سياسة

خارج المتاهة

التفاوض المدني/العسكري ... بين العقل والواقع

محمد عتيق

التفكير العقلاني يقودنا فعلاً إلى أن الأزمة في بلادنا تجب مواجهتها بالتفاهم والتوافق بين قوى الثورة العسكرية والمدنية .. أي أن يتفاوض الطرفان لقيادة المرحلة الإنتقالية وتحقيق أهدافها بما فيها التحول المدني الديمقراطي وعودة العسكريين إلى مهامهم في حفظ البلاد وصيانة دستورها وحفظ الأمن والسلامة لشعبها  ..

ولكن هذه العقلانية تبدو ضعيفة أو تتلاشى تماماً عندما نتأمل واقع الطرفين (المدني والعسكري) من حيث التكوين والتجربة والتطلعات ..

المكون العسكري : تأتي على رأسه القيادات العليا للأجهزة النظامية في الجيش والشرطة والأمن (بعد استبعاد الرموز ذات الارتباط الصارخ بالنظام الساقط عقائدياً أو مصلحياً) إضافةً إلى قيادة قوات الدعم السريع (الجنجويد) ..

ورغم ذلك الاستبعاد الذي تم لتلك الرموز الصارخة فإن القيادات التي تَلَتْها وتصدّت لقيادة المرحلة الانتقالية هي الأخرى لها ارتباطاتها الطبقية والعقائدية ، وتتجاوزها في حالة الجنجويد ؛ ذلك أن النظام الساقط هو الذي جلبها إلى الخرطوم وأنعم عليها بالرتب العسكرية العالية فالتصقت به وانتهزت اللحظة المناسبة للانقضاض عليه وأن تفرض نفسها جزءاً من الثورة وأحياناً صانعةً لها ..

  وخلال التطورات الدستورية المعروفة عام ٢٠١٩ قفز إلى موقعي رئيس مجلس السيادة ونائبه كل من البرهان وحميدتي وهما من القيادات المتورطة في الحروب الأهلية في دارفور وما رافقتها من أعمال القتل والتشريد والحرق والإبادة للناس والقرى والزروع والمواشي ..

وخلال الثورة ، في أهم فصولها الذي تمثل في الاعتصام السلمي الشهير حول القيادة العامة (أبريل – يونيو ٢٠١٩) ، وعندما تصاعدت فعاليات ذلك الاعتصام اشعاعاً ثورياً ، ثقافياً واجتماعياً ، وتجسيداً  لأحلام الأجيال الجديدة وحياتها القادمة وأهداف الثورة العملاقة ، كان قرار تلك القيادات هو فض ذلك الاعتصام بالقوة الكاسحة العمياء ، فكانت العملية العسكرية المريعة  في الثالث من يونيو ٢٠١٩ والتي اعترف بها ورواها علناً الفريق الكباشي ، رئيس اللجنة السياسية لتلك القيادات العليا ، في كلمته للصحفيين (١٣ يونيو ٢٠١٩) ..

  وبعد انقلابهم  على حلفائهم المدنيين في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ ، وتشبُّثاً بالسلطة ، وحتى الآن ، يعملون على قتل الشباب «المتظاهرين السلميين» ضد انقلابهم ..

هذه الجرائم المُوَثَّقة في هذا الكون الإلكتروني الصغير مادةً أمام المحاكم المحلية والدولية المختصة ، فرضت نفسها في عقل تلك القيادات العليا (البرهان/حميدتي ومن معهما) ، الهروب من تبعات تلك الجرائم ، هدفاً مقدماً وأساسياً في تمسُّكهم بالسلطة .. حتى عندما جاء أوان المسودة الدستورية الانتقالية طرحت تلك القيادات العسكرية ذلك الهدف (حصانتهم من المساءلة الجنائية) شرطاً اساسياً للموافقة والتوقيع ..

الآن ، وبعد أن استوثق المكون العسكري تماماً من أن قوى الثورة (المدنيين) لن يتوحدوا حتى أمام أخطر المخاطر المُحدقة بوطنهم ، أخذ يطرح عدم وحدتهم سبباً للذهاب إلى انتخابات مبكرة .. هذا وقد التف حوله كل من له مصلحة في الانتخابات المبكرة التي تضمن لهم استمرار النظام الساقط تحت لافتات أخرى ، التف حوله ذوي المصلحة في القضاء على ثورة ديسمبر ٢٠١٨ والحؤول دون تحقيق أهدافها ..

هذا ، وتجربة الثورة وقواها مع القيادات النظامية الحالية (المكون العسكري) لا تحمل إلا معاني الغدر والخيانة والبطش كما حدث للوثيقة الدستورية ٢٠١٩ رغم سوءاتها ، وما حدث ولا زال يحدث للمظاهرات السلمية المعادية لانقلاب البرهان/حميدتي في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ ..

أما بالنسبة للمكون المدني عند التفاوض مع العسكريين فإن الملاحظة الأولى حوله هي أنه منقسم إلى كُتل مختلفة وليس جسداً واحداً كما كان عند سقوط النظام في أبريل ٢٠١٩ .. والملاحظة  الثانية هي أن كتلة واحدة محددة من تلك الكتل المدنية (قحت/المجلس المركزي) هي الكتلة المُعتَرَف بها عند المجتمع الدولي ومحيطنا الإقليمي للتفاوض مع العسكريين .. ولما كان الواقع بين الكتل المدنية مشحوناً بالتوتر والاتهامات الغليظة والظنون فإن السؤال الذي ينتصب هو : هل المجلس المركزي يمثل كل قوى الثورة ؟ ومن الذي فَوَّضَهُ للتفاوض باسم المدنيين مع المكون العسكري ؟ وهل اصلاً وافق المدنيون على مبدأ التفاوض مع العسكريين ؟ وهكذا …

تلك معادلةٌ يزيدها تعقيداً أن الثلاثين عاماً التي حكم خلالها الاسلامويون ، بمفاهيمها ومناهجها ، قد أنتجت ثقافةً شوَّهت مجتمعنا وحرَّفت رؤيتنا لكل شيء ؛ للدين وللسياسة والمجتمع . ومن أهم مظاهر تلك المعادلة المُعَقًّدة هذا الضعف في الأداء السياسي ، في صميم الحركة السياسية ورؤاها التي ترفض أي لقاء بين بعضها البعض وتترك للظنون والأوهام أن تسود علاقاتها : الوطن يحترق ويتمزق ، يجول فيه الأجانب ،  يعبثون بتاريخه واقتصاده وجغرافيته ، ثورة أهله الجبارة في مهب الريح ومعها آمالهم في حياةٍ حرة ،  كريمة ومتطورة :

– فهل من ( كبيرٍ ) يطرق باب الآخر ؟

– وهل من شجاعٍ يدعو الآخرين لجلسة تفاهمٍ ومصارحةٍ وتسامح ؟

– أم أن وقتاً ثميناً آخر سيضيع في إنتظار الصعود الحتمي للأجيال الجديدة إلى سدة القيادة في الأحزاب الديمقراطية  فيمتليء الجو الوطني حباً وتسابقاً في رفعة الوطن  وعزة الشعب ؟ ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق