
بعض مشتملات ديوان … «روض الزيتون»
محمد بوعابد
مثل صدور ديوان «روض الريتون» إنقاذا وصيانة لذاكرة شعرية معاصرة، ذاكرة شعرية مغربية كان لها أن تكشف كيف تفاعل صاحبها، وهو صائغ قصائدها ومقطعاتها، مع الوقائع والأحداث التاريخية التي تساوقت مع وجوده، والتي عرفتها مدينة معيشه «مراكش»، ووطنه «المغرب»، والعالم بأسره. كما أن ظهور هذه الأشعار المتنوعة المضامين قد مكن قراء ومحبي الشعر من التعرف على تجربة شاعر فرد تمير من بين أقرانه من شعراء المغرب حينئذ بذيوع صيته محليا ووطنيا، بل بسعيه إلى أن يكون له حضور ما في بعض المحافل العربية، سواء حين أدى شعائر فريضة الحج وتقدم منشدا قصيدته في مدح عاهل السعودية آنذاك، أو حين زار القاهرة عقب ذلك والتقى بعدد من مثقفيها وأدبائها وفنانيها الكبار. وعلاوة على الحضور القوي لهذا الشاعر في الذاكرة المراكشية والمغربية بأشعاره وطرائفه، فقد رام الشعراء المغاربة المعاصرون له توليته إمارة الشعر، وهو ما عبر عنه شعرا شاعر فاس عبد المالك البلغيثي وشاعر سوس الطاهر الإفراني، وهما شاعران كبيران في حظيرة الأدب المغربي زمنئذ.
وإن توفر نسخ هذا الديوان الشعري «روض الزيتون» لتسعف القارئ والدارس على التعرف على الشاعر وشعره، ولتبين كيف استطاع محمد بن إبراهيم أن يؤرخ بأشعاره للأحداث التاريخية التي عاشها، كما لتلك التي عايشها، وإن تعددت الأغراض التقليدية، وعلى رأسها المديح والهجاء مع الإخوانيات، مثلما يتكشف له أن «شاعر الحمراء» كان ذا روح عذبة مرحة، وفي الوقت نفسه كان قد هيأ نفسه لتحمل مسؤولية ما يقترفه من أفعال. ففي عام 1937 تعرض للسجن إثر محاكمة علماء مراكش ونقلهم إلى سجن مدينة تارودانت، فأطلقها عبارة شعرية حرى تبرز كربته وتحديه لشروطه في الأبيات التالية(4):
لئن حبسوا جسمي بجدران سجنهم
فما حبسوا روحي، ولا حبسوا قلبي
ولا حبسوا مني خيالا مرفرفا
يحوم من سر الحياة على اللب
ولا حبسوا مني ضميرا عرفته
فأرضيته جهدي وإرضاؤه حسبي
على أن لي في السجن متعة خاطر
لقيت صحابا فيه من خيرة الصحب
شعورهم نحوي شعوري نحوهم
وأكلهم أكلي وشربهم شربي
وكما تكشف هذه الأبيات ارتباطه بمواطنيه الوطنيين، وهم العلماء الأجلاء المدرسون بالجامعة (اليوسفية) التي كان قد تخرج منها، ثم عمل بها مدرسا، وقد وقفوا في وجه الحماية الفرنسية مطالبين إياها بالإصلاح الذي وعدت بلادهم به، فإن قصيدته: «الدمعة الخالدة»(5) تؤكد هي الأخرى وقوفه مع مواطنيه الوطنيين، إذ كان قالها في حق الوطنيين الذين تعرضوا للجلد على يد طاغية فاس حينئذ (الباشا ابن البغدادي)، وقد أشرعها بالقول:
أسال من الأجفان عن صدره نهرا
ليطفئ ما بالقلب مشتعلا جمرا
وفيها يقول معرضا بالباشا ابن البغدادي:
وذا الأرعن المشدود بالحبل نصفه
متى ساس غير الضأن جاز به وعرا
فأصبح والشكوى إلى الله وحده
وما المرتجى إلاه أن يكشف الضرا
يسوس بفاس من بنيه كرامهم
فيقلبهم بطنا ويجلدهم ظهرا
لينتهي إلى توجيه خطابه إلى الزعيم الوطني، الأستاذ علال الفاسي، قائلا:
أنادي رصيفا لي هناك وإنني
أحب رصيفي فوق حب الورى طرا
أخي كل مالي دمعة وإخالها
لمثلك من مثلي تقوم له عذرا
أشاعر فاس دون سابق رؤية
عليك سلام الله من شاعر الحمرا
ولم يقتصر تغني ابن إبراهيم بأبناء وطنه على من عايشهم وعايشوه، بل كان الرجل شديد التعلق بكل ما يرمز لشموخ المجد المغربي، ممثلا في أبطاله التاريخيين. فعندما زار جوق فاس المسرحي مدينة مراكش، وقدم أعضاؤه مسرحية «أميرة الأندلس» لأحمد شوقي ارتجل ابن إبراهيم بعد انتهاء العرض المسرحي قصيدة يرد فيها على أمير الشعراء، إذ بدا له أن شوقي كان قد تحامل على الأمير المرابطي وانتصر للملك الشاعر المعتمد بن عباد، ومما قال فيها:
أأحمد شوقي للقوافي رجالها
كأنت، وللتاريخ ذو الأخذ والرد
أما على مستوى غرض المديح فتأتي قصائد «عرشياته» التي تقدم بها للسلطان محمد الخامس لتبرز مؤكدة مدى تعلقه برموز وطنه، بينما كان مديحه للباشا الكلاوي، الذي كان يمثل الإقطاعيين المساندين للحماية، لكي يبين حاجة شاعر الحمراء لممدوح كريم يهتم لشأنه، ويوفر له ما كان هو في حاجة ماسة إليه من معيش رغد، ويكون معه كما كان الملوك والأمراء مع الشعراء المداحين في العصور السالفة (الخلفاء العباسيون واحتضانهم لأبي نواس، سيف الدولة ورعايته للمتنبي)،
ومثلما انشد بقوة إلى انتمائه الوطني مما عرضه للسجن أحيانا، فإن قصيدته المعنونة ب»إن أريد إلا الإصلاح» (6) ومثيلاتها، تكشف تبنيه للدعوة الإصلاحية ذات الأساس الفكري السلفي، فقد كان «شاعر الحمراء» ممن أجازهم الشيخ أبو شعيب الدكالي، أحد رموز الدعوة السلفية المغربية ذات الصلات بالدعوة السلفية التي حمل لواءها الأفغاني ومحمد عبده… ففي هذه القصيدة نجده داعيا إلى الإصلاح الاجتماعي، ويراه متوقفا – في البدء والمنتهى – على اكتساب العلم والمعرفة، وعلى التخلص من الفكر المتخلف والممارسات الخرافية، ولذلك يدعو مواطنيه إلى التعلم، ومن أبياتها نجتزئ ما يلي:
أكتم ما بي لو يدوم التكتم
ولكنه هم به القلب مفعم
بني وطني إن الشعوب وأهلها
قد استيقظت طرا وأنتم نوم
مضى زمن الجهل الذميم زمانه
وهذا زمان آن فيه التعلم
أتاكم زمان يطلب العلم منكم
بجد فإن لم تطلبوا العلم تندموا
ومن جهة أخرى تكشف قصائد أخرى له عن مدى تهممه بالقضايا الإنسانية، فمن ذلك قوله في قصيدة (7) أنشأها بمناسبة قيام الحرب الكونية الكبرى:
إن هتلير الضحايا
صاح ما بين البرايا
المزايا في الرزايا
هو ديني باعتقاد
وإذا أفنى العباد
بعضهم بعضا وبادوا
وكسا الكون سواد
فهو سؤلي والمراد
وقد خص القضايا القومية ببعض قصائده، نذكر منها قصيدته «أبطال ليبيا»(8) التي أنشأها حين بلغ مسمعه مقتل الزعيم الليبي عمر المختار على يد الطليان، وقد قال في مطلعها:
كأس الخطوب بذا العجو دهاق
والدين قلبه واجف خفاق
وجب الجهاد، بني وطني، فانهضوا
اليوم يعذب للحمام مذاق
ونذكر من أشعاره القومية تلك التي قالها عن «تهويد فلسطين» (9)، وفيها يقول:
عهدي ببيت القدس وهو مقدس
والدين دين والبراق براق
وأهم ما للمسلمين شعائر
من دونها الأرواح والأعناق
عجبي من ابن يهود يعرف قدره
ويؤم بيض الهند وهي رقاق
ما كان بالأمر الخفيف سماعه
فسماعه والله ليس يطاق
ولقد خص «شاعر الحمراء» مدينة مولده ومرباه، وكذلك رموزها الذين قضوا، والذين كانوا ما يزالون يعيشون معه حينئذ ويعايشونه، بأبيات ىقول فيها (10):
أولئك قوم شيد الله فخرهم
وما فوقه فخر وإن عظم الفخر
أناس، إذا ما الدهر أظلم وجهه
فأيديهم بيض وأوجههم زهر
يصونون إحسانا ومجدا مؤثلا
ببذل أكف دونها المزن والبحر
أضاءت لهم أحسابهم فتضاءلت
لنورهم الشمس المنيرة والبدر
فلو مست الصخر الأصم أكفهم
أفاض ينابيع الندى ذلك الصخر
ولقد شاعت وذاعت العديد من الطرائف التي رويت عن الشاعر، وهي إلى حد ما شبيهة بما كان يروى عن الشاعر العباسي أبي نواس، وإن كان مما سجله العلامة أحمد الشرقاوي إقبال(11) في مؤلفه «شاعر الحمراء في الغربال»، ما يظهر قيام وتأسس طرائف شاعر الحمراء على المفارقة اللغوية، ومن ذلك يحكي الشرقاوي إقبال أنه في ظل الأزمة مع الحماية الفرنسية بلغ إلى علم ابن إبراهيم أن إقبال كان يدرس لتلامذته نصا شعريا للمعتمد بن عباد، مما يقول فيه:
لما تماسكت الدموع
وتنبه القلب الصديع
قالوا الخضوع سياسة
فليبد منك لهم خضوع
وألذ من طعم الخضو
ع على فمي السم النقيع
فحين التقى شاعر الحمراء بالشرقاوي إقبال لامه على اختياره الشعري ذاك، فما كان من إقبال سوى أن قال: (نيتي تخرجني)، فرد عليه ابن إبراهيم توا: (من الوظيفة). وفي أحد البرامج التلفزية حكى الأستاذ محمد بينبين أن لحظة عقيقة ابنه البكر، الذي سماه الشاعر ابن إبراهيم (أحمد شوقي)، أوعز إليه الشاعر أن يكلف شيخ الجماعة محمد بن لحسن الدباغ بنحر الأضحية، وكانت غايته من ذلك أن تتسخ ثياب شيخ الجماعة بدماء الأضحية، لكن هذا لما أمسك بالسكين دعا الشاعر إلى أن يمده بجلبابه الشحصي…
صحيح أن طرائف ابن إبراهيم لم تجمع ولم تدون لتكشف حقيقة روحه المرحة، ولكنني إخال أن أشعاره التي قالها في أشخاص معينين، وفي أماكن محددة، كما في وقائع وأحداث عاشها، هي القمينة بإبراز هذه الروح المرحة والساخرة، ولنمثل لأول أنواعها بما كتبه تحت عنوان: «الفأر الفار» وللثاني بقصيدته الهجائية في: «المطعم البلدي»، وللثالث نمثل بقصيدته التي قالها حينما أجبرته السلطات في مصر مع غيره من الحجاج في ميناء الإسكندرية على إمضاء أيام في ( الحجر الصحي الكرانتينا) مخافة العدوى بالكوليرا. فهذه القصيدة الأخيرة تساوقت مع الحجر الصحي الذي اضطر لمعاناته، ولكن روحه المرحة أسعفته على أن يواجه بالسخرية والطنز تلك الظروف البئيسة، وعلى أن يتحملها بالتالي، يقول:
حججنا لعمري ابتغاء الثواب
فحل محل الثواب العقاب
وقالوا حججتم فهيا ادخلوا
ثلاثا إلى السجن دون جواب
ولا تحسبوه كمثل السجون
مناما وأكلا لكم وشراب
فأما الطعام فلن تأكلوه
سوى إن دفعتم عليه الحساب
كذاك المنام ادفعوا أجره
وإلا فدونكموا والتراب
نقدنا الأجور وجاء الطعام
وخلفه مثل الضباب ذباب
فلسنا على أكله قادرين
وفي تركه لنا أي عتاب
فهذي المحابس مرقومة
وأرقامها سجلت في كتاب
ولا يقعدن على محبس
سوى ربه واحذروا ما يعاب
فقلنا سنبقى هنا صائمين
إلى أن يحين أوان الذهاب
فقالوا حرام فإن لنا
به حاجة بعد هضم تجاب
فيا رب كيف تخلصنا
وكيف السؤال؟ وكيف الجواب؟