بدوياترواياتسلايدر

سيدة الخنادق سارة

رواية صدرت عن دار بدوي للطباعة والنشر والتوزيع


د. محمد بدوي مصطفى
info@badawi.de

تتحدث رواية سيدة الخنادق سارة، عن أمور نعلمها لكننا لا ندرك مراراتها، أو لنقل الأغلبية لا تعرف قسوتها وحنظلها، تروي عن السجين والسجاَّن، وحوارٌ يدور حول قطيعٌ مشوه الفضيلة، وأحلام إنسان عابر وجد سعادته وراء محراثه ورائحة عندما يتآتي إليه عبق الحقول، أو حينما قطرات الطل وسلسبيل المطر. يتساءل في سردية أدب الحرب، بتميز وتفرد عن ماهية الحد الفاصل بين التناسي والانتقام. يسترسل ليناجي أسفار الترحال عن مدن الشمال، حيث تلتقي الآلام والآمال والنجوى.

حسبنا إنها مستوحاة من أحداثٍ حقيقية وفي المقابل هي تبحث في المناجاة الأزلية التي لم تكشفها صورة ولا صوت . هي مناجاة المنسيين القابعين تحت سطوة ظلم الجشع الآدمي الفاني. أحسب أن القارئ تواق إلى أن يحيط علماً بما يتردد على لسان البعض عن ليالي المطارق في هذه الرواية. ولكن ليس ثمة للمهزومين أسمى من الخيال ليتبعوا سارة ويقيمون محكمة العدل والقصاص في دجى هذه الليالي التي يمثل فيها الجلاد ويقوم في صناعة نعشه بنفسه ويستلقي فيه طواعية ضمن إطار حوارٍعن البعث والجزاء، عن الغريزة الآثمة وأحزان الفقراء، هكذا إلى أن تهوي المطارق لتحكم إغلاق النعش.

الجندي الثمل يغني ويحمل سارة أن تشاركه الغناء السمج:
“في ظُلمَةِ قِفارِ الجَنوبِ نفخت الريح بغتة مَزيجُاً من نَبيذ الجُنودِ السَّكارى وعَفَن أجساداً متفسخة. ما تَزالُ سارة تُغنِّي بينَما تَصْطَكُّ أسنانها منْ شِدَّةِ البَردِ لِيتَرَنَّحَ صَوتُها مُثقَلاً بِالنَّشيجِ الجَافِّ فيَتَفَرَّسُ الجندي في وَجهِها مَلِيَّاً. لم تَكنْ لِتُدْرِكَ مَعنىً آخرَ منْ أشكالِ الأَلَمِ إلَّا عِندَما بَاغَتَها بِعُقبِ البُندُقيَّةِ في بَطنِها الجَوفاءِ النَّحيلةِ ولم تحظ بِفرصَةٍ للِصُّراخِ إذا ما انهال عليها بالضرب تارة وبِعُقبِ البُندُقيَّةِ تارَةً أُخرى، وما أن انتهى منها حتى استقام في وقفته مزهواً يَتَمَطَّى فاغِراً فَمَهُ متثائباً. يَقومُ بِتَرتيبِ بزته العَسكَريَّةِ في خيلاءٍ ويُغادِرُ وهو يَقومُ بالصَّفيرِ الَّذي يُحاكي زَقزَقَةَ العَصافيرِ.”

آدم الفتى القروي العاشق، يتحدث إليه آمر السجن:
ـــ آدم؛ ماذا تَعملُ في القَريةِ الشَّرقيَّةِ لِكَسْبِ العَيشِ؟
ـــ صانع توابيت في وَرشَةِ خالي نَجَّارُ القَريةِ.
ـــ أنتم لا تَدفِنونَ مَوتاكُم في نَعش.
ـــ نادِراً ما نَقومُ بِذلكَ، إنما تَسْأَلُنَا الثَّكنةُ العَسكريَّةُ بأنْ نَصنَعَ التَّوابيتَ لِمَوتاهُم مِنَ الجُنودِ.
ـــ إذن يمكنني القول بِأنَّكَ ماهرٌ في حِرفَةِ الفَنِّ وحِرفَةِ المَوتِ!
ـــ أمَّا بِشأنِ المَوتِ فأنا لا أَقوَى على صِناعتِهِ، ربَّما أُجيدُ طُقوسَ الوَداعِ هذا كُلُّ ما في الأمرِ.
ـــ عنْ أيِّ جمال تَتحدَّثُ أيُّها الأحمَقُ آدم، تَمعَّنْ في هؤلاء السجناء وأخبِرني أينَ الجمال الَّذي تَدَّعي؟ ما الجمال الَّذي بِحوزَتِهِم الآنَ هيَّا أخبِرني! أيُّها الأبلَهُ لقد كانوا يُجبِرونَكُم على الجُلوسِ والاِستِماعِ كالخِرافِ لذلكَ المُعلِّمِ المعتوه الَّذي يُحدِّثُكُم عنِ الخَيرِ والفَضيلَةِ. تُردِّدُونَ كَلماتِ الشِّعرِ وحِكاياتِ الجَدَّاتِ السَّخيفَةِ صَباحَ مساءَ. يا آدم، بينَما نحنُ كُنَّا منشغلين في حَشْوِ بَنادِقِنا بالذَّخيرَةِ هم كانوا يَحشونَ رُؤوسَكُم بالهُراءِ. أيُّها النَّكرَةُ، خَيرُ فَضيلَةٍ تُقدِّمُها في الحياةِ لنَفسِكَ هو أنْ يكونَ في جيبك دِرهَما براَّقاً ورَصاصَة وإِلَّا سَوفَ تُسحَقُ بِالأقدامِ كَدودَةِ الأرضِ أيُّها المُغفَّلُ الباحِثُ عنِ الجمال.
ـــ سيدي، التفاصيل العابرة هي جُلُ ما يُلقي به إلينا الجنوب من فتات آمالٍ وأمنيات. أحلامنا ليس بوسعها أن تكبر وغالباً ما ينتهي بها الأمر أن تحتضر على جادة الكد والشقاء. نعم لم يتبقى لي سوى الإصغاء إلى صَوتُ أُمِّي تَتْلو صَلاتَها فَجراً أو رُؤيَتُهَا وهي تُغنِّي إلى رَغيفِ الخُبزِ حيثُ يَتهافتُ إليهِ إِخوَتي الصَّغارُ ويَتعارَكونَ لِلحُصولِ عليهِ. أو إذا ما هَبَّتْ الرِّيحُ ذات مساء تَحمِلُ عَبَقَ الحُقولِ الوادِعَةِ وأغان لصبية يقودون الماشية عبر التلال. ربما هي رائِحةِ العُشْبِ الوَديعِ تَحتَ المَطرِ. أو مَواسِمُ الحَصادِ وقَناديلٍ تَتَدلَّى بينَ أعراش الكُرومِ. هناكَ صَخَبُ الرِّفاقِ فَوقَ الطُّوفِ الخَشَبيِّ السَّارِحِ بينَ ضِفَتَيِّ النَّهرِ، وإذا ما اِختَلسْنا حَبَّاتَ الرُّمَّانِ في غَفلَةٍ منَ البُسْتاني أو رُبَّما صَوتُ جارَتِنا الجَدَّةِ العَجوزِ وهي تُمازِحُ الرِّفاقَ إذا ما مَرُّوا بها وتُمْطِرُنا بِوابِلٍ مِنْ صَلواتٍ إلى أَنْ نَختَفي في أزِقَّةِ الَّليلِ.

تقف ناديا إلى الجدار الرطب تضع جبينها عليه وتغمغم إلى نفسها:” لهفي عليك يا آدم. لقاء يجمعنا هنا كان عهدنا كلينا. آدم أيها العابر قبل مواسم الحصاد، كيف لك أن تغادر قبل أن تطرز ضفائري بالسنابل والأقحوان! من سيقوم بالغناء المزعج في أعراس البيادر! من يهز أرجوحتي إذا ما تدلت من غصن سنديان! كيف لك أن تجعلني محاربة قبل الأوان.”

شكر وامتنان

وكما هذا الكون متجانس بإحكامٍ في المنطق والتأثير أزلي التقدير، لم يكن اللقاء مع الأديب الدكتور محمد بدوي محض صدفة، بل تقدير إلهي بكل ما فيه من تجانس الرؤى والتأثير حيث أغدق على نفسي المتواضعة بكل ما يحمله من زادٍ أدبي ثري النصح وناصع بطبعه القريب بما يحمله من إنسانية نبيلة. امتناني لكل ما قدمته لي من جميل الثناء والدعم.

عبدالله مرير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق