
المبادرون!
صلاح إبراهيم النيل
الكل يعلم و يقر بأن السودان يمر بأزمة سياسية خانقة جرّت وراءها الأزمات الاقتصادية و الاجتماعية و الأمنية التي تعصف به الآن. و من المحزن ألا نري اي بصيص ضوء في آخر النفق، رغم عديد المبادرات التي طرحت لإقالة عثرته. و لا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن هذه المبادرات، المأمول منها أن تفضي إلى حل للأزمة، قد اضحت، هي نفسها، أحد عوامل تعقيدها، لأنها أصبحت عامل شقاق و خلاف.
كل طرف و كل (فاعل خير) يسعى لحل هذه الأزمة، أو هكذا يبدو، لذا تكاثرت المبادرات كما «تكاثرت الظباء على خراش».. و قصة المثل باختصار إن أعرابياً اسمه (خراش) وكان ماهراً في الصيد، قد خرج يصيد الظباء. وكلما صوب سهمه نحو ظبي وجد آخر أسمن منه، لتكاثرها، وبقي على هذه الحال بين الحيرة والترد حتى غلب عليه النوم دون إن يصطاد واحداً منها. وفي اليوم التالي عاود الكرة إلا أنه وجد الظباء قد رحلت جميعها. و هكذا نحن، طرحنا أو طُرحت علينا أكثر من ثلاثين مبادرة و كل طرف يرى مبادرته الفضل و يرفض الأخريات. وأحياناً لا يكون الرفض مبنياً على محتوى المبادرة، بل كُرهاً أو نكاية فيمن قدمها أو أيدها. وأجزم أن بعضهم قد رفضها قبل أن يقرأها، حسب موقفه من المبادِر أو المؤيِّد، «بالرغم من عدم وجود اختلافات كبيرة بينها فيما يتعلق بالحلول والطرح. فبعضها متشابهة وتختلف فقط في الصياغة وطريقة العرض والاسم: ما بين ميثاق ومبادرة وخارطة»، كما يقول الأستاذ بالجامعات السودانية، منذر عبد القادر حربي.
سنورد بعض هذه المواقف، لا كلها، وإلا لسوّدنا صحائف عددا. و سنركز على مبادرة الشيخ الطيب الجد ود بدر المسماة (نداء أهل السودان)، لأنها المبادرة التي سال حولها مداد كثير. فالشعب السوداني، و لله الحمد و المنة، (رافض و ابن رافض و ذو نسب في الرافضين عريق)، مع الاعتذار للشاعر أبي نواس الذي تلاعبنا ببيته هذا.. و هو حالة نفسية أثرناه في كلمة سابقة دارت حول «سنرفضها و لو جاءت مبرأة من كل عيب».
لكن قبل ذلك، دعونا نذكّر بموقف مشابه قديم لنثبت ما قلناه آنفاً.. الموقف كان رفض مساعد البشير و نائب رئيس المؤتمر الوطني وقتها فيصل حسن إبراهيم في 2019 لمبادرة أساتذة جامعة الخرطوم الداعية إلى تشكيل حكومة انتقالية، حيث قال: «ماهو الفرق بين جامعة الخرطوم وجامعة الجنينة؟ كلهن جامعات […] أساتذة جامعة الخرطوم ليسوا بأفضل من نظرائهم في الجامعات الأخرى». وعن مبادرة الـ(٥٢) التي يقودها رئيس الوزراء الأسبق الجزولي دفع الله، تساءل: «لماذا بادر الـ 52 دون الآخرين؟» وقال «نحن نعلم الشيوعيين والعلمانيين منهم والإسلاميين المغبونين».
وقبيل إصدار مبادرة الشيخ الطيب الجد توصياتها بشكلها النهائي تحفظ عليها الفريق أول حميدتي، لا لأنه يريد أن يدرس محتواها، بل « لأنه يريد يعرف من يقف خلفها!»
وقال الأستاذ عمر الدقير رئيس حزب المؤتمر السوداني إن مبادرة الشيخ الجد جانبها التوفيق ونحن ضدها (من حيث المظهر والمخبر). ويحمد له أنه برر موقفه بقوله إن المبادرة «لم تكتب ثورة ديسمبر كمرجعية في أي وثيقة من الوثائق، إلى جانب تجاهل خروج المؤسسة العسكرية من الحكم والسياسة وأن يكون هنالك جيش موحد», لكنه (طبظها) بقوله «إن التحالف الذي كان يحكم مع البشير موجود في قاعة الصداقة وكان يجب أن يطلبوا إذناً لإحضار الرئيس البشير من المعتقل لنرجع لحوارات الوثبة». لماذا لا نتعاطى مع بنود أية مبادرة، حتى لو أيدها من كان ضدنا، إن كانت بنودها مقنعة و تتوافق مع خطنا السياسي و نجعلها بشرى توحيد مواقف الأضداد نحو هدف وطني مشترك؟
نفس الموقف كرره القيادي بالتجمع الاتحادي، جعفر حسن، بالإشارة إلى أن «كل المشاركين في المبادرة كانوا من المشاركين في حكومة عمر البشير».
الدكتورة مريم الصادق المهدي، نائب رئيس حزب الأمة القومي، قللت من فرص نجاح مبادرة الشيخ الطيب الجد قائلة: «إن دور الصوفية مطلوب ولكن ليس في الأطر التي تتغول على دور الأحزاب لأن أي اتفاقات سياسية تتبعها التزامات، والالتزامات تقوم بها الأحزاب السياسية من واقع مسؤوليتها ودورها المعروف». نذكّر المنصورة بأن والدها، رحمه الله، كان رئيس حزب الأمة و إمام الأنصار في نفس الوقت و بأن المهدية كانت مزيجاً بين الصوفية و السياسة و بالأدوار التي لعبتها هيئة شئون الأنصار في التعبئة السياسية. إذاً، لم لا نجعل هذا النداء دعوة لتجميع السودانيين، كما قال الشيخ الطيب الجد « إنّ الفكرة كانت في البداية مبادرة، لكنّها توسّعت لكيّ تكون نداءً لجمع جميع المبادرات المطروحة لحلّ الأزمة السياسية الراهنة»؟
هذه المواقف المتطرفة قابلتها أيضاً مواقف متطرفة من المؤيدين للمبادرة، نذكر منها استخفاف الشيخ الطيب الجد نفسه بمنتقدي مبادرته حيث قال متحدياً :» الجمل ماشي والكلب ينبح.. ما شغالين بيهم وخليهم يقولوا». و هو تصريح غير موفق لمن أراد أن يصلح بين متخاصمين، مع وافر احترامنا لشخصه. وقال القيادي الإسلامي، أسامة توفيق:» إن مبادرة نداء أهل السودان هي الحل الوحيد للأزمة السياسية في البلاد، واعتبرها (سفينة نوح للبلاد). و أضاف :»في حالة فشل هذه المبادرة (سيكون هنالك انقلاب عسكري حقيقي كامل الدسم). من يرفضون هذه المبادرة أحزاب 4 وليس لديها سند غير الأجانب».
ولم تكن المبادرات الأخرى أحسن حظاً من مبادرة الشيخ الجد. فمسودة الدستور التي أعدتها اللجنة التسييرية لنقابة المحامين، و هي مجرد (مشروع) طُرح للنقاش، وصفها الدكتور محمد علي الجزولي بـ»المشروع العلماني العنصري المتطرف الذي يمثل وجهة نظر قوى إعلان الحرية والتغيير»، مهدداً بمواجهة هذا الدستور بالـقوة، «سواء عن طريق المظاهرات أو على ظهر دبابات». وتناسى أن مجابهة (مشروع مطروح للنقاش) بالدبابات تمثل قمة التطرف.
و وصفه الحزب الشيوعي بـ»الاجتهاد الأكاديمي الذي لا يرقى لمستوى المشروع السياسي الذي يحظى بوفاق حوله، والذي صُمم لإعادة القوى السياسية الي السلطة التى خرجت منها ومن المشهد». و تساءل الاستاذ صالح محمود، عضو اللجنة المركزية للحزب عن مشروعية نقابة المحامين، و»هي لجنة تسيير تشكلت لتكوين نقابة فشلت منذ ثلاث سنوات في قيامها». فشل مجموعة من المهنيين في تكوين جسم نقابي، لأسباب موضوعية أو غير موضوعية، لا يمنعها من أن تدلو بدلوها في شأن عام من صميم تخصص أعضائها وأن تطرحه على الناس ليتم التداول حوله، ليتم قبوله أو رفضه، بعضه أو كله، وفق حيثيات منطقية و مقبولة. و الحزب الشيوعي لم يرفض هذه المسودة فقط، بل رفض مجرد تلبية دعوة للتفاكر حول مبادرة أخرى. فقد ذكرت الأستاذة آمال الزين، الناطقة باسم الحزب، أن حزبها تلقى دعوة من لجنة مبادرة (تجميع قوى الثورة) لكنه لم يتعاطَ معها، «لما فيها من محاولة لخلق قيادة للعمل الميداني والسياسي، كجزء من أساليب حماية التسوية السياسية غير المعلنة بين العسكر والحرية والتغيير». وشككت بوجود عمل «مطبوخ ومخبوز من مجموعة غير معروفة، وغير معروف من يقف خلفها، تريد وضع فخاخ أمام الثورة ولصالح التسوية». مجرد الجهل بماهية الطبيخ ومن يجهزه و من يقف خلفه يكون كافياً لعدم النظر في إنائه و التأكد من أنه مسموم او صحي. و للسياسيين السودانيين غرام باستخدام المحسنات اللفظية و البديعية للتعبير عن مواقفهم، كأنهم يعرضونها على نابغة بني ذبيان في سوق عكاظ، و ليس لشعب ثمانون في المائة منه (لا يفكون الخط). و قد نعود لهذا يوماً، لنتحف القراء بهذا الأدب الرفيع.
حاول بيت الحكمة\مجلس حكماء السودان في مارس 2022 توحيد المبادرات المطروحة، بعد تحليلها (كان عددها 31 مبادرة فقط!) لإيجاد نقاط التقاء بينها و طرح مقترحات توفيقية. مثلاً، تراوحت مقترحات عدد مقاعد الثوار في البرلمان بين 20% و 33% كحد أدنى و بين 55% إلى 66% كحد أقصى. فاقترحت مبادرة بيت الحكمة 30% مع تثبيت 7% للشباب. وكانت 75% من المبادرات المطروحة قد اقترحت أن يكون رئيس مجلس السيادة للفترة المتبقية مدنياً و12.5% منها عسكرياً و مثلها أن يكون ضابطا متقاعداً من القوات المسلحة. اقترحت مبادرة بيت الحكمة أن يكون ضابطا متقاعداً من القوات المسلحة «الذين يتصفون بالكفاءة و المهنية والاخلاق و الاستقلالية و يرضي في نفس الوقت المدنيين». هذه المبادرة قُبرت مع سابقاتها.. وجاءت بعدها أخريات جوبهت كلها بالرفض من البعض، اشهرها مبادرة لجان المقاومة «ميثاق تأسيس سلطة الشعب»، ومبادرة الحرية و التغيير\التوافق الوطني ومبادرة الشيخ الجد و مسودة دستور نقابة المحامين المشار إليهما آنفاً و هناك مبادرة الشيخ حمد الجعلي التي ستُطرح تفاصيلها الاسبوع المقبل.
قال الدكتور أحمد حسن الخبير والمحلل السياسي أن ميثاق سلطة الشعب الذي وقعته بعض لجان المقاومة «يمثل دعوة صريحة للفوضى واستغلال أجساد بعض الشباب لعودة أحزاب أربعة طويلة مرة أخرى للحكم في السودان، مبيناً أن هناك العديد من الاحزاب التي لا تملأ عضويتها ركشة هي من تقف خلف مثل هذه الممارسات غير الناضجة سياسياً». وأستهجن الدكتور عبد الحليم بشارة «هروب اليسار السوداني من الاستحقاقات الانتخابية كوسيلة فعالة وناجعة ومجربة للتداول السلمي للسلطة». و دعا بشارة «العقلاء من أبناء السودان الوطنيين البررة والقوات المسلحة السودانية والمفكرين السياسيين والأدباء والأسر والمجتمع بصفة عامة لإفشال مخططات استغلال الشباب السوداني ومحاولات البؤساء من الفاشلين سياسياً للدفع بالشباب إلى معارك خاسرة تستهدف الوطن وسيادته ووحدته وسلامة أراضيه لتحقيق أهداف سياسية لأحزاب لا تعمل لتحقيق أي أهداف وطنية».
أحيانا قد يكون الاعتراض من داخل الجسم صاحب المبادرة، مما يعتبر خللاً تنظيمياً، حيث كان المفروض أن يتم الإجماع أو الإجازة بالأغلبية، ثم احترام رأيها و الدفاع عنه باعتباره رأي مؤسسة تم تبنيه وفق آليات اتخاذ القرار داخلها… مثلاً نقرأ في صحيفة السوداني «ثمة نوع من الاحباط المستشري في اوساط بعض الثوار على خلفية عدم توقيع مجموعات او لجان مقاومة على الميثاق المعلن، ووردت اسماء تنسيقيات الحاج يوسف وجنوب الحزام باعتبارهما الابرز في غير الموقعين، فضلا عن غياب(غاضبون) باعتبارها ابرز الاجسام الثورية. بيد ان معلومات لـ(السوداني) كشفت عن توقيع تنسيقية الحاج يوسف لاحقا بعد عقد اجتماع استثنائي للتنسيقية مع لجنة الميثاق بغرض استصحاب ملاحظاتها وتضمينها في الميثاق».
هذا التطرف في المواقف هو ما أضاع، مؤخراً، أربعة أعوام من عمر البلد بين «لن نجلس معه. إن شاء الله تمطر حصو» و بين «لن أجلس معه لأنه سيخصم من رصيدي السياسي»، رغم أن كلاهما قد جلس، و جلس وجلس، بعد وساطات أجنبية و بعد أن (تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم).
ما يجعل الأمر (أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند) أن كل هذا التعارك لم يكن حول كيف يحكم السودان، و لا حول برامج سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية… و إنما حول إدارة فترة انتقالية قد لا تتجاور العام والنصف… و لولا حسن ظني بأهلي، لجعلت عنوان كلمتي هذه (الرافضون).