ثقافة وفن

سحب مسافرة

بغداد والشعراء

تماضر كريم

الأزهار تكبر، يمرّ الزمان وتشيخ ثم تذوي. المنازل التي آوتنا، جدرانها تتداعى، أحيانا يمتلكها غيرنا، فتتغير معالمها، النخيل يهرم ، نكهة التمر التي فيه تتبدّل، و الشوارع التي لطالما مشيناها تنسى ملامحنا،

النهر لم يعد فتيا، بات آسنا و مجراه انخفض، لم يعد شيئا في بغداد كما هو، حيث يكدّر  الصباح أصوات الباعة، باعة الحديد والماء الآرو و الخضروات والفواكه وصوت سيارة النفايات، وعلى مرمى حجر المساكن العشوائية، حيث تتناثر بلا تخطيط، مثقلة بالأحلام المؤجلة وبأعداد الأطفال التي لا تتوقف عن الزيادة.

حتى المطر لم يسقط لعدة أعوام متتالية.

بغداد تغيرت كثيرا، شحبتْ وذبلتْ، لكنك مرغما ستشاهد آثار الجمال على وجهها، مرة في ضفة دجلة، وأنت تنظر من نافذة بيت الحكمة، ذاك المشهد الساحر، حيث الأوراد الصغيرة المنمقة في أصص مصفوفة بعناية وشجيرات  الأكاسيا الصفراء تقف بحياء خفي موشّى بالعنفوان، هناك كانت بقايا من بغداد الشِعر والجمال والعلم والأحلام المخملية. هناك تتم مقاومة القبح والبذاءة والصخب والكدح غير المبرر واللهاث المسعور خلف أمنيات صغيرة تم سحقها بضراوة. فيندلق صوت الشعر والقصص والروايات على ألسنة كتابها، هناك في تلك الأروقة، قريبا من ضفاف دجلة، تمتزج في صراعها مع الدخان والغبار والتنهدات والحشرجات، تكافح لكي لا تضيع، وتلفّها زوبعة التشظي والشتات الكبير. يحتدم الصراع، الباعة في دكاكينهم، ربات البيوت، الأولاد في المدارس، الجنود، عابرو الطرقات، جميعهم يسمعون بكاء مدينتهم، فالمعركة كبيرة بين القبح والجمال، بين الرفاه والكدح، بين الفرح والحزن. يعرفون أن الجراح غائرة، جراح الحروب والأزمات والصراعات وبطش الساسة، ولا ضماد لها سوى  جرعة كبيرة من الشعر والأمل والحب. الحيتان لم تترك  لنا الكثير. لقد نهبت بضراوة لا مثيل لها الأحلام من العيون، والكحل من عيون الصبايا، شغلت الآباء باللهاث خلف الرغيف، والشباب خلف ضوء آخر النفق، سرقت من الأمهات حتى أغانيهن البريئة قرب رؤوس المواليد، فخرجوا للدنيا بلا أغان ..بلا مواويل. الحيتان سرقت ساعاتنا، أيامنا، فما عاد هناك متسع للقراءة والكتابة والمواعيد والضحك وحتى البكاء النقي والتحرّرِ من العتمة والخواء البطيء والتلاشي.

لم يبق لنا سوى الصمود، هناك في شارع المتنبي، وبيت الحكمة، بالقراءة والكتابة، على ضفاف دجلة حيث يسيل الشعر، مثل خطٍ من الضوء، يبدًد الوجع الراكد والقلق المترامي، ويشق العتمة، بهدوء، ففي النهاية أمام زوبعة الوقت لن يصمد سوى الجمال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق