا خادم الفقيه أو الشيخ أو الإمام مجبرة على إقامة الصلاة، رضيت أم أبت. وهكذا للأسف حال السودان، وعلى عكس ما صرّح به رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، أن قضية التطبيع لا علاقة لها بحذف اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وهذا ما لا يرضاه العقل ولا يتقبله المنطق القويم. وكنا نرجو شفافية أكبر وصدق ومصداقية في التعامل مع الشأن.

وبما أن الأمر خرج تماما من ملعب الشعب، فأود أن أذّكر هنا بالمثل الإنجليزي الآتي:

٣) change it or leave it: وهذا المثل يعني مهما كانت عدم موافقة الرأي العام للأمر ورغم كل التصريحات المضللة، أن الحكومة الانتقالية غير مخولة في أن تعقد اتفاقات طويلة المدى وأن الأمر لابد أن يرجأ لفترة ما بعد الانتقال، للحكومة المنتخبة والشرعيّة حينئذ. وأرجع لأفسر المثل: رضي الشعب أم أبى، فإن مسيرة التطبيع سائرة قدمًا ولن يغير رئيس الوزراء ولا رئيس مجلس السيادة من خطتهم تلك أبدًا لأنهما محكومين بأمر قائد العالم ترامب. إذًا على حد قول المثل: “غيِّر الأمر أو أتركه”، وبما أننا لا نستطيع أن نغيره الآن، فينبغي علينا إذن تركه، لأن الفأس وقعت سلفًا في الرأس أو بنبرة أخرى تمت ليلة العرس، وقضي الأمر الذي فيه تستفتون.

کنت أتمنى أن تصارح الحكومة السودانية الشعب بكل شفافية وأن تشرح وتوضح وتبين كل الخطوات الثنائية أو الثلاثية التي اتخذت في السنة الماضية وخلال هذه السنة مع إسرائيل وأمريكا في شأن قضية التطبيع وكل منّا كان يرجو آملًا شفافية الخطاب الرئاسي والوزاريّ تجاه الشعب، لأن الأخير هو الذي أحدث التغيير السياسي التاريخي، وكسر شوكة النظام الإنقاذيّ الفاسد وأتى بثورة تبحث عن مثيل. والسؤال الذي يطرح نفسه هاهنا يا سادتي هو الآتي: هل تبتز الإدارة الأمريكية حكومة الفترة الانتقالية وهي حكومة غير مفوضة من الشعب لعقد صفقات أو اتفاقيات (يراها البعض مجحفة تضر بمصالح البلاد العليا) في غير مواعيدها؟

التطبيع، بنوده، وسطاؤه وخطواته اللاحقة:

لقد شهدنا وقرأنا الأيام الماضية عن تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وأنه قد وقّع مرسوما رئاسيًا يرفع بموجبه اسم جمهورية السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب؛ وكما بلغ إلينا أيضا وفي نفس السياق أن الخرطوم وتل أبيب قد اتفقتا سلفا عبر وساطة أمريكية على تطبيع العلاقات بينهما، ووصف البيان الثلاثيّ المشترك (أمريكا – السودان – إسرائيل) أن اتفاق التطبيع يعتبر اتفاقا تاريخيّا دون سابق واعتُبر من قبل القادة الأربعة الرئيس الأمريكي ترامب، ورئيس مجلس السيادة السودانيّ عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك، ورئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو كشهادة لا مراء فيها “للنهج الجريء لهؤلاء القادة الأربعة”.

ويرى د. النور حمد، الباحث بمعهد الدوحة للأبحاث، أمرًا مختلفا في هذا الشأن وأن أهمية التطبيع مع إسرائيل فيما يخص الشأن السوداني لا تنحصر في رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولا في التعاون التجاري والزراعي والتقني مع إسرائيل، رغم ما في كل ذلك من منافع مؤكدة، وهو يعتقد أن التطبيع في نظره نقلة تاريخية تتمثل في الجرأة على الخروج على الهيمنة العربية التاريخية على القرار السياسي السوداني .بعبارة أخرى، يعني التطبيع بالنسبة له، بداية نهاية الاحتلال العربي للعقل السوداني، والقضاء على التشوه النفسي التاريخي الذي جعل السودانيين يضحون بمصالحهم مرارًا وتكرارًا لنصرة حقّ لا يقف معه أهله أنفسهم. وتمثل خطوة التطبيع، بالنسبة له ضربة بداية فارقة في مسيرة الشعب نحو استعادة الهوية السودانية المضيعة. ويأخذ البعض على النور حمد أنه سار في ركب الناشطين المتأثرين بالهجوم على العروبة، لائمين له ركوبه لموجة الافرقانية حتى وإن ذكرها ضمنًا لا صراحة في مقاله أعلاه، مهرولاً كما يقول البعض نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني. ومن جهة أخرى يأخذ عليه بعض آخر في إن الأشقاء العرب لم يقفوا في دعم أهل السودان في كل الأزمان وفي الحاضر لا سيما في محنة الفيضانات والسيول بل في كثير من مشاريع التنمية والاستثمار. ويرون أنه يغالي في هذه الأحكام التي يرونها ضرب من الأماني ولا علاقة لها بواقع البلد.

علام ينص اتفاق التطبيع؟

وحسب مصادر موثوق بها من قناة الجزيرة ينص بيان الاتفاق جملة من التعهدات والالتزامات والاتفاقات، بعضها ثنائي وبعضها من قبل أحد أطراف الاتفاق. وفيما يأتي أبرز البنود التي نص عليها الاتفاق وفقا للبيان المشترك الصادر في ٢٣/١٠/٢٠٢٠:

ما هي التزامات وتعهدات الاتفاقية؟

اتفق القادة الأربعة -وفقا للبيان الثلاثي- على:

• تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل، وإنهاء حالة العداء بين البلدين.

• بدء العلاقات الاقتصادية والتجارية، مع التركيز مبدئيا على الزراعة.

• اجتماع الوفود في الأسابيع المقبلة للتفاوض بشأن اتفاقيات التعاون في تلك المجالات، وكذلك في مجال تكنولوجيا الزراعة والطيران وقضايا الهجرة، وغيرها من المجالات لصالح الشعبين.

• أكد البيان أن القادة عقدوا العزم على العمل معا لبناء مستقبل أفضل، وتعزيز قضية السلام في المنطقة.

• اتفقت الولايات المتحدة وإسرائيل على الشراكة مع السودان في بدايته الجديدة، وضمان اندماجه بالكامل في المجتمع الدولي.

• ستتخذ الولايات المتحدة خطوات لاستعادة الحصانة السيادية للسودان، وإشراك شركائها الدوليين لتقليل أعباء ديون السودان.

• كما التزمت أيضا بدفع المناقشات حول الإعفاء من الديون بما يتفق مع مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون.

• كما التزمت الولايات المتحدة وإسرائيل بالعمل مع شركائهما لدعم شعب السودان في تعزيز ديمقراطيته، وتحسين الأمن الغذائي، ومكافحة الإرهاب والتطرف، والاستفادة من إمكاناته الاقتصادية.

• يتوقع البيان أن الاتفاق الجديد سيساهم في “تحسين الأمن الإقليمي، وإطلاق فرص جديدة لشعب السودان وإسرائيل والشرق الأوسط وأفريقيا

من هم الوسطاء؟

وجاء إعلان الاتفاق بين السودان وإسرائيل من البيت الأبيض في واشنطن، وتحدث ترامب مع قادة السودان وإسرائيل بشأنه. وذكرت في هذا السياق وكالة رويترز أن مسؤولين أميركيين توسّطوا في الاتفاق من الجانب الأميركي، وهم: جاريد كوشنر كبير مستشاري ترامب، والمبعوث الأميركي للشرق الأوسط آفي بيركوفيتش، ومستشار الأمن القومي روبرت أوبراين، ووزير الخارجية مايك بومبيو، ومسؤول الأمن الوطني ميغيل كوريا.

ما هي الخطوات اللاحقة؟

وقال مسؤولون أميركيون إن من المتوقع عقد مراسم توقيع للاتفاق في البيت الأبيض في الأسابيع القادمة. وذكر البيان أن وفودا من الطرفين ستجتمع خلال الأسابيع القادمة للتفاوض بشأن اتفاقيات في مجالات متعددة. وقال الرئيس الأميركي إن 5 دول أخرى على الأقل تريد الانضمام لاتفاق سلام مع إسرائيل، ونص تحديدا على السعودية قائلا إنه متأكد من أنها ستنضم للركب قريبا.

بعض الخطوط من اقتباس في مقال سابق عن التطبيع:

كنت قد تعجّبتُ يا سادتي في مقال سابق لموقف الإمام الصادق المهديّ عندما قال ذات يوم، وربما تغير حديثه عن الأمر الآن: “سوف يغدو السودان مرتعا للتطرف وأن تطبيع العلاقات يضرّ بالمصالح العربية والإسلامية والقضية الفلسطينية، داعياً البرهان إلى التراجع عن الخطوة”، علما بأن فسلطين نفسها هي أم التطبيع ولم تنفك عن حوار دائم والدولة العبرية، فضلا عن أنها تعيش ذلكم التطبيع على أرض الواقع، حيث نجد جلّ مواردها، دون استثناء، كالماء والكهرباء والمنتجات الغذائية والتكنولوجيا، كلها صنع إسرائيل وحتى العملة التي يتداولنها هي “الشيكل”.

من جهة أخرى فإن نصف سكان إسرائيل هم من العرب! وحتى الحكماء من أهل القضية الفلسطينية يقولون: أهل السودان لهم الحق! إذن السودان الآن أمام خيارين: إما الحرب والعداء وإما السلام! فالخيار الأول مرفوض جملة وتفصيلا وقد جُرِّبَ سلفا؛ فإخفاقات الأمّة العربية في حروبها مع تل أبيب لا تحتاج إلى “درسٍ خصوصيّ” والأحداث تعيد نفسها لا التاريخ، ذلك أن الحوار حتى ولو مع الأعداء هو في الآخر الحلّ السياسي الأوحد لخدمة قضايا الأمّة العالقة في الأفق.

تحدثت من قبل أن الإمام تطير بالمستقبل ذاكرًا بعض من أضرار “سوف” تجنيها الدول العربية والإسلامية من جراء التطبيع، نجد بعض الأسئلة مشروعة في هذا السياق: ما هو الضرر الذي جنته قطر، الأردن، مصر ودول الخليج باسرها من جراء تطبيعها سواء في السرّ أو العلانية، مع دولة رائدة في التكنلوجيا والعلوم؟ أقول: ماذا جنى السودان بربكم بانضمامه إلى “منظمة التعاون الإسلاميّ” التي حرق ورقتها رئيس ماليزيا مهاتير محمد ملقِّناً أعضاءها درساً لن ينسوه مدى الحياة وقد زكّى على حديثه أردوغان. وماذا حصد من عضويته في “جامعة الدول العربية”؟ التي تحتاج في نظري إلى هيكلة جديدة لكي تستطيع معالجة أمور الدول العربية بإنصاف وأمانة ونكران ذات. والسؤال الذي يطرح نفسه أيضا ما دور هذه الجامعة في المنظومة العالمية أو لنقل على الصعيد العربيّ والأفريقيّ؟ أهي مؤسسة قابعة منذ نشأتها في سبات أهل الكهف؟ هل خدمت هذه الجامعة القضية الفلسطينية إلى الآن فضلا عن تطبيع أغلبية أعضائها؟ هل راودت الجامعة الدولة العبرية في بيتها وغلّقت الأبواب ونادت بلسان حالها “هيتَ لَكْ”؟! أحلال على بلابله الدوح وحرام على الطير من كل جنس؟ لماذا تتصاعد المطالبات الشعبية داخل دول عربية إفريقية بالانسحاب من الجامعة العربية، فما هي حكاية تهميش هذه الدول من قبل أبرز الدول العربية؟ هل تستأثر العواصم الخليجية إلى جانب القاهرة وبيروت وغيرها من مدن الشام والشرق الأوسط فضلًا عن عواصم المغرب العربي باهتمام ومكانة لا تقارن مع عواصم عربية أخرى مثل مقديشو وجيبوتي والخرطوم ونواكشوط وموروني رغم أن الكل أعضاء في جامعة الدول العربية التي تم تأسيسها في العام 1945م؟

والجدير بالذكر إنها لم تخدم قضية السلام في السودان بصورة ملموسة بل تركت الرسن للبشير وعصابته يفعلوا ما يشاؤون بأهله. أين كانت الجامعة عندما قُتل مئات الشهداء وحرقت الخيام وسلبت الأموال وسفكت الدماء قبل سنة وبضع أشهر، وفي خلال ثلاثة عقود عندما دمر الإنقاذ البنية التحية في دارفور، قتل ونهب وسلب وزهق الأرواح؟

يجب قيادة الحوار يا سادتي في هذا القضية المصيرية بكل براغماتيّة. فالشوفينية والتعصب لن يحلا مشاكل السودان العظيمة. إذن فلكل فرد منّا الحق في أن يطرح تساؤلات رئيسيّة: هل للسودان حرب مع إسرائيل؟ وهل لشعب النيلين عداء أيّا كان والدولة اليهودية أو اليهود عموما – لا أقول الصهاينة؟ ألم يدعوا الله قائلا: (لا إكراه في الدين)؟! ولمِ أمرنا: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير)؟ أتدعو حكومة السودان إلى الخير أم إلى الشرّ؟ بغض النظر عن كل الملابسات في الأمر.

أقولها بكل صراحة فللبرهان حقّة الشرعيّ والقانونيّ والإنسانيّ أن يلتقي بنيروبي من يراه أهلاً لترسيخ أواصر السلام بالبلاد وله أن يضع الأمور على ميزان العدالة لتُرجّح إحدى كفتيه مصلحة البلد على دماره وهذا هو الفيصل. هل من العيب أن نَتَعَلَّمَ من إسرائيل وأن نُعَلِّمَها – بالأساس ماذا يمكن أن نُعلِّمَها؟! أمِن الخذلان المبين أن يُعيدَ النظر في علاقاته السلميّة التي كَتَمَ على أنفاسها بنو الإنقاذ؟ إن دولة اليهود يا سادتي وبكل علميّة مثال دون سابق. ألم تروا عزيمتهم الجبارة واصرارهم الخارق في المضي قدماً على طريقٍ يُؤمِّنُ السِّلم لشعوبهم التي هامت آلاف السنين مشردة في بلاد الله الواسعة دون مأوي، دون هدف ودون سكينة! أليس لأي شعب كان حقّه في الأمن والأمان؟ ليس ذلك دفاعًا عن إسرائيل بيد أنه دفاعًا عن الحق وعن مبادئ السلام والمحبة بين الشعوب. لذلك يجب بنفس القدر ودون تملق الحفاظ حق الشعب الفلسطينيّ في الحريّة والأمان وتقرير المصير وأن يطبق القانون الذي يقضي له بصنع بلده وعاصمته. ونرى يا سادتي في هذا السلام بصيص من نور في نهاية نفق طويل بل هو فرصة للشعب الفلسطيني وكل الدول العربية في أن تنطلق إلى الحوار الجاد مع الدولة العبرية وأن ترغم الدول العربية تل أبيب أن تحترم بنود عالمية وتعمل جادة مع الحكومة الفلسطينية والدول العربية الرائدة في قضية السلام لترسيخ قواعد دولة فلسطينية آمنة ومطمئنة، مزدهرة بشعبها وأهلها، آمنة من العدوان والغارات والتهجير والاستلاب. فالكل دون أدنى شك مع السلام ومع حق الشعب الفلسطيني في حقّه المشروع دوليًا. والأمور لا تفسر إمّا معي أو ضدّي، أبيض أو أسود، ولكن خير الأمور أوسطها والسلام الشامل هو الحل الوحيد لهذه البقعة التي لم تر منذ القرون الوسطى وعصر الحروب الصليبية الراحة والطمأنينة إلى يومنا هذا. إلى متى نجري وراء الحروب؟ فكم من العمر يعيش المرء منّا وماذا نخلف لأبنائنا، سلاما ومحبة، أم حروبا وحقد؟ ماذا ننشد في هذه الدنيا وكيف نصل إليه؟ هذه هي الأسئلة المهمة والتي يجب على كل فرد منا أن يطرحها.

لذلك علينا أن نفتح بصيرتنا وأبصارنا على العالم فَلَمْ تَعُدْ دولة إسرائيل تعتمد في بناء حضارتها الجبّارة على دول الغرب بل العكس. نجدهم وفي كل المجالات على قمة الأولمب، حققوا ما وصلوا إليه بالمثابرة والدأب. أين نحن منهم يا سادتي؟ انظروا إلى حالنا ونحن نقف الساعات الطوال في صفوف الخبر والبنزين وننتفض عندما يرتفع سعر الخبز إلى بضع “سنتيمات”، بينما معدل دخل الفرد بإسرائيل يفوق نظيره بالولايات المتحدة الأمريكية أضعافاً. أبصروا حالنا جميعا وحال من التقمته قيعان البحر الأبيض المتوسط، لاجئ يطرق أبواب البندقية المؤصدة، معرضا نفسه وبنيه للخطر والتهلكة!

أنا أقولها بصراحة ليس من العيب أن يستفيد العرب من الخبرات الإسرائيلية الطويلة وحتى ألمانيا تستعين في التقنيات الحربية بهذا البلد، أمالكم كيف تحكمون؟! ولنرجع البصر لنرى هل من فطور! إنه من الخذلان المبين أن نرى خيبتنا جاثمة أمام أعيننا بكل الدول العربية التي استقلت في غضون نفس الحقبة التاريخية التي تأسَّسَت بها دولة إسرائيل. أين نحن وأين هم؟ ومن هذا المنطلق علينا أن نسأل أنفسنا بكل شجاعة: لماذا تفوق اليهود على العرب وفي كل المجالات: الصناعية، التقنية، الزراعية، الإنسانية وحتى في مجال الديموقراطية! رغم أنهم قد عاشوا في الدياسبورا (الشتات) كمشردين ونازحين، بل كانوا أسرى وعبيدًا في كل الأزمنة التي انتهت بكارثة الهولوكوست الكبرى (المحرقة) والتي قتل فيها ما يقارب الستة مليون يهودي من كل بلدان العالم؛ ورغم كل هذه الكوارث فقد أثبتوا للبشرية جمعا مقدرتهم في تخطي الصعاب وقوة جأشهم في تسخير الجبال لتمور بهم ومعهم، وفوق هذا وذاك أثبتوا إنسانيتهم – على عكسنا نحن المسلمون – في احتضان بني ديانتهم من كل الجنسيات والأعراق والتوجهات (الفلاشا – العرب – الروس – الأمريكان، الخ.). وكانت النتيجة أن انصهرت كل هذه الثقافات في بوتقة الدولة الكبرى إسرائيل لتجعل منها قوة عظمى ضاربة غير قابلة للهزيمة ولو كان العرب والمسلمين بعضهم لبعض ظهيرا. هذا لعمري هو التطبيق الدامغ للآية: (إنّا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). وقوله الحق: (إن في ذلك لآيات لأولي الألباب). ولنعلم أن خير الخلق كان في علاقة دائمة وجارًا لليهود. نعم، لحق الشعب الفلسطيني وعلينا أن نضعه في الحسبان، وينبغي علينا أن نسلك كل الطرق لنؤمن السلام، الطمأنينة والمحبة لهذه المنطقة. يا سادتي لقد سئمنا الحروب وكرهنا القتل والاقتتال، إلى متى، دعونا نعيش في سلام وإلا فعلى الدنيا السلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق