
قضايا الانتقال الديمقراطي : التحديات الماثلة (11)
*طارق زيادة صالح سوار الدهب…
لقد نجح الحراك الثوري، بمد خيوط جديدة نابذة لغرور التعنصر، و الذي للأسف نشهد بالآونة الاخيرة، تصاعدا لإذكاء نعراته بالأفعال و السياسات المشبوهة، من قبل كل الاطراف لقد ساوت ايام ديسمبر المجيدة بين دماء المركز و الهامش و وحدت مصير و احلام ثلة طليعية من النخب الشابة المهنية، لطبقتها الوسطي المتمدنة مع سواد غالب البروليتاريا المتريفة الكادحة ملح ارض عمالة الحضر و موظفيه و اقنان ارض مزارعة القري، و رواعيه و ذلك بتحالف منافع فريد ضد دوائر عصب تنفذهما سواء كانوا بالعواصم او الاطراف…المناظر لم تعد متصورة متخيلة بعيدة، بل بدايات لائتلاف معتصم جماهيري سياسي بقلب الوطن لمتعين واقع بكل خام مكوناته و اهدافه الجامعة المتعالية عن رسوبيات متحجر جزيئاته المفرقة، و لكن ما تلبث بعد برهة وجيزة ان تعمل قوي قديم مستحكم بالداخل و الخارج علي وأد بداياته و عرقلة نماءه…الحراك الديسمبري كان بالدرجة الاولي من اجل استكمال مأسسة الوعي الثوري بالحريات و السلام و العدالة و الحق بالكرامة الانسانية، و هي ان بدت شرارتها المشعلة مطلبية ( معاشية، خدمية ) لكنها سرعان ما تكثف زخم طاقتها و تمخض دفع طلقها نحو مطالب و مهام سياسية، هي مشروع لثورة: الطبقة الوسطي بالمقام الاول متمثلة في يسار و وسط القطاع الأعلى لشباب مهنييها من ( الاطباء و المهندسون و تقانيي الاتصالات و المعلومات و اساتذة و طلاب الجامعات و التعليم العام…الخ ) …و هي مشروع لوعي: بالحريات الليبرالية الشخصية و العامة، ليس انفعالا بفكرويتها ( البرجوازية ) و انطلاقا من محدود محتوي رؤيتها و محددات مؤشر مصالحها الطبقية فقط، فذلك موضع شك و تساؤل ( امبيريقي: مجتمعيا ) لجهة حقيقة تشكلها و طبيعة علاقاتها بالأساس، و بالتالي صلاحية مناهجها المفسرة، و وعيها الانساني بذاتها التاريخية و دور مفاعيلها بالمجتمع و السياسية، و هذا درب طويل شاق لدرج من ارتقاء محمود علي صعيد نظر اشمل لما يمكن ان يسهم به السماح لتشكلات مشروع الوعي الثوري الجديد من حق انتظام مطلوب و ما يتيحه من رتبه بناء مفاهيم مرغوب، اذا افسح لها مجالا طبيعيا للنشوء ثم التطور، بمجتمعها لتغيره، المستبدل لتراكيبه و هيكله لاصطفاف تقدمي و لقوي حية ناهضة تدفع به تباعا نحو مستقبل علاقات المصلحة الموضوعية، لا سائد الولاءات التقليدية، اللذين يؤهلانها لارتياد مصاف السير نحو المدنية و يقعا من بعد ذلك تحت طائلة موضوعات مناهج و اداة تحليلها المصنع لتكتسب به وارد مصطلحاتها الطبقية الاجتماعية مشروعية لمأسسة دولها و لصراع شائك علاقات انتاجها بمدلولاته الاقتصادية و الاجتماعية دون ان تتخلي بعدمية مجانية عن واقع لا حداثوية ثابت ابنية مجتمعاتها التقليدية، و لكن باستمرارية متراكمة و ارادة سياسية و رغبة متزايدة تأمل بإحداث الفارق بالعمل المدني، لمحاصرة تحديه بدءا بمرحلة الانتقال، و انتهاءا بتحوله الديمقراطي…هي ثورة وعي بالحريات الليبرالية، ايضا من وجه اخر بالنسبة لهؤلاء المحرومين من التمتع باي من منافعها سواء: بالتعبير الثقافي و الاعلامي او الحق بأبداء الراي الاخر و الانتظام النقابي و السياسي المعارض او المغاير وفقا لذلك، او حتي اظهار قليل مختلف السلوك الشخصي و الجمعي، و المظاهرة بايهما بما لا يوافق علنا نظمها العامة ( المسيسة ) هذا الحرمان المعطل للطاقة و الدافع كان مدعاة عندهم لياس و قنوط، و سببا منطقيا و وجيها، يقايسون به كل حالهم و يضاهونها بأوضاع اشباههم من بعض تجارب من حولهم بالاسافير بالأقليم و العالم و يطرحون علي ذواتهم العاقلة و ما وصل اليه مجتمعها المغيب و دولته القامعة؟…التساؤل الوجودي، لماذا نحن لسنا كهؤلاء؟ من سائر افراد الامم و البشرية المتقدمة جمعاء؟ بنحو و بسمت قيم، و كأنها لا تسري فينا و لا تنطلي علينا احكام سننها الماضيات؟…و من تجلي قواعدها الهاديات، و لأنها ثورة وعي منفعل بمبدئيات الحريات، متقدمة درجا ملتحمة بمعاشيات الخبزيات، فلقد اتكأت و استندت علي مفاهيم المبدئية الاولي، فكانت الموجة الثورية الديسمبرية بطور نسختها الحالية و بما تواضع به سقف تطورها و ما سمح به ظرف تشكلها و توازن قواه…من ان تكون ( عقلانية ) من زاوية نظر صائبة و محدودة باتخاذها منحي سلميا متدرجا، و لكنها ايضا ( عقلانية ) مجتزأة، فهي ( معقلنة ) الادوات و الوسائل بصحيح اعتمادها علي مناحي العمل المدني و لكنها منتقصة بغياب مشروع مفتقد لاستكمال ( اعقال ) الوعي بمضامينها و اهدافها و هي حتي الان كذلك، و لكن هل حال الانتقال سيظل علي قواعد مرحلة ( سكونيته الثابتة ) و التي يمكن ان يكون استمرار( ثباتها الساكن ) و الحفاظ عليه من مصلحة قوي الماضي، بما يعرقل من تغيير و يبطئ من اصلاح قوي المستقبل و يفتعل من معارك سياسية و يستنزف من موارد اقتصادية، و من قبلهما المجترح لخطابه و اسلوبه المعاكس و خطته المضادة، فكل الخشية مع تفاقم الاوضاع الاقتصادية المعاشية، و ترديها غير المحتمل و تخطيها حاجز احتمال حدود الشارع الدنيا و الاصطبار الشعبي العليا، خصوصا في ظل تربص معادي و افتقار للإرادة السياسية و سوء محلي للإدارة الداخلية، و خذلان خارجي من محيطها الدولي…
ان ازدياد حده هذه العوامل السالبة مجتمعة و تفشي اثارها الاجتماعية المدمرة و شيوعها الكاسح…هي التي ستعجل من الصدمة بوقع الصاعقة و بطعم الدهشة المر، بدون مقدمات بهذه الجولة من مجيء مستقبل بما لا يتصور: انها الثورة الراديكالية، ثورة الجياع العراة بالغضب النبيل، و هم يتدثرون رداء السماء و يلتحفون وساد الارض بأحزمة من البؤس المترهل حول خواصر المدن، و هي الفوضى العارمة المحطمة لكل او بعض من هيكل البالي القديم، و لكنها بنفس الوقت العاجزة عن التشييد الخلاق لجزء منه و لو من يسير المأمول القادم، و هي هذه المرة لن تبقي احدا و لن تذر و لن تستثني أيا من مكونات المشهد الوطني الحالي بشقيه: المدني و العسكري، بل و لقواه و اطروحاتها السوسيو_سياسية، و التي لن تجد لها عاصما من ان يلحق بها مصير حصاد نظامها المباد، و خراب تجارب تحزبه الا خروجا من ركامها، بمشروع و منظومة لما بعد الثورة، يحصناها من فشل يبقيها دوما اسيرة بمحطة التأزم الاقتصادي و السياسي و يمنعها انحدارا يسقطها بهاوية لا تستطيع معها عبورا لانتقال ديمقراطي، فلا يبارح او يكاد الراهن الوطني الا ان يصدق علي كله السياسي قولا واحدا فيه فصل الخصام و الجدال، لزمن ربما:
(They Will Knock Them All Out) و قد ينتصب من ببن خضم المعاناة الاقتصادية المعاشة بين الناس، تساؤلا عن جذر الازمة؟ واصلها المستفحل، و هل من سبل لخروج من نفقها المظلم الذي اوردتنا موارده سياسيات العهد المباد؟ فمن بعض اوجه الازمة الكالحة: ان الانقاذ كانت تدير شانها الاقتصادي ليس بالضرورة من خلال النظر الشمولي الراشد و حزم المعالجات المتكاملة لقضاياه الكلية بل علي خلاف ذلك بوسيلة المخاطبة الترقيعية التجزيئية لمظاهره الفرعية، التي تتعامل مع حادثاتها، فصلا بفصل و يوما بيوم، دون انتباه او التفاف لما قد تهدم لتبني او تحطم فقط لتتجاوز ضيق اقتصاد و ضغوط سياسة هي بالمقام الاول من صنعها الذي لا يسعفها خيالها القاصر و رؤيتها لمصالحها المحدودة من حل لها الا بشراء اول للوقت وترحيل الازمات و تفويت الاقتناص التاريخي لفرص المبادرات او بشراء اخر لرشي الولاءات السياسية و الاقتصادية: المسوفة لزمن خروج البلاد و المواطن من دوامة تردي الاوضاع و الاستلاب الاقتصادي و التشيوء الاجتماعي، و المطيلة لزمن بقاء النظام بفعل الارتهان السياسي الناتج عن تطاول الزمانين و عائد الشرائين وعن ناتج ثان بفعليهما لا يقل اثرا، من ادراك منه مختل، يحاول تصوير ازمات هذا النظام الايدلوجية و الاقتصادية السياسية ( الخاصة ) و العميقة، بل و حتي التنظيمية الحركية و كأنها ازمات وطن برمته يستدفع رخيص مكاسبها الحزبية الضيقة، بثمن غالي من رصيد قدرات و مقدرات الوطن و يحمل عبء تكلفة باهظة لبقاء النظام و دفاعا عن مزاعم ( متاسلمة ) يسعي لتحققها الواقعي بمتوهمات امانها: الاستراتيجي الاقتصادي و السياسي الذي يتسمى نظريا بالوطني، و يسوق علي انه كذلك و يروج علي نطاق ( بروبوغاندا ) فكروية اعلامية واسعة بتطابق لازم لمعركتي الوطن و الحزب و بمتعدي ارتباطهما الازلي الاوثق بقضايا العقيدة التي لا يجوز الخروج علي محارمها و التعدي علي حدودها…. سيحافظ علي كل ذلك من خلال استنساخ دوري شبه يومي، تدار به عجلة اقتصاد بحبائل حيلة من قواعد محكمة ل: ( اللصوصية الكبرى ) احداها لصوصية وطنية، ثانوية تابعة تتم داخل الوطن تتوزع و تدير منتهبها من موارد الوطن وتتقاسمها داخل دوائر محاسيبها و نفوذها: المناطقي، الاثني، السياسي، و تاليها لصوصية عبر وطنية، رئيس اصلية، تتسيد مناشط الاولي، تتوزع و تدير مستنزفها من موارد الوطن لصالح خارجه، تستثمر فائض اموالها به و لفائدة دورة رأسماله الاقليمي و الدولي ستدار ماكينة الاقتصاد ايضا بروافع متداخلة، متشابكة: لاقتصادين صوري رسمي و حقيقي موازي بينهما علاقات تقاطع و تقابل و لعل في محاولة استكشاف حدود طبيعتها و خباياها اجابة عن سؤال كيف كان و مازال تدار و توزع الادوار داخل كليهما؟ و كيف اتاح لها ذلك خصوصا، بعد اسرع عملية دخول و خروج من عصر النفط، دون احساس من مواطنيه او منافع تعود عليه في معاشه و خدماته بصورة مباشرة او مشروعاته الوطنية العظمي و التنموية المستدامة الجامعة بصورة غير مباشرة، فهو ان كان يدار قبلها بقوة الايدلوجيا المسيطرة و اسلحتها التمكينية القامعة، بتوازنات رعبها و صرامتها التنظيمية المتحكمة في كل مفاصلة لمصلحة اقتصاديات دولة الحزب الاوحد، فانه بعدها و علي اثر انسداد و توقف سيل انبوب المضخ النفطي الذي اصابت منه مرتعا سهلا منبسطا دون تعب او نصب و خريفا متطاولا مسروقا دون خشية من ضمير او حقوق جيل، لتفرط بخيانة، و لامبالاة في ثروة و وحدة وطن حتي تبقي وحدها بالساحة باي ثمن، عقب افتضاح زيف سوق افكارها الاقتصادي، طهارة اخلاقها الثورية المدعاة، بشعارات عهدها الاول…الواضح ان احدي اليات ادارة الاقتصادين المصطنعة، هي في القدرة علي انكشافهما و تضاغطهما المرن المتواصل علي مقدرات مجال ( الاجرام ) الاقتصادي المشترك بتبادلية نشاطيهما، الصوري المحدود و الموازي الواسع…>>>يتبع.
*كاتب صحفي و باحث في مجال دراسات السلام و التنمية وعلم الإجتماع السياسي…