
مضيفة طيران
أحمد الونزاني.
بوكماس، في الأطلس المتوسط نشأت لطيفة و شب عودها قبل ان تتوجه صوب الحمراء لتستقر هناك و أسرتها لظروف عمل والدها ك رجل شرطة بعد فجر الاستقلال. التحقت، لطيفة بالمدرسه الابتدائية للبنات آنذاك و حصلت على الشهادة الابتدائية و هي في سن مبكرة ثم التحقت بالمدرسة الإعدادية والثانوية و حصلت على شهادة البكالوريا بتفوق. كانت رشيقة و جميلة أو طوب موديل زمانها. سرعان ما اجتازت اختبارات مضيفة طيران و تم اختيارها بشكل فوري بعدما حصلت على المركز الأول في الاختبارات الأولية.
دخلت لطيفة اول تجربة عملية و جديدة في حياتها، بعدما أتممت حصص التكوين و التدريب على مهنة مضيفة طيران بتفوق كبير ، و قد كانت تعتبر مهمتها إنسانية بالدرجة الأولى .
تغير نمط حياتها كليا، تنتقل من مكان إلى آخر، لا تعرف الاستقرار و لا الدفئ الأسري، طواف دائم بين البلدان العربية و الأجنبية في رحلاتها الأسبوعية. رحلات جوية بشكل دوري في اتجاه القارات الخمس . أخذ عملها الجديد كل وقتها و كانت بالكاد و على عجل تقضي بعض الوقت مع أهلها، عاشت حكايات و طرائف و مواقف غريبة أثناء مزاولة مهمتها ك مضيفة طيران، كما تعرفت على أصناف و أنواع من بني البشر ،عجما و عربا و من مختلف الجنسيات و الأعراق الأخرى. كما خبرت كل ما يدور في محيطها المهني، أسراره و خباياه و ما خفي كان أعظم.
و قد عاشت ،قصص و حكايات و طرائف و غرائب و مواقف كثيرة، و في أماكن متعددة من مختلف القارات. كما خبرت اختلاف العقليات بين العرب و العجم، فيما يخص النظرة للمرأة في هذه المجتمعات، بين الدونية و المتاع و الندية و الاختلاف أو مجرد شيء( Objet ).
ففي اول رحلة لها إلى الشرق الأوسط، تعرضت للاختطاف من طرف سائق سيارة الأجرة الذي طلبت منه توصيلها إلى أحد الأسواق المشهورة في مدينة الرياض. كان ينظر إليها بعيون ماكرة و يسألها عن بلدها، كانت لا تجيبه بما يريد، فقد ظنها تونسية و بعدها جزائرية لكنها كانت تجيبه بالنفي، و أخيرا ظنها فرنسية، كانت سيارته قد تجاوزت حدود مدينة الرياض باشواط بعيدة، كانت توجساتها صحيحة، و فهمت بأنها تتعرض لعملية اختطاف، كان صراخها قد ملئ الدنيا لكن لا مغيث، فتحولت من حمل وديع إلى لبوءة شرسة انقضت بمخالبها على ضبع قذر و كادت السيارة تنقلب على إثر ذلك، و ما كان من ذلك الضبع الذميم إلا العودة بسرعة كبيرة إلى داخل مدينة الرياض و التوجه إلى حيث طلبت توصيلها، لكنها أصرت على توقيفه أو القفز إلى خارج السيارة، كان موقفها هذا مربكا و مفاجئا لذلك الضبع المتعطش لأكل لحم الجيف، و فعلا عاشت لطيفة لحظات رهيبة و عصيبة و لم تستعيد هدوؤها إلا بعدما توقفت السيارة عند إشارة المرور الضوئية و انطلقت بكل قوتها نحو خارج السيارة، و ما كان من ذلك السائق الضبع إلا الفرار و النجاة بجلده، كان بالقرب من إشارة الضوء ، شرطي المرور الذي هدء من روعها شيئا ما، و أخذها إلى مخفر الشرطة حيث أدلت بافادتها حول الواقعة و تم توصيلها إلى الفندق الذي كانت تنزل فيه، و تم الاستعلام على السائقين هنالك. ظل الضبع حرا طليقا متربصا بضحاياه في مدن أخرى و متخفيا بلباس أهل الورع و التقوى كل مرة.
كانت تستبدل رحلاتها إلى الشرق الأوسط، مع زميلاتها الذين يفضلون العمل في تلك الاتجاهات، لما يحدث معها أثناء تلك الرحلات الجوية و أثناء إقامتها في تلك البلدان العربية. التحرش بالفتيات و اسلوب الاغواء المقيت و اعتبار المرأة ك مجرد متاع ،فقط للاشباع الغزيزي.
إلا أنها كانت ترتاح كثيرا و هي تؤدي مهمتها في دول أمريكا اللاتينية و كندا و أوروبا ،خصوصا في ألمانيا، حيث تحظى المرأة بكل الإحترام والتقدير ولا تتعرض لمضايقات السفلة من الرجال.
لطيفة المتفانية في أداء مهمتها بكل أدب و احترام وتقدير للمسافرين، تسهر على تقديم خدمات من المستوى الرفيع و بإنسانية يندهش لها الجميع، لا تتورع عن تقديم خدمات فوق العادة ك مساعدة المسنين و العجزة عندما تحصل معهم مشاكل في اللحظات الأولى من إقلاع الطائرات عند أول رحلة جوية لهم. كانت تقوم بالواجب و أكثر، خدمات تمريضية و نفسية.
أخذها عملها الجديد كثيرا عن احبتها و أصدقائها و عائلتها ،لكنها كانت عند أول فرصة أو إجازة تزور أمها و اخوتها و تغدق عليهم من الهدايا و العطايا الشيء الكثير، بل كانت ترسل حوالات مالية إلى عائلتها بانتظام. من كيبيك إلى الدارالبيضاء و من الدارالبيضاء إلى واشنطن و من الدارالبيضاء إلى برلين و من برلين إلى اورلي من اورلي إلى بيونس ايرس و دبي و الدوحة و الرياض و مسقط والقاهرة و جدة و أنقرة و بوردو وكل مدن العالم التي زارتها و مرت بها ذات يوم.
عشقت لطيفة السفر كثيرا، و وجدت فيه راحتها و بغيتها في التعرف على تاريخ حضارات مختلفة من هذا العالم الذي أصبح ك قرية صغيرة بفضل التقدم التكنولوجي في مجال الطيران الجوي و بفضل وسائل التواصل و الفورة الإعلامية التي عرفها العصر الحديث.
كانت تهوى القراءة والكتابة و لهذا فهي لا تمل من زيارة المكتبات الكبرى، و تحرص على اقتناء الكتب الفكرية والسياسية و التاريخية و كان هذا يساعدها في حسن التواصل مع الآخرين و تفهم متطلباتهم و احتياجاتهم و سبر نفسياتهم، قوة ملاحظاتها جعلت منها انسانة فوق العادة، تتوقع منها كل شيء ولا شيء في آن واحد.
في صيف عام 2011، رن هاتفها و هي على وشك الإقلاع نحو مدينة اورلي الفرنسية، كان الخبر مؤلما و مفزعا في نفس الوقت، انطلقت بسرعة لتعود ادراجها لتدرك جنازة أبيها الذي فارق الحياة ذلك الصباح و في ذلك اليوم المشؤوم. عاشت أطول ساعات عمرها و هي متجهة إلى الحمراء، وصلت بعد صلاة العصر لتجدهم قد عادوا من دفن و تشييع أبيها، زاد ذلك من حزنها و هي التي كانت ملتصقة به منذ نعومة اظافرها. كان ابوها، يحبها كثيرا فهي تشبهه إلى حد كبير و ورثت عنه صفات حميدة ك الشجاعة و النبل والجود و حب الخير و الإحسان للناس. عانت كثيرا من جراء ذلك الفقد و اهتزت نفسيتها و كان قرارها الأخير وضع حد لمسيرتها المهنية و ملازمة امها و رعايتها حتى آخر رمق من حياتها.