
بشرى بن فاطمة
تمكّن الفنان التشكيلي السويسري فرانسوا بورلاند أن يكسر حواجز التصنيف بالابتكار ويطرح تصورات جديدة للفن المعاصر الذي يقدّمه، فقد استطاع أن ينشر طموحه الفني المجدّد دوليا من خلال طرح تعبيرات مختلفة الدلالات غيّرت المفهوم العام للرسم وجمعت أكثر من نمط فني الرسم والغرافييتي والنحت والتدوير ورسكلة الخامات الجاهزة ما أدى إلى تقديم أعمال فنية تواترت فيها الغرابة مع الفانتازيا مع الابتكار، والتمازج الأسطوري مع معتقدات الشعوب القديمة، استنادا لمراجع إنسانية مختلفة.
فقد كانت براعته جمالية ومتفرّدة في إعادة تدوير الخامات وتحويلها من مجموعات خردة إلى منشآت فنية ضخمة دمج معها الفوتوغرافيا والخط والحفر والنحت والرسم التجريدي والنقوش الكثيفة في فوضى مبعثرة وممنهجة حسب رغبته الحسية ما أضاف لها روحه التصويرية التي توافقت معها الجدليات المفهومية كعلامات جديدة اعتمدها لتكون محاورات بين الأصناف الفنية التي تشدّه للأرض كي يلجأ لها في ثباته ويدفعه عنها انفصاله عن كيانها الجديدة المجبول بالتلوث والحروب.
يطرح بورلاند مواقفه من الواقع فنيا حيث يعيد إحياء ذاكرته الطفولية وبناء رؤاه السياسية من الحروب والتشريد ارتكازا على تلك الظلال الداكنة التي تقسّم العالم وتضاعف النزاعات والصدام المفتعل، غير أنه ورغم ما يشعر به تجاه البيئة والأرض لا يقدّمها بشكلها السوداوي الدافق في الرتابة القاتمة والصخب المزعج، بل يُعيد سردها بروح مرحة وبحنين مُبتكر وتفاعل صبياني يبالغ في إبراز تلك الطفولة البريئة الهادئة التي عاشها والتي تصادمت مع كل المشاهد التي علقت في ذهنه واستوطنت أفكاره وشوّهت خياله وهو يبحث عن المكان الآمن الذي يعايشه ويتفاعل معه إنسانيا بحواسه الذهنية.
رغم أن بورلاند يعبر عن مواقفه من التلوث والحروب والنزاعات إلا أنه لا يقدّمها كمواقف من التوجهات السياسية بل يكتفي بالتعبير عن انتمائه للإنسانية ورغبته في السلام لأنه ينجز أعماله بالتوازي الروحاني الذي يبالغ فيه في التماهي مع روحه المرحة بأكثر ابتكارا حتى يتمكن من أن يعيد تكوين أيقوناته الفنية وخطوطه التي تتجرّد من الصورة وتساكن الفعل والحركة في تكوين الفراغ بالعمق الداكن والدوائر الساكنة والخطوط الضجرة.
يلعب الماضي والتذكر والحنين ورؤى الخيال الطفولي دورا هاما في تكوين فلسفت بورلاند البصرية خاصة وأن له اطلاعا على الحضارات الإنسانية ورغبة في تطويع العنصر التشكيلي تجريديا حسب رغباته الجامحة في فرض السلام والسكينة على اللوحة، فرغم فزعه من تناقضات العالم وتصورات الحرب والسلام وانعكاسات الاستهلاك على البيئة والتلوث الضارب في عمق الأرض يحاول أن يجد له تعابير ممكنة وقريبة مثل النقوش والخربشات وأوراق التسوق والشعارات الورقية التي تحمل في معانيها توازنات بين الموجود والمنشود والمستقل والمقيّد، وهنا يستنجد بأبطال الأساطير السويسرية القديمة والخارقين من شخصيات التاريخ.
فيعيد بهم ترتيب الحركة الداكنة التي يشكّلها من خلال الكتل اللونية الترابية والخطوط التي تخترقها، بالتوازي مع الصياغة البصرية المنشودة، فهو يضع المتلقي في حيرة من أمره ويحاول معه أن يستعيد تفاصيل انسجامه الداخلي والنفسي مع ذاته حيث يشترك في صياغة انتمائه الحر لذاته المحلقة في عوالمها الواسعة.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections